القاهرة 28 نوفمبر 2016 الساعة 10:49 ص
لا أحد يراهن على أحكام التاريخ والجغرافية، بين مصر وسوريا.. ولا يتقبل عقل أي عاقل، اللعب بثوابت التاريخ، ومنذ سنوات ما قبل الميلاد، حين أدرك فراعنة مصر 3100 ق . م ، أن أمن مصر واستقرارها على أبواب بلاد الشام، وأن وحدة الترابط الجغرافي بين ضلعي الزاوية المحورية في المنطقة ( القطر الشمالي، والقطر الجنوبي)، كفيلة بردع أي عدوان على السيادة المصرية .. وحتى مماليك مصر العظام ، قطز وبيبرس، كانوا على وعي استراتيجي مبكر، بأحكام التاريخ والجغرافية التي ربطت بين مصر وسوريا .. وهكذا على امتداد مسيرة التاريخ المصري .. وصولا إلى عهد محمد علي باشا، باني نهضة مصر الحديثة ، ثم الزعيم العربي جمال عبد الناصر ..
وهكذا .. مرورا بواقعة ذات معنى ومغزى كبيرين، حين قصفت طائرات العدوان الثلاثي على مصر 2 أكتوبر 1956، محطات الإرسال الإذاعي المصري في ( أبي زعبل)، فتوقفت الإذاعة المصرية عن الإرسال، قبل أن يلقي الرئيس عبد الناصر خطبته من فوق منبر الجامع الأزهر، مما حرم الشعب السوري من متابعة أحداث المعركة ، وفي لحظة اقتحم المذيع السوري ،الهادي البكار، أحد استوديوهات الإذاعة السورية، دون استئذان أحد من كبار المسؤولين ولا وزير الإعلام، لأنه يقوم بدوره المفروض عليه تجاه مصر، ويطلق لصوته العنان صارخاً من شدة اللوعة "هنا القاهرة من دمشق، هنا مصر من سورية، لبيك لبيك يا مصر" وهكذا تحوّلت الإذاعة السورية إلى إذاعة مصرية خلال أيام العدوان الثلاثي .. بالطبع لم تتجرأ أي دولة عربية أخرى، على تحدي بريطانيا العظمى وفرنسا، وتعلن صوت مصر من أذاعاتها .. لم ولن يحدث هذا إلا في سوريا.
وهكذا ــ أيضا ــ وبأحكام التاريخ والجغرافية .. لا يملك أي رئيس ، ولا أي نظام، أن يخرج مصر من سوريا .
لقد تجاوز الرئيس الإخواني "محمد مرسي" حدود الأمن القومي المصري، باستعراض انفعالي، وأعلن قطع العلاقات مع سوريا ، وبدوافع معروفة إخوانية، ومراضاة مدفوعة الأجر ــ بصورة أو باخرى ــ من الولايات المتحدة وتركيا ودول خليجية، وهو "غباء سياسي" غير مسبوق في التاريخ المصري، لأن الأمن القومي لأي بلد محدد باستمرار ، بالجغرافيا والتاريخ، ولا يملك أي فرد أو نظام أن يغير فيها .. والأمن القومي المصري يستند إلى الوجود في سوريا، والعلاقة معها لا تقبل المناقشة، وإذا خرجت مصر من سوريا، فقدت التأثير على الوضع هناك ( وهو ما حدث) وإذا خرجت مصر من سوريا ، فإنها تخرج من آسيا بالكامل ( وبالفعل لم يكن للدور المصري ظلا في هذه المنطقة ) وتركت قوى إقليمية، ودول عربية صغيرة ، تلعب في الساحة الشرقية !!
وفي حقيقة الأمر، لانعرف حقيقة الدعم العسكري المصري للقطر الشمالي "سوريا" .. ولكن نعرف أن هناك تنسيقا أمنيا، فرضته ضرورات الأمن القومي المصري، مع سوريا، وبدا واضحا مع زيارة رئيس المخابرات السورية، اللواء علي المملوك، للقاهرة، في السابع عشر من شهر أكتوبر الماضي، واستمرت الزيارة يوما واحدا .. الأمر الطبيعي، وما هو منطقي بقياسات الأمن القومي، أن تستجيب مصر لأحكام التاريخ والجغرافية، وأن يكون لها دورا في سوريا ، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي، في حديث أدلى به الى الصحفي البرتغالي، باولو دانتينيو، وكشف عن موقف يُعَدُّ الأقرب من دمشق.. وقال الرئيس السيسي إن «الأولوية الأولى لنا أن ندعم الجيش الوطني على سبيل المثال فى ليبيا لفرض السيطرة على الأراضي الليبية والتعامل مع العناصر المتطرفة وإحداث الاستقرار المطلوب، والكلام نفسه في سوريا.. ندعم الجيش السوري وأيضا العراق .. ومن المفضل أن تكون القوات الوطنية للدول هي التي تقوم بالحفاظ على الأمن والاستقرار في مثل هذه الأحوال».
الواضح، والمعلن، أن مصرترفض توسيع التدخل الدولي في سوريا حتى تحت أعلام الأمم المتحدة، وهي تدعم إبقاء الجيش السوري محور أي عملية تهدف الى إعادة فرض الأمن والاستقرار في سوريا، ولا بد من التعامل بجدية مع الجماعات الإرهابية ونزع السلاح منها، بالإضافة إلى وحدة الأراضي السورية، وصولا إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب في سوريا ..
وهي عودة مصرية لدمشق، بعد أن كانت مصر مشغولة بتصدعات سياسية واجتماعية واقتصادية بعد ثورة 25 يناير، وحتى إزاحة حكم الإخوانن في 3 يوليو 2013، ثم بعد ذلك كانت مصر مستغرقة في مطاردة نيران متفرقة ، وهي تحاول معالجة مشاكلها .. هذه الأسباب نتفهمها لغياب مصر عن سوريا .
وبالضرورة .. فإن القيادة السياسية في مصر، تعلم جيدا أن هناك من يتدخل في سوريا ، بما يهدد بقاء دولة شقيقة، وهذا جزء من ملف خطير .. بالغ الخطورة .. والقيادة السياسية أيضا تدرك بحسابات تقدير الموقف، أن العالم العربي مقبل على تفريغ استراتيجي خطير،لأن سوريا امتداد استراتيجي مهم على البحر الأبيض المتوسط، وأي تغيير في سوريا ، له تأثير كبير على موازين القوى في المنطقة، فالمطلوب إخلاء الفضاء الإستراتيجي لسيطرة القوة الإسرائيلية ، وتصفية القضية الفلسطينية بصورة كاملة ونهائية !!
صحيح أن "هنا دمشق من القاهرة " تأخر كثيرا ، على مدى خمس سنوات تقريبا، ولأسباب عانت منها مصر طويلا ، قبل أن تلتقط أنفاسها، وتستعيد الوطن .. ولكن أتصور ( وباستثناء العام الإخواني الطارىء والعابر) فإن مصر لم تهادن أو تتراجع عن أحكام التاريخ والجغرافية، ولكن (ليس كل ما يفعل يقال ) بحسب تعبير الرئيس الأسبق حسني مبارك، في شهر سبتمبر 2009 ملوحا بيده ، حين سألناه عن قضية حصار قطاع غزة ، ثم اكتشفنا فيما بعد أن الأجهزة المصرية صاحبة فكرة الأنفاق، للالتفاف على الحصار الإسرائيلي، والإلتفاف على بنود اتفاقية معبر رفح تحت مراقبة أوروبية إسرائيلية وممثل السلطة الفلسطينية الغير متواجد بالطبع في القطاع .. وكانت الأنفاق هي الحل (أنقلبت فيما بعد إلى مشكلة أمنية تؤرق مصر)
ما يحدث في سوريا ، يجب أن نضعه في الإطار الإستراتيجي العام، وكذلك في إطار الصراعات الدولية .. حتى تحولت إلى ساحة فيها من يعرف يتوضأ بالدم، ولا يعرف كيف يصلي صلاة الجماعة ، على حد تصوير شاعر فارسي قديم .. ساحة مستباحة ، والعالم كله يتدخل، ومن لايتدخل يتفرج مستغربا ما يرى، دون أن يمد بصره إلى ما وراء الصورة، ليعرف أنه صراع على المستقبل لأمة فاض بها الكيل !!