القاهرة 02 يناير 2017 الساعة 12:26 م
بعد قراءتى لرواية ( أصوات ) للأديب الكبير سليمان فياض ، فى طبعتها الأولى عام 1972، يأخذنى الحنين (من حين لآخر) لإعادة قراءتها ، وأسمع صوتـًا داخليًا يطلب منى قراءتها من جديد ، فقرأتها أكثر من مرة ، فهى تطرح الاشكالية الأبدية (التى شغلتْ عقول الفلاسفة - منذ مئات السنين - ثم علماء علم الأنثروبولوجى فى العصر الحديث) عن اختلاف الثقافات بين الشعوب ، وهل يُمكن أنْ يسود الحب والاحترام بين شعوب ، تختلف أنساق قيمها وموروثها وتقاليدها ؟ وهذه التساؤلات الفلسفية العميقة ، عالجها الأديب الراحل الكبير سليمان فياض فى روايته البديعة (أصوات) وكتبها بلغة جمعتْ بين بساطة السرد وعمق الأفكار، فأدار المُبدع الأحداث وأظهر أعماق الشخصيات.
عاد حامد البحيرى إلى قريته المصرية بعد غياب 30 سنة. عاد من باريس ومعه زوجته الفرنسية سيمون. وبينما سيمون تـُمارس حياتها الطبيعية (وفق تقاليد شعبها) فإنّ الفلاحات المصريات (من أسرة حامد البحيرى) يُحاولنَ تقليدها ، حتى فى طريقة تناولها الطعام ، وكان المُبدع موفقــًا ، عندما وصف محاولات الفلاحات المصريات (بأسلوب فنى بديع جمع بين السخرية- بطعم الكوميديا – والحالة البائسة فى تقليد سيمون وهى تأكل بالشوكة والسكين) وهذا الأمر- الفكاهى البائس – تكرّر مع أعيان القرية ، رغم عدم وجود شوكة واحدة فى القرية كلها، فلجأوا إلى (محل الفراشة) ليحل لهم هذه المُـشكلة. وفى هذه المشاهد فإنّ المُـبدع وضع يده على أحد عيوب الشخصية المصرية ، عندما تتنازل عن خصوصيتها الثقافية القومية (بمعنى مجموع أنساق القيم التى أبدعها شعب من الشعوب عبر تاريخه المُمتد) وكل ذلك من أجل إرضاء الضيف الأجنبى ، عن اعتقاد (ساذج) بأنّ هذا التصرف شكل من أشكال (كرم الضيف)
ثم يبدو التناقض فى الشخصية المصرية ، بين (هذا الكرم) كما يتصوّرون ، وبين الاعتداء على ثقافة سيمون وتقاليد شعبها وحريتها الشخصية ، وإذا كان الحدث الرئيسى (وليس الرئيس كما يزعم البعض ، مع مراعاة أنّ كلمة " رئيسى" صحيحة لغويًا) هو اغتصاب واغتيال سيمون بعد عملية ختانها بواسطة بعض فلاحات القرية ، فإنّ المُبدع كان موفقــًا عندما مهـّـد لهذا الاغتيال ، من خلال النظرة الأحادية التى سيطرتْ على الفلاحات ، حيث حاكمنَ سيمون بتقاليد القرية المصرية ، أى بتقاليد الموروث المُعادى لمفهوم الحرية الشخصية فى العصر الحديث ، فهنّ يندهشنَ (بغضب واستنكار) لأنّ سيمون تخرج من الدار كلــّـما أرادتْ ، وتجلس على المقهى - مثلها مثل الرجال – وتشرب الخمرة (كانت تشرب البيرة) وترتدى الملابس التى تكشف ذراعيها وساقيها. فماذا يفعلنَ ؟
كان الانتقام (والأدق الاعتداء على ثقافة الآخر القومية) مُـغلفـًا بمظهر ( أداء الواجب ) فاقتحمنَ غرفتها ( أى اقتحمنَ خصوصيتها ) لإزالة شعر العانة. ولكن الأكثر فداحة للتأكد من أنها مُـختنة من عدمه ، وانتهى المشهد المأساوى بموت سيمون.
وفى تطور دراماتيكى ، فإنّ المُبدع انتقل إلى تصوير تتابع تلك المأساة ، حيث أنّ المأمور طلب من طبيب الوحدة الصحية ، أنْ يذكر فى تقريره سببًا للوفاة على غير الحقيقة. ورغم ذلك فإنه (المأمور) استجاب لوجدانه المصرى ، فسأل نفسه هذا السؤال العفوى (ما الذى يجعلنا نحقد على كل ما هو جميل؟)) فالمُبدع هنا – من خلال شخصية المأمور- صاغ التناقض الحضارى فى ذروة المأساة ، حيث أنّ المأمور- رمز السلطة - والذى أصرّ على دفن الحقيقة مع جثة سيمون ، فإنه (فى محاولة بائسة لتجميل الواقع) هو ذاته الذى أدرك أنّ رفض الاختلاف يؤدى إلى الحقد على كل ما هو جميل ، ثم كانت قمة الإبداع عندما سأل المأمور الطبيب عن سبب الموت الحقيقى ، فكانت إجابة الطبيب بسؤال ((موتنا أم موتها ؟)) وبهذا السؤال (والأدق التساؤل) فى آخر سطر من سطور الرواية ، صاغ المُبدع – بلغة الفن – فلسفته فى الحياة : إنّ الشعوب الرافضة للاختلاف الثقافى ، شعوب مدفونة فى قبر الأحادية التى ينتج عنها كل أشكال التعصب ، وأنّ التعصب ينتج عنه كل أشكال المُبرّرات (السقيمة) للاعتداء على حرية الآخر المُـختلف ، ومن هنا كانت دلالة عنوان الرواية (أصوات) فهى ليستْ أصوات الشخصيات التى أدار المُبدع الأحداث بواسطتها ، بقدر ما هى تعدد الرؤى فى إطار الحدث الواحد .
وهذه الرواية أتمنى أنْ يقرأها سيناريست مصرى (أعلم أننى أحلم ولكن لا بأس فقد يتحقق الحلم فى يوم ما) لتكون بذرة لعمل درامى عن الشخصية المصرية (بعيوبها ومزاياها) وبذلك فإنّ هذا السيناريست يكون قد حفر لنفسه اسمًا خالدًا فى مجال العمل السينمائى.