القاهرة 10 يناير 2017 الساعة 12:48 م
ربطتني علاقة لها خصوصة حميمية ، أعتز وأفخر بها ، مع قداسة البابا "المتنيح" شنودة الثالث ، ومنذ أول لحظة في أول لقاء معه في صيف 1995 بالمقر البابوي ، وامتد نحو ساعتين ، وكنت محرجا من طول الوقت ، ولكن ابتسامته الحانية، و" قفشاته" المصرية الضاحكة، كانت تأذن ليّ بالبقاء .. ثم توالت لقاءات عديدة ، تحدثنا فيها ( وربما لأول مرة في حياة قداسة البابا ) عن ذكريات شخصية وعن النشأة والتربية في مركز أبنوب ، بمحافظة أسيوط ، ونحن ننتمي معا لنفس المكان .. وكيف قامت بتربيتي سيدة مسيحية فاضلة، كانت حريصة أن أذهب معها إلى الكنيسة.. وكيف أرضعت سيدة مسلمة الطفل الوليد ( نظير جيد ) وهو قداسة البابا، بعد وفاة والدته عقب الولادة .. وأذكر أنه قال : أنا ليّ خمسة أخوة وأخوات مسلمين (بالرضاعة) .. فقلت لقداسته : بالطبع لهم الفخر أن أخيهم أصبح قداسة البابا .. وضحك كثيرا .. وهذا حديث يطول شرحه فيما بعد .
ونحن تحدث عن أبناء مركز أبنوب .. قال قداسته، إن العلاقة التي جمعت بين الرئيس جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس، هي علاقة صداقة غير مسبوقة في تاريخ مصر، علاقة رفعت الحواجز والرسميات ، بين "القديس" و "الزعيم" ، وكان يزور الرئيس في منزله بمنشية البكري، متى يريد ، وكيفما يشاء، ويتصل به في أي وقت ، بل وأصبحت علاقة شبه عائلية مع أسرة عبد الناصر.. حتى أن الرئيس جمال عبد الناصر قال له يوماً: " أنت من
النهاردة أبويا.. أنا هاقولك يا والدي علي طول، وزي ما بتصلي لأولادك المسيحيين صلي لأولادي، ومن دلوقت ما تجنيش القصر الجمهوري، البيت ده بيتك وتيجي في أي وقت أنت عاوزه".
وكان الرجل الكبير "عبد الناصر" يحمل تقديرا وحبا ، فوق العادة، لقداسة البابا "المتنيح" كيرلس ، ومتبسطا "جدا" في العلاقة الشخصية بينهما، وإلى تلك الدرجة التي يمازح فيها البابا، حين أراد السماح له بانتهاء الزيارة والانصراف نظراً لمعرفته بمشغوليات رئيس الجمهورية، ولكن عبد الناصر رد عليه بصيغة شبه رسمية : "موعد الزيارة لم ينته" .. وضحكا معا .. وعند نهاية الزيارة وضع "القديس المبارك" البابا كيرلس ، يده علي صدر الزعيم وهو يقول: "إني أضع يدي علي يد الرب، لأنه مكتوب عندنا أن يد الرب علي قلوب الرؤساء" فابتهج عبد الناصر .. وفي مساء نفس اليوم ، أوفد عبد الناصر مبعوثا من رئاسة الجمهورية ، ليعبر عن شكره للبابا كيرلس، فقد كان يشعر بآلام في صدره وقد زالت جميعها عند وضع قداسة البابا يده فوق صدره.
وأصل إلى موضوعي الرئيسي .. حين فكر البابا كيرلس في بناء الكاتدرائية، رمز مؤسسة الكنيسة المصرية، وكان هناك نزاع على الأرض ، منذ عام 1937، نظرا لحساسية موقعها بمنطقة العباسية، حيث حاولت الدولة آنذاك الحصول على الأرض، التى كانت تستخدم كمدافن وتحمل اسم الأنبا رويس، وظلت المفاوضات بين الدولة وبين الكنيسة البطرسية المالكة للأرض، والتى بناها بطرس باشا غالى، وأخذت شكلا من أشكال الشد والجذب، وطلب البابا كيرلس السادس، من الاستاذ "هيكل" التوسط لدى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، للموافقة على بناء الكاتدرائية على الأرض .. قائلا : نظرا لعلاقتي مع الرئيس ، فإني محرج من طرح الأمر أمامه .. واستجاب الرئيس "ناصر" للطلب، مؤكدا الدعم والمساهمة في بناء كاتدرائية "كبرى" تليق بتاريخ مصر ومكانتها في العالم، وتبرع بمبلغ 100 ألف جنيه في 1967م، كان المبلغ أيامها كبيراً، وكلف إحدي شركات القطاع العام بأن تقوم بعمليات بناء الكنيسة الكبري، والديون التي بقيت صدر قرار بالتنازل عنها في عهد عبد الناصر.
وفي صورة تعبر عن مشاعر إنسانية للعلاقة الشخصية بين البابا وناصر .. وأثناء إحدى زياراته لمنزل عبد الناصر، جاء إليه أولاده "خالد وهدى وعبد الحميد ومنى وعبد الحكيم" ، وكل منهم يحمل حصالته … وقفوا أمامه فقال الرئيس لقداسته: "أنا علمت أولادي وفهمتهم إن
اللي يتبرع لكنيسة زي اللي يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبني كاتدرائية صمموا علي المساهمة فيها، وقالوا حنحوش قرشين، ولما ييجي البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجو لا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم ، فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه علي حجره، ووضع أولاد عبد الناصر تبرعاتهم ثم لفها وشكرهم وباركهم..
وأسهمت الدولة في بناء الكاتدرائية بدفعة أخرى مقدارها خمسين ألف جنيه، كما أسهم الشعب والكنائس بتقديم تبرعاتهم لهذا المشروع الكبير، وبذلت الحكومة المصرية ووزارة الإسكان جهوداً جبارة لإنجاز الهيكل الخرسانة للكاتدرائية في ميعاد الاحتفال الذي أعلنه قداسة البابا كيرلس السادس بمرور 19 قرناً على استشهاد القديس مرقس الإنجيلى .. وفي صباح يوم الثلاثاء 25 يونية 1968 أحتفل رسمياً بافتتاح الكاتدرائية، بحضور الرئيس جمال عبدالناصر، وإمبراطور الحبشة (إثيوبيا) هيلاسلاسى، والبابا كيرلس السادس، وأزاحوا الستار عن لوحة رخامية كتب عليها بماء الذهب: «باسم الله القوى فى يوم الثلاثاء 25 يونيو 1968، الموافق 18 بؤونة 1684، فى ذكرى العيد المئوى التاسع عشر لاستشهاد القديس مرقس الإنجيلى"
واتصالا بما سبق .. وبعد نصف قرن تقريبا .. يعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي من داخل الكاتدرائية، عن بناء أكبر كنيسة في العاصمة الادارية الجديدة ، ويتبرع أيضا ــ بالمصادفة ــ بمبلغ مائة ألف جنيه مساهمة في بناء أكبركنيسة وأكبر مسجد، في الحيّ الحكومي بالعاصمة الإدارية .. وهي فيما أتصور ستكون أكبر حجما من كاتدرائية العباسية ، ولا أعرف هل سينتقل إليها المقر البابوي أم لا .. ولكن ما أعرفه، أن الرئيس السيسي سجل سابقة في التاريخ المصري، لم تحدث من قبل في عهد أي خديوي أو ملك أو رئيس مصري، بالحرص على المشاركة شخصيا في طقوس الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، وأن يقف بين المصريين من المسيحيين والمسلمين للتهنئة بعيد الميلاد المجيد.
أتصور أن علاقة ناصر وكيرلس .. تعيد نفسها، وتأخذ بعدا آخر بعلاقة السيسي وتاوضروس الثاني .. عودة إلى المسار التاريخي الصحيح للشعب المصري القبطي الواحد منذ أكثر من ألفي عام ، حين دحلت المسيحية مصر، وحين ساعد أقباط مصر ، جيوش المسلمين لفتح مصر .. سنوات من عمر التاريخ نسجت العلاقة بين شعب واحد في وطن يطلق عليه "قبط" .. الرئيس السيسي كشف عن حقائق وثوابت نسيجنا الوطني، وباستثناء حقبة سقطت من التاريخ المصري، وهي العلاقة بين الرئيس الأسبق أنورالسادات والبابا شنودة ، وفي واقعة
سيئة غير مسبوقة أيضا في تاريخ مصر ، وتواصلت معها حقبة مبارك أيضا، وصولا إلى عام من حكم "الإسلامجية" على نفس المسار.. وهي شطحات أفرزت حالة لم نكن نعرفها في عهد عبد الناصر، عن مسمى الفتنة الطائفية ..
وبقي السؤال الكبير : لماذا لم تحدث فتنة في عهد عبد الناصر ؟ ولماذ يحرص السيسي على تضميد الجراح وتصحيح العلاقة التاريخية للنسيج المصري ؟ الاجابة وبوضوح داخل الكاتدرائية .. بيت الله المقدس .. بحسب تعبير الرئيس السيسي