القاهرة 22 ديسمبر 2016 الساعة 01:22 م
"البر الثانى" فيلم خرج علينا فى وقت تعانى فيه السينما المصرية، من أزمة طاحنة و كبوة استمرت لفترة طويلة، تخيم بظلالها على صناعة أعرق و اقدم سينما فى الوطن العربى، و هو فى الوقت نفسه يظهر بين عدد من الأفلام معظمها دون المستوى ، لكنه فى هذا يخرج علينا بقضية جادة ،هامة و مأساوية. تطل علينا كل فترة بخبر مؤلم عن غرق احدى مراكب الهجرة غير الشرعية ، و هى فى الحقيقة قضية حازت اهتمام العالم، و خاصة منظمة الأمم المتحدة و مفوضيات اللاجئين حول العالم .
و قد تبنتها السينما العالمية قبل أن تتبناها السينما المصرية، و أنتجت أفلاما حصدت جوائز المهرجانات العالمية، و منها فيلم " ميديترانيا " للمخرج الايطالى جوناس كاربانينو " و الذى حاز على جائزة الهرم الذهبى فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 2015 ، و كذلك فيلم " فوكومارى " أو " نيران عبر البحر " للمخرج الايطالى " أيضا " فرانكو روزى ، الأمر الذى يعطينا انطباعا أن اللاجئين مشكلة تؤرق المجتمع الايطالى بصفة خاصة، قبل أن تؤرق المجتمع الدولى بصفة عامة ،ذلك أن الساحل الايطالى هو أقرب سواحل البحر المتوسط للدول الافريقية التى يأتى منها اللاجئون ،و قدحصل فيلم " فوكومارى " على جائزة " الدب الذهبى " فى مهرجان برلين عام 2016 . و يأتى فيلم البر الثانى للمخرج " على ادريس " ليقدم لنا النسخة المصرية من قضية اللاجئين .
" أحلام عادية " تلك التى يقدمها لنا الفيلم من خلال بطله " سعيد " و يقوم بدوره الفنان " محمد على " فى اولى بطولاته السينمائية، و التى شاركه فيها القدير عبد العزيز مخيون ،و الفنانة الكبيرة عفاف شعيب ، و باقى أبطال الفيلم عماد" عمرو القاضى" ، و مجدى " محمد مهران " ،اللذين لا يظهرهم الفيلم فى صورة المغامرين الباحثين عن الثروة ،و لكنهم أشخاص عاديون لا يطلبون سوى حياة كريمة ،من سقف يظللهم ،و طعام يملأ بطونهم الخاوية، و حب و أسرة و دفء ، والتى هى الحاجات الانسانية الأساسية .
و يروى لنا الفيلم قصة بطله ،عن طريق جولة للكاميرا فى منزله البسيط الذى يعيش فيه مع أبيه الكفيف و أمه الريفية البسيطة ،و أخواته الفتيات ، و تظهر لنا الكاميرا المنزل و قد خلا من جميع أنواع الكماليات أو الرفاهية ، فلا تلفزيون يظهر و لا ثلاجة و لاحتى " مروحة " ، انه الفقر الذى يصبغ أجواء الفيلم من البداية للنهاية ،فليس فى الفيلم مشهد واحد ،به أى مظهر من مظاهر الرفاهية أو البذخ، فحتى المركب التى حملت اللاجئين فى رحلة الموت كانت مركب قديمة متهالكة ،استكمالا لصورة الفقرالتى يجسدها الفيلم فى كل لقطاته .
و فى عدة لمسات انسانية يقدم لنا الفيلم صورة عن البيئة التى تفرز المهاجرين الغير شرعيين ،اللذين ينظر اليهم على انهم يخرقون القانون، و خاصة من شعوب الدول التى يهاجرون اليها ، و هى الفكرة التى يعالجها فيلم "ميديترانيا" و الذى يقوم ببطولته الممثل الافريقى الأصل " قدوس صهيون "، و يعالجها المخرج "جوناس كاربانينو" الايطالى الأصل ،ليقدم كل منهما القضية من وجهة نظره، فبينما يمثل قدوس صهيون وجهة نظر المهاجرين، يمثل جوناس كاربانينو وجهة نظر البلد المضيف أو الجانب الايطالى، الذى يرى القضية من وجهة نظر مختلفة تماما، و هما وجهتا نظر متعارضتان بالكامل ، فبينما يرى المهاجرين اوروبا فى صورة المدينة الفاضلة ،يرى الاوروبيين المهاجرين، فى صورة الغزاة القادمون عبر البحر ليقاسموهم لقمة العيش و جرعة الدواء .
بينما تعرض الفيلم المصرى للمشكلة من جذورها الأصلية، و هى الفقر المدقع الذى يدفع بهؤلاء الشباب الى ترك أهلهم و ذويهم، و من يحبون، ليخوضوا مغامرة مع المجهول ،غالبا ما يدفعون حياتهم ثمنا لها، و هو ما ظهر فى مشهد النهاية ،حيث تظهر جثث اولئك الشباب الذين دفعهم الأمل فى حياة أفضل الى الموت، و هى ملقاة على البر الثانى ،حيث كان أملهم أن يبدؤا حياة جديدة، و لكن تلك الحياة التى حلموا بها انتهت قبل أن تبدأ .
يعرض لنا الفيلم من خلال ثلاثة من جيل المبدعين المخضرمين فى السينما " عبد العزيز مخيون و عفاف شعيب ، و حنان سليمان " ،صورة لأباء اولئك الشباب الذين وافقوهم على تلك المغامرة الخطيرة ،و هم يتمزقون من داخلهم لذلك الهاجس الذى يغزو قلوب الأباء، ألا و هو أن يكونوا عقبة فى سبيل سعادتهم و مستقبلهم الزاهر المزعوم ،و ذلك من خلال لمحات انسانية، تظهر حب الأبوين كالمشهد الذى يحاول فيه عبد العزيز مخيون الآب الأعمى الكتابة، لكى يوقع على ايصال الأمانة الخاص بسفر ابنه ،و فى النهاية تنتهى محاولاته المضنية الى " شخبطة " لا تعنى شيئا، و هى رسالة ربما حاولت كاتبة السيناريو ارسالها ،و هى أن اولئك الأباء مهما بذلوا من محاولات مضنية لمساعدة أبنائهم، فهى تنتهى الى لا شئ ،الى مجموعة من الشخابيط ،لا تعنى شيئا مثلما ظهر فى هذا المشهد ، رسائل عديدة ارسلت من خلال الفيلم، تعبر عن معطيات القضية ،كجملة فى الحوار قيلت عن نقود السفر " فلوس تعبانة زى اصحابها " و هى جملة أعقبتها ضحكة مريرة تعبر عن اليأس و قلة الحيلة .
أما حنان سليمان فهى تصور الأم، التى ليس لها فى الحياة غير ابن وحيد هو كل رصيدها فى الحياة ،و التى تغلبت على خوفها الشديد على وحيدها، و الذى ظهر فى لقطة" فلاش باك "فى مشهد السباحة الى مركب الموت المنتظر فى البحر ، و تظهر لقطة "الفلاش باك" عن نهيها لابنها مجدى عن السباحة فى الترعة ،و هو صغير خشية غرقه، بينما تراه أمامها ينزل الى البحر فى منتصف الليل، ليسبح نحو المركب التى تنتظره و زملاؤه ،و رغم غنى الفكرة الا أن تنفيذها على الشاشة كان ضعيفا بعض الشئ، من ناحية الأداء الدرامى، فالأم التى تذعر من نزول ابنها الى الترعة فى رابعة النهار، لابد ستجن عندما تراه يسبح فى البحر بأمواجه المتلاطمة فى منتصف الليل ، و لكن الفيلم اكتفى بمشهد الأم و هى تصيح " مابيعرفش يعوم " و تهدأ بعد كلمات قليلة من الموجودين، و تصعد الى الأوتوبيس المغادر المكان ، و قد يقول رأى أخر انها استسلمت لقدرها فهى مغلوبة على أمرها ،و لكن هذا الرأى يتعارض مع الشخصية الخائفة الوسواسية ،التى جسدها الفيلم فى لقطة الفلاش باك عن طفولة مجدى .
و رغم الانتقادات التى وجهت الى الفيلم ،الا أن الفيلم فى حد ذاته محاولة تستحق الاحترام ،سلطت الضوء على قضية هامة و محورية ،و هى الهجرة الغير شرعية عن طريق محاولة سينمائية مصرية، نفذت الى قلب المشاهد المصرى، الذى أنى له أن يتابع أفلام "الريفيوجيه" أو المهاجرين التى قدمتها السينما العالمية فى مهرجانات عدة ، و رغم أن فيلم " ميديترانيا " قد فاز بجائزة الهرم الذهبى، فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 2015 ،الا أن غالبية المصريين لم يشاهدوا الفيلم أو حتى سمعوا عنه ، و لم يتم عرضه جماهيريا بعد انتهاء المهرجان .
لذا فنستطيع ان نقول أن فيلم " البر الثانى " ،هو اول معالجة سينمائية تعرض على المشاهد المصرى عن قضية المهاجرين ،و يكفى انها بعدت بنا عن سينما الاسفاف التى أخذت مساحة كبيرة فى الأعوام العشرين الأخيرة ، كما أن الفيلم يخلو من أى الفاظ غير لائقة ، أو مشاهد مثيرة ، أو مشاهد بلطجة ، حتى صورة البلطجى التى أظهرها الفيلم أثناء رحلة المركب، قد تم رفضها بصورة واضحة و قوية، حين أمر قائد المركب برمى البلطجى فى الماء ،و جمع كل الأسلحة و المطاوى التى مع المسافرين و القائها فى البحر ، فى اشارة من صناع الفيلم بقبول الفقر و الفقراء و رفض البلطجية و المجرمين اللذين يفرزهم الفقر .
و فى النهاية فلا نستطيع أن نقول أن الفيلم هو فيلم ردئ أو دون المستوى ، فالمستوى فى رأى الشخصى ليس هو المستوى الفنى فقط ، و لكنه المستوى المجتمعى و الأخلاقى، و الرسالة التى ينطوى عليها الفيلم ، فالسينما أولا و أخيرا هى رسالة و قضية، بالاضافة الى كونها فنا و جماليات .