القاهرة 06 نوفمبر 2016 الساعة 01:57 م
كنتُ أتابع إبداع الفنان عزالدين نجيب فى مجموعات القصص التى أصدرها (أيام العز-عام 62)، (المثلث الفيروزى– 68) إلخ ولم أتأثربتجاهل النقاد لإبداعه القصصى. وزاد اهتمامى بعد صدورمجموعته (أغنية الدمية- عام75)
صحيح أنّ الفن التشكيلى احتلّ أغلب مساحات الضوء قى شهرة عزالدين نجيب، ولكن هل يجوزالاتكاء على هذا السبب كمبررللتغاضى عن إبداعه القصصى؟
وبعد سنوات من (مظاهرالصمت) عن الإبداع الأدبى، إذا به يـُـصدرمجموعة قصصية بعنوان (نقطة صغيرة قــُـرب السماء– مركزالمحروسة للنشر- عام 2015) بينما الصمت الظاهرى لم يكن كذلك، حيث أنه نشربعض القصص فى مجلة إبداع عام 1988. وكان مُحقــًا عندما كتب فى مقدمة المجموعة الأخيرة ((دفعتُ ثمن استسهال النقاد النظرإلىّ كفنان تشكيلى، انسحبَ من ميدان الأدب)) وكانت المُـفاجأة الثانية صدور روايته (نداء الواحة– دارغراب للنشر-عام 2015)
فى مجموعة (نقطة صغيرة قــُـرب السماء) يحفرعزالدين نجيب داخل عالمه الأثير، الذى جمع فيه بين الواقع والفانتازيا، وأنّ الواقع زاخربالعبثية التى لاتقل عن (عبثية الواقع) فى إبداع الروائى الكبير(فرانزكافكا) فحتى عندما كتب قصة (القضية) عن شاب يـُـتابع قضية شقيقه، شهيد ثورة يناير2011، تبدوبدايتها واقعية تمامـًـا، بينما نهايتها عبثية/ مأساوية. وكان الشكل الذى اختاره المُـبدع هوأنّ الشاب ضلّ الطريق إلى مقرالنيابة، بسبب المواصلات، حيث أنّ الشاب من حى شعبى، والنيابة فى التجمع الخامس بمدينة نصر، وهومكان لم يتعوّد الذهاب إليه. فكانت النتيجة أنْ وجد نفسه فى منطقة صحراوية. رآه شيخ وكان أول سؤال سأله للشاب: هل ضاع منك شىء؟ بهذا السؤال فتح المبدع الجرح، لا ليـُـزيل الصديد، وإنما ليـُـوسّـع من الجرح ويتركه مفتوحـًـا، حيث قال له: أخوك حى يا بنى.. لم يمت.. ولما استفسرالشاب أضاف الشيخ ((هوحى سواء كان يحيا فوق أوتحت)) هنا أدخل المبدع الميتافيزيقا فى العمل بشكل فنى، أى بدون أدنى مباشرة.
تركه الشاب وتوغـّـل فى المكان. حارات ضيقة تتلوى وتتفرع إلى ممرات وبلا بشر. شعر أنّ هذا الفراغ هوالخراب. وهاجمه إحساس بأنّ تلك الدروب المُـتشابهة والمُـراوغة لاتوحى بنهاية آمنة، وأنه قد لايستطيع الخروج من هذا المكان. ثم تقابل مع بشرغريبى الأطوار. سألهم: كيف أخرج من هنا؟ قالوا: عـُـد من حيث أتيت. وتنتهى القصة بأنْ تخبـّـط الشاب فى المتاهة. وكما ضاع حق الشهيد بعد خمس سنوات بين المحاكم، كذلك ضاع شقيقه فى المتاهة.
تلك القصة مجرد نموذج على مزج الواقع بالخيال، ومن خلال هذا المزج يرى عقل المُـبدع ما لايراه كثيرون. أما العالم الذى يستأثرباهتمامات عزالدين نجيب أكثر، فهوعالم (الواحات) و(الفضاء) والصحراء التى تقول الكثيرللبشر، رغم الصمت ورهبة المكان. فى هذا العالم الذى يجتمع فيه فنانون تشكيليون لرسم الطبيعة، يلتقى بشرمن جنسيات مختلفة، صحيح لاتــُـسعفهم اللغة لتعددها، بينما توحـّـدهم مشاعرإنسانية. وبهذا جسـّـد المُـبدع الموضوع الذى شغل علماء الأنثروبولوجيا، وهوأنّ البشرية لن تتقـدّم إلاّبالتحام ثقافات الشعوب، مع الاحتفاظ بحق كل شعب فى الدفاع عن ثقافته القومية كما قال غاندى.
فى قصة (أيقونات جبلية) قسّـمها الكاتب إلى عدة مقاطع، الأول (أيقونة الراعى) البطل يصعد جبلا عبرمدقات تتلوى على حواف الصخورالزلقة. رآه الراعى. سأله عن سبب دعوته. لم يتكلــّـم وإنما قـدّم له مجموعة من العملات المعدنية الرومانية. ولأنّ الفنان لايعرف لغة الراعى المقدونية، تعاملا بنظرات العيون ولغة الأصابع. وفكّ الراعى الصمتَ بأنْ قـدّم له عملة عليها كتابة باللغة العربية، وتحتها عبارة (ضـُـرب فى مصر)
وفى (أيقونة مارتينا) يتجمّع الفنانون فوق جبل ماركوبمقدونيبا. الفنان الراوى أشعره المكان بالرهبة. أنقذته عيون مارتينا البولندية. وقالت: صباح الخيريا محمد، رغم أنها تعلم أنه ليس اسمه ولكن لسهولته على لسانها. وعندما طلبتْ منه الذهاب للراعى لشراء عملات معدنية قديمة، تذكرأنّ الر اعى أهداه العملات فى الحلم. وتساءل لماذا لم تظهرمعه فى الحلم؟
فى (أيقونة الأجراس) رأى الراوى الأجراس الضخمة للكنيسة القديمة معلقة على فرع شجرة. وعلم أنّ الكنيسة ذات السبعمائة سنة تحوّلتْ لمزارأثرى بلا قداسة. ونــُـزعتْ الأجراس منها وعـُـلــّـقتْ خارجها كالمشنوقة. ورغم أنّ الراوى من جنسية غيرجنسية أصحاب المكان، ومن ثقافة قومية غيرثقافتهم، فقد استبدّتْ به رغبة مــُـتحدية كى يجعل الأجراس تدق. وعندما نجحتْ محاولته توحـّـد مع الأجراس فى إيقاع موزون، فدبّ الذعرفى الدجاجات. فى هذا المقطع رسم المُـبدع لوحة لتاريخ تبدوعليه علامات الموت عندما وصف الأجراس بأنها بدتْ كالمشنوقة. ولكن الراوى حرّك الأجراس، أى أنّ ما يبدوأنه (الموت) قادرعلى النبض من جديد. وكانت حركة الدجاجات المذعورة، كأنها استيقاظ بعد غيبوبة طويلة.
وخصّـص الكاتب أيقونة خاصة للفتاة (بتريشيا) التى تتولى تحضيرالطعام للفنانين ونظافة المكان. علم الراوى منها– رغم صعوبة التواصل اللغوى- أنه كان ينبغى أنْ تكون فى الجامعة بعد حصولها على الثانوية العامة. لكن لها ثلاثة أخوة أصغرمنها. فكان تعقيب الراوى ((منذ أول يوم أحسستُ بالتعاطف الأخوى معها. لكن جهلى بلغتها كان دائمًا عقبة أمام التفاهم. كثيرًا ما تــُـذكــّـرنى بأختى التى ظلــّـتْ بالقرية دوننا جميعًا، تخدمنا فى صبرلأنها لم تــُـكمل تعليمها)) وهكذا جسـّـد المُـبدع موضوع تشابه الشعوب- رغم اختلاف الجنسيات- بسبب الظروف الاجتماعية.
فى (أيقونة الجبل) لوحة فنية بالكلمات: الرواى يـُـفضـّـل رسم الصخور- كما فعل مع صخورسيناء ((وهاهى الصخورتبدوكيوان خرافى يتحفــّـزللانقضاض. وهذه كأنها نسر يهم بالإقلاع. وهاتان تتلاحمان كجسديْن متعانقيْن وبينهما فراغ مُـظلم يرقد فيه حجرصغيريبدوكأنه طفلهما. وهذا مُسطح صخرى شامخ مفرود كالشراع)) فهل هذا الوصف البديع ل (نبض) الصخور، مجرد حلية زخرفية؟ الإجابة تــُـقـدّمها السطورالتالية: وقف الراوى يتأمـّـل هذا (المتحف المفتوح) واكتشف علامات غامضة حـُـفرتْ فى الصخربيد إنسانية: من هنا مرّالرومان والرهبان، الفدائيون والعثمانيون، الجياد والعبيد. ثم رأى حفرة مستطيلة داخل الصخربقامة إنسان. تساءل: من الذى دُفن؟ وعلى أية مذبحة تشهد هذه الصخرة؟ العلامات الدامية فى كل مكان. والسكون شاهد أخرس ومُـتربّـص. اندمج الفنان باللوحة التى يرسمها. فرأى صفوف العبيد فى أعالى الجبل. وحلــّـق به خياله فرأى الجنود العثمانيين بسياطهم يسوقون صفوفــًـا من المتمردين. ولشدة اندماجه فى فنه شعربالصخورتتلوى بين أصابعه وهويرسم، وتصرخ مُـتوحشة ومُـتأنسنة. وفجأة يطل وجه فاسكو(الغيرمحبوب حتى من أبناء جنسه) ويُـصبح قريب الشبه بتلك الصخورالجلاتينية. وربط الراوى بين وجهه ووجه ضابط المباحث المجدورالذى انتزعه من مرسمه فى فجرأسود. فشعربطعم الصديد فى حلقه. فى ذلك المقطع جسـّـد الأديب تاريخ الطغاة، والربط بين الماضى والحاضر. والمغزى أنّ الطغاة لايختلفون، رغم اختلاف الجنسية والتباعد الزمنى.
فى (أيقونة فاسكو) علاقة شائكة بين الثلاثى (فاسكو- مارتينا- الراوى) الراوى يرى مارتينا أشبه بإلهة إغريقية. وودّ لوأقام معها علاقة إنسانية وترك للزمن رسم باقى خيوط تلك العلاقة. ومارتينا تعترف بحبها لفاسكو. فقال الراوى لنفسه لابد أنْ تكون مختلة العاطفة حتى تقع فى حب هذا السكيرالعجوز. إنه موهوب للموت بينما هى موهوبة للحياة. فكيف يلتقيان؟ علم منها أنّ زوجها هجرها. تذكــّـرالراوى أنّ زوجته هجرته وهاجرتْ مصر، ومعها طفلتهما. مارتينا بدأتْ تفك شفرات الغموض عن علاقتها بفاسكو. قالت إنّ فاسكوكان مع رفاقه المُحاربين فى جيش ضد النازى، منذ أنْ كان فى السادسة عشرة. ويحمل وسام البطولة. فاجأها الراوى بالواقع الذى تتجاهله، فقال ساخرًا: يالها من حياة لائقة ببطل!! فى إشارة إلى قسوته وسكره الدائم وإدمانه لعب الورق. فكان تفسيرمارتينا أنّ فاسكولم ينل أى تقديرمن النظام رغم تضحياته. بينما الذين لم يُـناضلوا ضد النازية حصدوا المكاسب. وفاسكولم يظلمه النظام فقط وإنما خسرالزوجة والابن والصديق، فلم يبق أمامه غيرلعب الورق والخمر. وهكذا حقـّـق المُـبدع خاصية مهمة فى الكتابة الأدبية، أى (تعدد الأصوات) وترك للقارىء حرية الاختيار: لأى الصوتيْن ينحاز؟
وفى (أيقونة السلحفاة) يعود الروى إلى تشككه فى كل شىء، وقال لنفسه: كل شىء يحتمل الحقيقة والكذب. وفجأة يطل وجه الفتاة بتريشيا التى تــُحضرالطعام للفنانين. فقال: إنها الحقيقة الوحيدة بالنسبة لى. ولكن من أين لى هذا اليقين؟ وهكذا جسّـد الكاتب (قانون النسبية) بشكل إبداعى. وإذا كان البشريُـعانون من الصراعات الدموية فى بعض الأحيان، فإنّ الكائنات الحية غيرالعاقلة عانتْ من صراع شبيه، حيث رأى الفنان مدخلا لكهف به سلحفاة جبلية ميتة. نهشها حيوان فلم يبق منها غيرصدفتها. وضعها أمامه وراح يتأملها. لم يقطع الصمت غيرنداء لطائر. ثم رأى حصانــًـا يمد عنقه ورأسه إلى الفضاء، كأنه يريد أنْ يصهل ولايستطيع. ومن خلفه أفق بنفسجى مُـضبب لجبل بعيد غارق فى الوحدة.
أعتقد أنّ الجمع بين السلحفاة التى نهشها حيوان جائع، والحصان الذى يود الصهيل ولايستطيع، ثمّ العودة إلى باقى أيقونات القصة عن البشرالأحياء فى عالمنا المعاصر، والبشرفى أزمنة ماضية، وتضفيرالنبل الإنسانى عند البعض والسفالة عند آخرين، فيه تلخيص- أدبى- لمُـجمل تاريخ البشرية، ولذلك كان الشاعرأسامة عفيفى على حق عندما قال: إنّ قصة (أيقونات جبلية) بذرة رواية.
وفى القصة التى حملتْ اسم المجموعة، تأكيد على (لقاء ثقافات الشعوب) وفيها يحدث تقارب وجدانى بين الراوى والفنانة (ناتالى) لدرجة أنها عندما رأتْ اللوحة التى رسمها وفيها فتاة تطيركفراشة أوروح هائمة، قالت: فتاتك الطائرة فى اللوحة إنها أنا. وطبعتْ قبلة على خده. تحسّس مكان القبلة بينما روحه كانت مع فتاة اللوحة. عرف من ناتالى أنها مرتبطة بعلاقة حب مع شخص من وطنها. ولما سألها: هل تحبينه؟ قالت: إنه يحترمنى. وقال لى: إنّ الحب لايكفى. ولكن هذا لايعطيه الحق فى تركى. واستمرأنا فى حبه وهوغيرمتأكد من مشاعره نحوى. بدأتْ الخلافات الصغيرة تكبر. والتسامح يقل وهويهرب. وأضافتْ: لا أستطيع تخيل الحياة بدونه. فقال الراوى لنفسه: أهى نفس قصتى (مع من أحبّـها وتزوّجها) لكنها تحدث معكوسة؟ وكانت المفاجأة عندما قالت ناتالى: أتعرف.. نحن شبيهان. ونستحق أفضل من هذا. وأمسكتْ يده بحرارة وقالت: كم أنت إنسان رائع. وعندما دخلا كهفــًـا وشعربقربها الحميم منه وهى تضحك كطفلة مُـتوردة الوجه، لم يخطربباله أنهما جسدان لرجل وامرأة. وقال لنفسه: أنا فى الثامنة والثلاثين. وهى أصغربعشرسنين. وحب مفقود لكليهما. وحب آخريبحثان عنه وسط ركام أثرمن الماضى المجهول. فكان المشهد التالى: طيورتنتحب والسحب الكثيفة تعتقل الشمس. وتذكــّـرقول دون كيشوت: شفائى معركة. فقال لنفسه وأنا شفائى لوحة جديدة. سأل عن ناتالى فعرف من زملائها أنها سافرتْ. تذكــّـرزوجته التى هجرته. جمع بين وجهها ووجه ناتالى الذاهبة لمن هجرها.