القاهرة 20 نوفمبر 2016 الساعة 01:56 م
في زمن الرئيس الأسبق أنور السادات ( وكان الرجل مفتونا بالغرب وأمريكا) صوروا لنا الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنها دولة بالألوان الطبيعية، وأنها دولة مؤسسات ، أي أن الرئيس الأمريكي مجرد " موظف كبير " في البيت الأبيض، وأن القرار النهائي تصنعه وتقرّه منفردة "مؤسسات" وليس "الرئيس" .. وهذا بالطبع ليس صحيحا .. لا هي دولة بالألوان الطبيعية، ولا هي دولة مؤسسات بصفة مطلقة، وبالمعنى المقصود بإدارة السياسة الخارجية الأمريكية .. بل إن الرئيس "الفرد" هو صاحب الرؤية والتوجه السياسي ، ثم القرار بعد الإستئناس برأي مستشاريه..
وبتعبير أكثر وضوحا .. فإن الولايات المتحدة "دولة مؤسسات" في خدمة "دولة الرئيس" .. مؤسسات تدعم وتساند الرجل الجالس إلى المكتب البيضاوي داخل البيت الأبيض .. وبالضرورة فإن مصلحة الرئيس قد لا تتعارض مع مصلحة الدولة ــ أي مصلحة وأمن أمريكا ــ كما يتصورها الرئيس، أو كما يصورها له الفريق الرئاسي المعاون .. ولو كانت أمريكا دولة مؤسسات، بالمفهوم الدعائي الضخم الذي تم تسويقه لنا منذ العام 1975 تحديدا ، وما زال البعض مؤمنا به ، وانسحب ذلك على بقية دول الساحة العربية .. فلماذا انزعجت أوروبا من فوز "ترامب" رئيسا للولايات المتحدة ؟! لماذا تخشى أوروبا ، وهم (أبناء عمومة الأمريكان ) والرديف الإستراتيجي للولايات المتحدة، وما بينهما من "زواج كاثوليكي" تاريخي ومقدس .. لماذا تخشى دور الرئيس الفرد، إذا كانت أمريكا دولة مؤسسات كما يزعم البعض في مصر وداخل الساحة العربية ؟!!
والشاهد .. أن المسرح السياسي الأوروبي ــ وهو امتداد للمسرح الأمريكي ــ أصابته صدمة فوز "ترامب" ، وكان هناك شبه توافق لدى الدوائر السياسية ، الرسمية وشبه الرسمية، في أوروبا، بأن ما حدث "زلزال سياسي" .. لماذا ؟! لأنهم يعلمون تفاصيل الخريطة السياسية في أمريكا، وأن للرئيس الأمريكي دوره وتأثيره النافذ، بل وقراراته التي قد تخضع أحيانا لـ "مزاج الرئيس" .. من هنا كانت خشية الأوروبيين ، وبمقدار ما عبر عنه ــ مثلا ــ وزير العدل الألماني، هيكو ماس، أن العالم سيزداد جنوناً بعد فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة .. وقال الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إن فوز ترامب يؤذن لبدء "مرحلة من انعدام اليقين"، ولذلك ينبغي لفرنسا أن تكون أقوى، ولأوروبا أن تتوحد .. وفي نفس السياق ، حذر رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، من أن «انتخاب ترامب رئيساً سيجعل العمل أصعب بالنسبة للاتحاد الأوروبي ، وسيكون أصعب من العمل مع إدارات سابقة"
بينما اعتبرت وزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير ليين، أن فوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية "صدمة كبرى"، وطالبته بتأكيد التزامه تجاه حلف شمال الأطلسي.. خاصة وأن الولايات المتحدة تساهم حاليا بنحو 70 % من مجموع إنفاق حلف الناتو .. ونجد أيضا أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، حذر ترامب من تحرك الولايات المتحدة بشكل منفرد، وذلك في سياق مخاوف بشأن موقف ترامب من حلف شمال الأطلسي .. وكان وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك ايرولت، قد كشف عن قلق بلاده بخصوص مستقبل اتفاق باريس للمناخ، والعلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، مع تسلم ترامب قيادة البيت الأبيض.
قلق ، ومخاوف ، من "دولة الرئيس" وليست بالطبع "دولة مؤسسات" ؟!
خوف الأوروبيين مبرر. اعتادوا على المنقذ، منذ مئة عام إلى اليوم، أي من الحرب الكبرى إلى الحملة على الإرهاب، مروراً بالحرب العالمية الثانية ومشروع مارشال والتصدي للاتحاد السوفياتي و «خطر» الشيوعية. وتأسس الحلف الأطلسي مظلة لهم .. طوال هذا القرن كانت واشنطن ولي أمرهم، في معنى من المعاني.. ورثت مستعمراتهم، ووزعت عليهم بعض الحصص، هنا وهناك.. والآن يأتي رئيس ليقول لهم " كفى .. عليكم أن تمولوا الحلف العسكري مثلما نموله.. وسنحاور خصمكم في موسكو" .
وقد يكون بعض التفصيل لازما ، بقدر ما هو ضروري للشرح :
خوف الأوروبيون مبرر .. فهم يعلمون أن الرئيس الأمريكي، هو صاحب النفوذ، هو قمة ومحورالنظام السياسي، ويتمتع بصلاحيات لايتمتع بها رئيس آخر في العالم : (1) رئيس الدولة : بحيث يستقبل رؤساء الدول الأخرى ويمثلها في الخارج ويتحدث باسمها ، ويقوم بإجراء التعيينات الهامة.. (2) رئيس السلطة التنفيذية : وهو المسئول عن اختيار أعضاء حكومته المسئولين أمامه والمسئول عن تنفيذ السياسات والقوانين التي يقرها المجلس.. (3) المشرّع الرئيسي : رغم أن الرئيس لا يعتبر جزءا من السلطة التشريعية تطبيقا لفصل السلطات، ولا يملك حق اقتراح القوانين بطريقة مباشرة ، ويقوم بتمرير اقتراحاته عبر أعضاء كونجرس من أعضاء حزبه لاقتراح تشريع معين ، إلا أن هذا لا يمنع الرئيس من القيام بدور هام في العملية التشريعية في الاعتراض على تشريع ما.. (4 ) الدبلوماسي الأول : هو من يقوم بتعيين السفراء واستقباله لسفراء الدول المعتمدة وحضوره لبعض المؤتمرات الدولية.. (5) القائد الأعلى للقوات المسلحة : ويرتبط أداء هذه الوظيفة بالوظيفة السابقة، وهذا يعني أن تصبح ممارسة السياسة الأمريكية أكثر تأثيرا ومصداقية في السياسة الدولية، ويعطيه هذا الدور سلطات وصلاحيات واسعة أوقات الحرب.. (5) رئيس الحزب : الوظائف الخمس السابقة وظائف ومسؤوليات دستورية، وحرص الآباء المؤسسين على تحرير الرئيس من الأحزاب باعتباره لجميع الأمريكان وليس لحزب واحد، ومع ذلك فالرئيس ينتمي إلى أحد
الأحزاب ، ويستفيد الرئيس من هذه العلاقة الحزبية في ضمان تأييد أعضاء الكونجرس من حزبه لمقترحاته التشريعية
وهناك مصادر دعم وتأييد للرئيس الأمريكي وهي : 1- المكتب التنفيذي (البيت الأبيض) : ويبلغ عدد العاملين فيه 485 موظفا ، بإدارات ومستشارين كلهم متخصصون لضمان وصول الموضوعات والقضايا المحلية إلى مكتب الرئيس في وقتها، ومن الوظائف الهامة التأكد من التزام الإدارات المختلفة بالسياسات والتوجهات الرئاسية، ويستمد المساعدون هولاء سلطتهم الحقيقية من التصاقهم بالرئيس ..2- مكتب الإدارة والميزانية : ووظيفة هذا المكتب أعداد الميزانية الفيدرالية التي يقوم الرئيس بتسليمها للكونجرس كل سنة، ويعتبر مدير الإدارة أحد المستشارين الاقتصاديين للرئيس.. 3- مجلس الأمن القومي : ويتولى تقديم النصائح للرئيس في المسائل العسكرية الخارجية والداخلية المتعلقة بالأمن القومي, ويتكون المجلس من الرئيس نفسه ونائب الرئيس وسكرتاري الدفاع والخارجية وعدد آخر من الموظفين مثل رئيس الأركان ومدير وكالة المخابرات الأمريكية .. 4- مجلس المستشارين الاقتصاديين : ويضم خبراء ومتمرسين في مجال الاقتصاد، ويقدمون النصيحة للرئيس، ورسم الخطوط الهامة للتيارات الاقتصادية..5- مجلس الوزراء : يمتلك الرئيس حق اختيار الأشخاص الذين
سيعملون معه لشغل المناصب العليا ، وليس بالضرورة أن تكون الحكومة من نفس أعضاء حزبه.
أما ما يقال عن "دولة المؤسسات" ، فهو مجرد مصطلح سياسي ، يشير إلى مهام أمنية، ودستورية، وقانونية، واستخباراتية، وإعلامية، تتولاها إدارات في أي دولة أخرى في العالم، ولكن لها دورها الفاعل المؤثر في الدول الكبرى من عالم المستوى الأول فقط ، وتحديدا .. ولكن هذا الدور لا يحجّم دور الرئيس، بل هو مساند ومعاون للرئيس وإدارته ..
وتبقى الكلمة العليا لـ "دولة الرئيس" وأحيانا كثيرة لــ "مزاج " الرئيس!!