القاهرة 23 اكتوبر 2016 الساعة 10:35 ص
أعبر من جديد عن أسفى لعدم تمكنى من تلبية الدعوة التى وجهت لى للمشاركة فى الملتقى الثقافى المصرى اللبنانى الأول الذى عقد بالفعل يوم الأحد الماضى وأنا غائب فى باريس.
كنت أحب أن أشارك فى هذا الملتقى لأسباب عدة منها أنى واحد من كتاب هذه الصحيفة التى بادرت هى وجمعية الصداقة المصرية ـ اللبنانية لرجال الأعمال بالدعوة لعقده. ومبادرة الأهرام تذكرنا بمبادرة المثقفين اللبنانيين الذين أنشأوا الأهرام قبل ما يزيد على مائة وأربعين عاما أثبت فيها استحقاقه لهذا الاسم ووفاءه له. ومن الأسباب التى كانت تدفعنى لحضور الملتقى وتجعله فرصة لا يصح أن تفوتنى هذه النخبة المشاركة فى الملتقى من رجال الفكر والسياسة فى البلدين الشقيقين، وهم أصدقاء أعزاء وزملاء. وأخيرا، مع أنه السبب الأول، موضوع الملتقي. وهو العلاقات الثقافية المصرية ـ اللبنانية التى أعتز بكونى شاهدا من شهودها الكثيرين المصريين واللبنانيين.
لقد كان الرومانتيكيون اللبنانيون مصدرا أساسيا من مصادرى الأولي. الشعراء المقيمون وفى مقدمتهم إلياس أبو شبكة، وشعراء المهجر وفى مقدمتهم إيليا أبو ماضى الذى بدأ هجرته إلى الولايات المتحدة من مصر وخاصة من الإسكندرية التى عاش فيها سنوات وأصدر فيها ديوانه الأول «تذكار الماضى». وأنا بدأت مسيرتى الشعرية من بيروت. قصائدى الأولى التى نظمتها فى الخمسينيات الوسطى من القرن الماضى نشرت فى مجلة «الآداب» التى أنشأها سهيل إدريس فى لبنان لتعويض «الرسالة» المصرية التى توقفت عن الصدور بسبب قرار غير مسئول اتخذه إسماعيل قبانى وزير المعارف فى حكومة ضباط يوليو وحرم به المجلة من دعم حكومى كانت تحصل عليه وتستحقه مقابل عدد من النسخ كانت الوزارة تزود به مكتبات المدارس التابعة لها، ومجموعتى الشعرية الأولى «مدينة بلا قلب» نشرت طبعتها الأولى فى بيروت فى «دار الآداب» التى تصدر المجلة وصودرت فى القاهرة لأن الرقيب المصرى آنذاك ـ عام 1959 ـ لم تعجبه، أو قل لم يفهم أبياتا لى استشهد بها رجاء النقاش فى مقدمته البديعة التى كتبها للمجموعة، والرحلة الأولى التى قمت بها خارج مصر كانت إلى دمشق ومن ثم إلى بيروت.
وأنا لست الشاهد الوحيد، وإنما الكثيرون من أبناء جيلى والأجيال السابقة والأجيال اللاحقة شهود على ما بين مصر ولبنان عامة، وبين المثقفين المصريين واللبنانيين على وجه الخصوص، وبهذه الروح ومن واقع هذه التجارب أنظر للعلاقات الثقافية المصرى اللبنانية، فأراها تتجاوز حدود العلاقات المتعارف عليها وتختلف عنها اختلافا جوهريا، للخصوصيات المحلية التى يتميز بها كل من البلدين، ولأن العلاقات الثقافية المصرية ـ اللبنانية لعبت دورا رئيسيا فى النهضة المصرية والنهضة العربية عامة، وهذا ما أشرت إليه فى المقالة السابقة، دون أن أتعرض للمراحل المختلفة التى مرت بها هذه العلاقات منذ بدأت فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر إلى اليوم، ونشطت وازدهرت فى بعض المراحل وفترت فى بعضها الآخر وتعثرت، وفى الحالين كانت السياسة حاضرة مؤثرة كما يحدث دائما اذا اعتبرنا السياسة مناخا عاما تصنعه مؤسسات الدولة والمجتمع، ويتفاعل فيه النشاط الوطنى فى كل مجالاته وبكل وجوهه الإيجابية والسلبية، التى تفتح الأبواب أمام الثقافة أو تغلقها، وتطرح عليها الأسئلة الجوهرية أو لا تطرحها، وتساعدها فى الوصول إلى الإجابات أو تمنعها من الوصول إليها.
ولو أننا عدنا إلى المناخ العام الذى كان سائدا فى البلدين فى القرن التاسع عشر لرأينا كيف بدأت العلاقات الثقافية المصرية اللبنانية، وكيف كان هذا المناخ ملائما ومشجعا، وكيف كان الدور الذى أداه كل من البلدين فى هذه العلاقات مكملا للآخر.
ونحن نرى أن مصر استطاعت فى القرن التاسع عشر، والفضل يرجع لمحمد على وأسرته، أن تهب من رقدتها، وأن تنهض نهضة شاملة لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إنها كانت نهضة أسطورية استردت فيها طاقتها على العمل والإبداع وسارت فى طريق الاستقلال بخطى حثيثة تخلصت بها من الهيمنة العثمانية البربرية، ومن النظم الدينية الموروثة من عصور الظلام، وتقدمت بعد ذلك خطوات أخرى فاصطدمت بالعثمانيين وهزمتهم واستولت على ما كان تحت يدهم من الأقطار العربية المجاورة ومنها بلاد الشام التى تحالف بعض أمرائها مع المصريين وساعدوهم فى طرد العثمانيين من بلادهم، وإنشاء سلطة جديدة تولاها إبراهيم بن محمد على ووحد بها المناطق والولايات السورية المختلفة، وتعامل مع أهلها باعتبارهم شعبا واحدا وليسوا مجموعة من الطوائف الدينية المتنازعة، كما كانت حالهم تحت حكم العثمانيين.
لكننا نعرف أن مشروع محمد على لتوحيد المنطقة وتحديثها لم يكن تهديدا للعثمانيين وحدهم، وإنما كان أيضا تهديدا للمشاريع الأوروبية الاستعمارية التى كشفت عن وجهها النقاب فيما بعد، ومن هنا تحالف العثمانيون والانجليز والروس وفرضوا على محمد على الانسحاب من بلاد الشام، على أن تكون السلطة فى مصر له ولذريته، وهكذا عاد الأتراك إلى دمشق وبيروت وحلب ليشنقوا الزعماء الأحرار، واكتفى محمد على بمصر مجالا لمشروع النهضة الذى كان من الطبيعى أن يشد أنظار العرب جميعا وخاصة اللبنانيين وعلى الأخص المسيحيين الذين اتصلوا قبل غيرهم بالأوروبيين الغربيين، خاصة الفرنسيين، وأخذوا عنهم مبادئهم الديمقراطية، ومناهجهم العقلية وهكذا بدأت العلاقات الثقافية المصرية ـ اللبنانية، فاللبنانيون كانوا فى حاجة إلى فضاء مفتوح وجدوه فى مصر «شبه الليبرالية» كما عبر الذين قدموا الملتقى فى الورقة التى أرفقوا بها الدعوة، مصر التى ازدانت عاصمتها بأول مجلس نيابى عرفته بلاد الشرق وبأول دار أوبرا، وبأول متحف... والمصريون كانوا فى حاجة لمن يتكلم لغتهم ويشاركهم آمالهم وأحلامهم، وقد وجدوه فى الكتاب والشعراء والفنانين اللبنانيين الذين اعتبروا أنفسهم واعتبرهم المصريون شركاء أصلاء فى التأسيس للثقافة المصرية الحديثة، التى كانت بطبيعتها تأسيسا للنهضة المصرية والعربية، فهى إذن نشاط جامع يتسع لكل المتحدثين باللغة العربية، وهى من ناحية أخرى نشاط خطر لا يسلم المشتغلون به من الصدام مع كل القوى المعادية لحرية التفكير والتعبير، فى الماضى وفى الحاضر، وربما استكملت ما بدأته فى المقالة المقبلة.