القاهرة 27 اكتوبر 2016 الساعة 01:46 م
صحيح .. إن الذين لا يفهمون دروس التاريخ، يعيدون السنة .. وبمعنى تكرار نفس الأخطاء ، وتلقي نفس الصدمات ، والإذعان لنفس شروط الهيمنة والوصاية .. ولذلك فإن الثقة في أي رئيس أمريكي ــ أي رئيس ــ قضية تستوجب ألف حساب ، خاصة وأن لدينا كل الأسباب لكي نشك في الولايات المتحدة ، وفي كل رئيس أمريكي، وربما منذ عهد الرئيس "هاري ترومان" الديمقراطي 1948.. فالقصة وبايجاز غير مخل ( المواقف، والسياسات، والوقائع، والمخططات ) معروفة .. معادة ومكررة .. مع كل رئيس أمريكي حتى الآن ، ولم يعد فيها جديد يثير أو يلفت الانتباه !!
ورغم ذلك، فإننا ــ كعرب ــ نتصدر قائمة المهتمين والمتابعين لسباق المنافسة على المكتب البيضاوي داخل البيت الأبيض ، وربما أكثر من الأمريكان أنفسهم ، وبالطبع ليس حبا "محرما" في الساسة والسياسة الأمريكية، ولكن هي متابعة أقرب لمن يبحث عن خيط أبيض في النفق المظلم الطويل ، ولا
يراوده مجرد أمل ، ولكنه يحتسب عند الله ، شرف المحاولة !
وقد حدث مثل هذا بالضبط في خريف 2008 ونحن نتابع خطوة بخطوة .. ولحظة بلحظة ..المرشح الرئاسي وقتئذ، باراك حسين أوباما ، أول شاب ــ 48 سنة ــ وأول أسود "زنجي" ، وأول أمريكي له جذور إسلامية، يتقدم إلى البيت الأبيض، رافعا شعار "الأمل والتغيير" .. وكنت ــ شخصيا ــ مثل غيري ، من الذين يأملون في تحسين صورة سيدة العالم "الشريرة" ــ وعلى الأقل ــ على أساس الحق، والعدل، وعلى أساس أحكام القانون الدولي، فقط لا غير !!
واختلفت مع أستاذي الكبير الراحل "هيكل" فيما يراه بأن "أوباما" مجرد حالة يصدّرها للعالم ، صناع الرئيس ، فهو أول رئيس أسود، وهي دلالة ذات مغزى ، تنفي أصول العنصرية الأمريكية، وهو ثانيا شاب طموح ، وهي صورة تعبر عن حيوية وشباب دولة كبرى "ترهلت " بالفعل، وهو ثالثا ، ابن رجل مسلم من أصول أفريقية، وهنا دلالة أخرى لكل معاني التسامح وتقبّل الآخر .. وأذكر أن أستاذي الكبير قال : أوباما صناعة من يديرون المجتمع الأمريكي، وأوباما رجل أسود أدخله التاريخ أولئك الذين يصنعون الرؤساء في أمريكا ، في لحظة زمنية، كانت أمريكا تبحث خلالها على استراحة "رئاسية" تلتقط فيها أنفاسها، وتستعيد توازنها ، ثم يكون البحث جاريا فيما بعد عن رئيس أمريكي "حقيقي" وليس "مخلقّا" للظرف الراهن !! وهكذا .. بعد أن رحنا نراهن عليه وعلى لونه، ولم نكتشف وقتها أن أوباما لا علاقة له لا بالإسلام ولا بلونه، فكانت الصدمة كالعادة قوية ومخيبة للعرب وللمسلمين !!
والمفارقة ــ حقا ــ أن الجميع داخل الساحة العربية وخارجها، يرحبون الآن بخروجه من البيت الأبيض، بنفس درجة دخوله، وقيل ــ وأتصور أن القول صحيح ــ أن أوباما لعب في الوقت بدل الضائع منذ لحظة وصوله، فكان ينظر إلى ساعة الحائط داخل مكتب الرئاسة، أكثر مما ينظر إلى خرائط العالم وهي تشتعل من حوله !! وإذا كان علينا أن نتعلم الدرس، وأن نقرأ تجاربنا مع مجموعة رؤساء البيت الأبيض، ونقرأ تاريخنا معهم، ومواقفهم مع قضايانا بعيون ثاقبة ، ونوقف عجلة تفاؤلنا المفرط بهذا أو ذاك .. فإنني أعتقد أن الرهان على "دونالد ترامب" له طعم ولون مختلف .. لماذا ؟
* أولا : الرجل ينافس "هيلاري كلينتون" .. وماضيها وتجاربها معنا، تسببت ولا تزال في تفجير الفوضى الأمنية والسياسية ، ولها مواقف سابقة من ثورتي الشعب المصري ( 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013) وعلاقاتها معروفة وموثقة مع جماعة التنظيم الدولي للإخوان، وداخل مؤسسة كلينتون الخيرية .. وهي صورة "كربونية" من أوباما، وبوش الإبن، وكلينتون الزوج، وعلى نفس مسار السابقين، وبالتالي لا جديد في السياسة والمواقف الأمريكية ، ومن روسيا الاتحادية إلى إقليمنا العربي .. وهذا التقييم أو التوقعات، وفقا لتصريحاتها التي تؤكد من خلالها على رؤيتها السياسية إذا دخلت البيت الأبيض !
* وثانيا: السيدة كلينتون ترى أن أجندة السياسة الأمريكية الخارجية ومواقفها، لا غبار عليها، وليس هناك أفضل مما هو كائن ، (وهذا بالطبع غير صحيح) ! بينما يرى
"دونالد ترامب" بصراحته الموجعة، أن السياسة الأمريكية، دمرت وأنهكت دول كثيرة، ( وهذا صحيح وقائم في منطقتنا العربية ) .. وأن الإدارة الأمريكية، صنعت "داعش" بعد أن انتهى دور "القاعدة" كبندقية للإيجار، وأداة لضرب استقرار دول عربية .. وهو ـ أي ترامب ــ يناصب العداء المستحكم للإسلاميين المتطرفين "التكفيريين الإرهابيين"، ونحن معه بالطبع ، بينما تتحفظ على ذلك "كلينتون" لأنهم أثبتوا جدارة كأداة أمريكية ، تمت ويتم الاستفاده بها ومنها !!
* وثالثا : أغلب المواقف والرؤي التي يطرحها "ترامب" تشير أن ثمة أراء مشتركة و أفكار تجمعه مع السياسة المصرية، وفي المقدمة الموقف من جماعة الاخوان، ويصفهم بالمتشددين الإرهابيين المتطرفين ، ويتهم هيلاري كلينتون بمساعدة الاخوان للوصول للحكم على حساب الرئيس الأسبق مبارك ، قائلا : " في مصر ساعدت كلينتون على الإطاحة بنظام صديق واستبدلته بنظام متشدد تابع للإخوان المسلمين، وقد تمكن الجيش المصري من استرداد السيطرة لكن كلينتون فتحت علبة الشرور الخاصة بالإسلام المتطرف" .. موقف "ترامب" إيجابيًا جدًا تجاه السياسة المصرية ، وهو يعتقد أن جماعة الإخوان هي جماعة إرهابية وينبغي تصنيفها هكذا داخل أمريكا.. والحقيقة الغائبة، أن "ترامب" ليس ضد الإسلام والمسلمين، ولكنه يريد حربا "ضد المتطرفين" من المتأسلمين، ونحن نعاني منهم بالطبع ، ومن مصر إلى سوريا، مرورا بالعراق وليبيا .. هذا ليس إسلاما ! ولذلك طالب "ترامب" بمراقبة المساجد وتأسيس قاعدة بيانات للمسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة الامريكية، وهو ما تفعله ، بصور كثيرة أخرى، الدول العربية التي تخشى
العمليات الإرهابية .
بينما قالت هيلاري كلينتون، خلال مناظرة على الهواء مع منافسيها داخل الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز ، في شهر ديسمبر 2015 عن النظام الحاكم في مصر : " رأينا ما حدث في مصر، لقد حذرت من سقوط سريع لمبارك، وها نحن الآن مرة أخرى مع ديكتاتورية عسكرية بشكل جوهري" !!
* رابعا : من الواضح، أن صناع الرئيس في أمريكا، وجماعات المصالح والضغط ، لا تريد رجلا ينتقد الواقع ، ويكشف عورات السياسة الأمريكية، ولا يكره "العدو اللدود"
روسيا ، ويبحث عن تغيير الصورة الراهنة .. وتركزت حملات الهجوم، على جانب واحد فقط "الأخلاقي" وكأن كل نساء أمريكا والعالم تحرش بهن "ترامب" ، وكأن كل الساسة الأمريكان ملائكة، باستثناء "ترامب" شيطان النساء الوحيد .. وكأن "الملائكية" احدى صفات الرئيس الأمريكي .. وهي ليست كذلك بالطبع !
* خامسا : مواقف وتصريحات "ترامب" تثير ثيرانا هائجة داخل أمريكا وخارجها، خاصة عقب إعلانه أن ( الرئيس السورى "بشار الأسد" أقوى من الرئيس الأمريكى "باراك أوباما" وأذكى من منافسته الديمقراطية "هيلارى كلينتون )، فى إطار الحديث عن الحرب الأهلية فى سوريا فى المناظرة التى جمعته بالديمقراطية "كلينتون".. وأضاف ترامب، إن الكثير مما يحدث فى سوريا هذه الأيام نتيجة سياسات الرئيس الأمريكى باراك أوباما، والمرشحة هيلارى كلينتون، موضّحًا : "نعطى الأموال للمقاتلين فى سوريا ولا نعرف من هم".
* سادسا: انهم يخشون فوز "ترامب" رئيسا للولايات المتحدة، حتى لايلعب في ثوابت السياسة الأمريكية الخارجية، وربما ينحرف قليلا عن مصالح الشركات الكبرى من قواعد ومؤسسات "الرأسمالية المتوحشة"، فالرئيس الأمريكي، يتمتع بأكبر صلاحيات رئيس في العالم، عكس ما بروج له البعض بأن أمريكا دولة مؤسسات .. رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، يؤدي أدوار رئيس السلطة التنفيذية للحكومة الاتحادية والقائد الأعلى للقوات المسلحة.
ومنذ تأسيس الولايات المتحدة ، ازدادت قوة الرئيس، وهو المسؤول إلى حد كبير عن إملاء جدول الأعمال التشريعية في حزبه والسياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة .. غالباً مايتم وصف رئيس الولايات المتحدة في العصر الحديث بأنه الشخص الأكثر نفوذاً في العالم.. والمادة الثانية من الدستور الأمريكي تمنح السلطة التنفيذية للولايات المتحدة للرئيس، عبر تنفيذ القانون الاتحادي، إلى جانب مسؤولية تعيين المكتب التنفيذي المرافق له، و المستشارين الدبلوماسي ، الفيدرالي ، التنظيمي ، والمسؤولين القضائيين، و يخول الرئيس لمنح العفو وإرجاء تنفيذ الأحكام، وعقد وتأجيل مجلسي النواب ومجلس الشيوخ في ظل ظروف استثنائية.
وحسب البند الثاني من المادة الثانية، فإن الرئيس الأمريكي، هو قائد جميع القوات البرية والجوية والبحرية في الولايات المتحدة الأمريكية .. وعلى أساس البند السابع من المادة الأولى، يتمتع الرئيس بصلاحية مخالفة قرارات المجلس التشريعي الأمريكي، أي أنه إذا قدمت قائمة قرارات مجلس النواب ومجلس الشيوخ للرئيس كي يوقعها، فلم يوقعها ولم يصدق عليها، يجب على المجلس أن يعيد النظر بقراراته وأن يرفع نقائصها وإشكالاتها، ومن ثم يحيلها للرئيس لكي يوقعها.. وعلى أساس البند الثالث من المادة الثانية يستطيع رئيس أمريكا أن يطالب بانعقاد جلسة طارئة للكونغرس، وفي حال ظهور اختلاف
في الرؤى بين المجلسين التشريعيين حول تاريخ تعطيل الكونغرس يستطيع الرئيس أن يعطله للمدة التي يراها مناسبة.
وإذا كان لا يملك مبدئيا صلاحية إعلان الحرب ، مثلا ، فهو قرار يعود الى الكونغرس. فإن جميع حالات التدخل العسكري في الخارج، لا تعتبر اعلان حرب، وغالبا ما تعود صلاحية ارسال قوات الى المعركة فعلا الى الرئيس الأمريكي، (مثل افغانستان أو العراق) ويتدخل الكونغرس فقط من خلال التصويت على قرارات تتناول عموما جدولا زمنيا للانتشار وطبيعته وحجمه والمهمات المنوطة به.كما بامكان الرئيس استدعاء الحرس الوطني للولايات.وقد استخدم دوايت ايزنهاور وجون كينيدي هذه الصلاحيات اثر اضطرابات عرقية في الجنوب في الخمسينات والستينات.. وهذه الصلاحيات يمكن تأويلها بشكل أوسع، وعلى سبيل المثال حين قرر جورج دبليو بوش استخدام الحرس الوطني في مكافحة الارهاب، وفي هذا الاطار تنتشر حاليا قوات من الحرس الوطني الأمريكي في العراق !.
وهكذا صلاحيات واسعة للرئيس الأمريكي .. وهو ما يحلم به "ترامب" لتحقيق "حلم التغيير" .. وأتصور أن "تهوّره" لو كان متهوّرا كما يقولون .. وأن "حماقته" لو كان أحمقا .. وأن تطرفه وعصبيته ، لو كان متطرفا حقا .. سوف تدفعه لإلقاء حجر في بحيرة السياسة الأمريكية الراكدة ، واختراق "تابوهات" رسختها مصالح داخلية وخارجية ، وحافظت عليها "لوبيات" ضغط متعددة داخل الولايات المتحدة .
المؤسف أن من بيننا ، من يراهن على "كلينتون" وخاصة من العرب "أصحاب الجلابيب البيضاء" ومن الليبراليين .. وحتى صديقي الأمريكي ، الشرقاوي الأصل، واليساري السابق، على الشريف، ومن المتبرعين لحملات هيلاري كلينتون، عاتبني على رؤيتي لصالح "ترامب" ورهاني عليه من أجل تغيير "ما" في السياسة الأمريكية التي أرهقتنا، وأذلت كثيرين داخل الإقليم العربي .
أكرر .. من مصلحتنا فوز "ترامب" ، على الأقل من زاوية "متطرف مجهول أفضل من شيطان معروف" .. وإذا لم يتحقق على يديه أي تغيير ، فإننا لن نخسر شيئا مما عهدناه وعانينا منه، في صورة الهيمنة والوصاية، وصناعة التنظيمات الإرهابية .
ومن يستبعد فوز "ترامب"، فإن الفيسلوف والكاتب الفرنسي " أندريه موروا" يرى ( أن أبعد الأشياء عن الظن، هو أقربها إلى الوقوع ) .. ربما !!