القاهرة 26 ديسمبر 2016 الساعة 01:31 م
كتب: ميرفت عياد
" هذا البلد أنقذني .. عندما وصلت عام 1987الى المانيا ..التقطت أنفاسي أخيرا... وعندما انهارت الدكتاتورية شعرت أنني لم أعد مهددة..أشعر بأني حرة
في الوقت الحالي .. الأشياء التي حدثت لم تمح من الذاكرة بل بقيت في رأسي " هكذا قالت، وهكذا أحست الكاتبة الالمانية "هيرتا مولر" بان قيود الدكتاتورية المكبله معصمها تتهشم ، لتنطلق يديها كاجنحة النسور محلقه فى سماء الحرية الرحيب حيث الهواء النقى الخالى من تلوث الظلم والاستبداد، وبذلك استطاعت ان تلتقط انفاسها المحشرجة من شدة الخوف والقلق ، الا ان مرارة تلك الظروف الطاحنة ظلت عالقة بذاكرة "هيرتا مولر" ، ساكنة فى شرايين قلبها ، سارية فى دماءها التى تنساب على الورق لتخرج لنا ابداع ثرى ينبض بالمعاناه الانسانية ، حقاً ان سوط الفساد وعدم التسامح والاضطهاد ترك اثاره الدامية على كتاباتها التى عكست كمرآه نقية صورة حقيقية عن الحياة اليومية الكئيبة للرومانيين الالمان المحرومين في ظل نظام الديكتاتورالرومانى السابق "نيكولاي تشاوشيسكو " ، ولعل صدق ذلك الابداع هو ماجعل الأكاديمية السويدية الملكية تمنحها جائزة نوبل للاداب لهذا العام لتصبح بذلك المرأة الثانية عشرة التي تفوز بالجائزة التي منحت لاول مرة قبل أكثر من مئة عام ، وتقدر قيمتها بنحو مليون و420 الف دولار.
وبعد اعلان فوز"هيرتا مولر" بجائزة نوبل للأدب جالت كاميرات القنوات التلفزيونية تبحث عن الكاتبة الالمانية لترصد ملامح الفرحة التى ارتسمت على وجهها ونظرات السعادة والرضا التى انسابت من عينيها الملونتين كموج البحر الهادر، ، وتسابق الاعلامين للحديث معها ، الا انها وسط انفاسها اللاهثة من شدة التاثر قالت : "معذرة.. لا أستطيع ان أتكلم الآن.. فأنا أزال لا أصدق ما حدث.. ولكنى أعتقد أن الأدب يظهر دائما من أشياء ألحقت الضرر بشخص ما ..وهناك نوع من الادب لا يختار الادباء فيه موضوعاتهم ولكن يتعاملون مع موضوع يلح عليهم .. فأنا لست الكاتبة الوحيدة في هذا الشأن.. كتاباتي كانت دائما عن كيفية صعود الدكتاتورية ..كيف يمكن أن يحدث وضع يسيطر فيه حفنة من الرجال الأقوياء على بلد..فيختفي البلد ولا تبقى سوى الدولة "
منحدرات
ودعونها نعود الى القرن الماضى وبالتحديد الى صيف عام 1953 لنشاهد معاً وجه "كاترينا " المضطرب وهى تنتظر بشغف يغلفه القلق حادثها السعيد بوضع مولدتها ، وفيما كانت تجلس " كاترينا " على الاريكة يتصبب منها العرق من شدة الحر ، أحست بالآم الوضع تنتابها ، وبرغبة جنينها الملحة فى الخروج للحياه ، وبالفعل امتزجت صرخات الرضيع مع زغاريد الفرحة ، لتعلن عن ميلاد"هيرتا مولر"يوم السابع عشرمن شهراغسطس فى مدينة ألمانية سقطت تحت سيطرة رومانيا بعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى ، ومرت الايام تليها الايام لتسقى "مولر" من رحيق الادب والمعرفة فتعلمت اللغتين الألمانية والرومانية ثم عملت كمترجمة بأحد مصانع الماكينات الثقيلة، وتم طردها من العمل لأنها رفضت التجسس لصالح المخابرات الرومانية فى عصر الدكتاتور "تشاوشيسكو" ، ولعل هذا ما جعل بركان ابداعها يتفجر بحمم من الاعمال الادبية وهى لم تتجاوز الثلاثين من عمرها ، وكان أولى تلك الحمم مجموعتها القصصية التى صدرت عام 1982 بعنوان " منحدرات" وهى أقرب لسيرتها الذاتية حيث تصف فيها حياة طفلة عاشت مع عائلتها الألمانية فى رومانيا ، موضحة ان الألمان أقلية منعزلة وغير متحضرة، واتهمت الاقلية بعدم تخلصها من فكرها الفاشى حتى بعد انتهاء الحرب مثلما فعل الألمان داخل ألمانيا . وكانت "مولر" تقصد بالتحديد والدها الذى كان نازيا متعصبا وكان عضوا فى القوات الخاصة المقربة من هتلر. كما تطرقت للمجتمع الرومانى وقسوته واضطهاده للاقليات. ولكن هذا الكتاب تعرض للمصادرة من قبل الرقابة الرومانية ، ولأن جعبة الظلم والاستبداد كجعبة الحاوى لا تخلو من الحيل وألاعيب الشر، استطاعت المخابرات الرومانية ان تضيق عليها الخناق في عملها الأدبي ، خاصة بعد ان استطاعت عام 1984نشر مجموعتها القصصية " منحدرات " مما عرضها للإضطهاد الشديد والمضايقات المستمرة من قبل أجهزة الأمن الرومانية ، حتى لم تجد مناص من خطر تلك الحيوانات الضارية غير الهجرة الى المانيا عام 1987 مع زوجها "ريشارد فاجنر" لتغادربذلك عالم الغابة ، عالم الخوف والاضطراب ، الى عالم الحرية ، وعلى الرغم من مغادرتها لعالم القهر والاستعباد إلا أن ذلك العالم سكن بين ضلوعها ، وعاش فى وجدانها ، وأصبح مصدر إلهام للعديد من أعمالها الأدبية التى تمحورت حول أدانتها للنازية والشيوعية .
أرجوحة النفس
وتعكس أعمال "هرتا مولر" العديد من ملامح حياتها الخاصة ففي روايتها "جواز السفر" تروي جهود عائلة رومانية ألمانية من الفلاّحين تريد الحصول على جواز سفر لمغادرة المنطقة. أما "السفر على ساق واحدة" فتلقي فيها الضوء على مشكلات الاغتراب في ألمانيا، كما اهتمت فى كتاباتها بأدب الأقليات التى تحارب فيه الإستبداد والعنصرية ولعل هذا يظهر بوضوح فى أعمالها الادبية مثل رواية " التانجو الجائر " التى تعبر فيها عن الفساد والقمع في قرية تتحدث الألمانية في رومانيا ، وفي روايتها "أرض البرقوق الأخضر" تحكي قصة خمسة شباب رومانيين يعيشون تحت نظام الديكتاتور" تشاوشيسكو" ، كتخليداً لذكرى أصدقائها الرومانيين الذين قتلوا تحت حكمه ، أما روايتها "الموعد" فتتجسد فيها الخيانة والخداع في أكثر من مستوى وعلى أكثر من مسار، لتصبح مجازا روائيا لواقع الحياة كما عاشتها في ظل نظام تشاوتشيسكو .
وأخيراً صدر لها هذا العام رواية «أرجوحة النفس» التى ترجمت الى اللغة العربية فى نفس العام بواسطة مشروع "كلمة" للترجمة بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث وذلك قبل منحها جائزة نوبل في الآداب هذا العام ، و فى هذه الرواية تقدم " مولر" نصاً رفيعاً من الأدب الألماني الذى يمتاز بجمال الأسلوب واللغة ويؤرخ لمرحلة في أوروبا كاد يطويها النسيان، حيث تتناول قضية قمع الرومانيين الألمان إبان فترة الحكم الستاليني في أوربا الشرقية ، وذلك من خلال قصة شاب تم القبض عليه عام 1945 بعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية وإيداعه بأحد معسكرات العمل السوفييتية لإعادة بناء ما دمرته ألمانيا النازية .
أرض الخوخ الأخضر
حصدت " مولر " على مدار الاعوام الماضية العديد من الجوائز الأدبية منها جائزة "كلايست" للأدب الألمانى ، وجائزة "فورت" للأدب الأوروبى، بالإضافة إلى جائزة "إمباك الأدبية" عن روايتها "أرض الخوخ الأخضر". كما ان لغتها الروائية تتميز بالشاعرية والصدق الجارح في تصويرها للحياة في رومانيا ، الا ان بعض القراء والنقاد ياخذون عليها ضعف الحبكة في رواياتها، وأنها تهتم باللغة أكثر من اهتمامها بالفعل، في جنس أدبي يرى البعض أنه قائم على الفعل .