القاهرة 04 اكتوبر 2016 الساعة 01:58 م
المتأمل للوعي العربي على أرض الواقع يمكنه أن يرى اختلافات سلوكية تصل حد التناقض أحيانا في ممارسات وأفعال الشعوب ، وبخاصة عند مقارنة السلوكيات المتعددة بتعدد الأشخاص حول الشيء الواحد في المواقف المختلفة .
لا يتطلب الأمر بالضرورة أن نكون فلاسفة أو مفكرين من الطراز الرفيع لكي نرى بأنفسنا ونشاهد هذا التزايد المستمر في خلط المفاهيم ، وهذا التعدد المربك في وجهات النظر حول الشيء الواحد ، فكثير من المفاهيم الأساسية لم تعد محددة المعالم بيننا ، وبالتالي تعددت معانيها تبعا لتعدد العقول والأفهام التي تتعامل معها وبها ، وإلا ، فليخبرنا من ينكر ، ما المفهوم المتفق عليه في وعينا العربي عن: الفقر، والأمية ، والجهل، والتطرف، والتشدد، وقبول الآخر، والكفر، والإيمان، والخيانة ، والأمانة، وغيرها كثير مما اختلطت علينا حدوده فتعددت معانيه.
وما بالنا لو أوغلنا في مفاهيم أعمق وأصعب مثل: الديمقراطية، والعدالة ، والحرية، والثقافة ، والوعي ، ....إلخ ؟
وما بالنا إذا حاولنا تعريف هويتنا وتراثنا ووجودنا وقيمتنا ؟
هل في الإمكان أن نجد شعبا عربيا واحدا لديه اتفاقات على هذه المفاهيم ؟
وهل فشلت كل شعوب العالم في تحديد مفاهيمها ، والالتزام بمعان محددة لها ؟
بالطبع لم تفشل كل شعوب العالم ، وإنما تحيط بنا نماذج عديدة لدول بعضها كان يحاول النهوض من كوارث عامة أو مدمرة ( اليابان ، وروسيا ، والصين ) ، وبعضها لم يكن لها وجود عالمي فاعل من قبل (ماليزيا ، كوريا ، فنلندا ، كوستاريكا) ، وبعضها كانت تحت الحصار (إيران) ، وجميعها استطاع أن يقف على نقطة البداية الصحيحة ، وفي غضون سنوات كان قد أعد شعبا ، وصنع حضارة، واحتجز مكانته بين الأمم المعاصرة .
لقد وقفت كل الشعوب السابقة على نقطة البداية الصحيحة بأن حددت مفاهيمها ، وبالتالي عرفت كيف تحدد الطريق ، وكيف تسير فيه ، فالتعليم يعني كذا وكذا ، وبالتالي متطلباته كذا وكذا ، والصحة كذلك ، والفقر والجهل ، وغيرها كثير مما يتعين على الدول أن تقف أمامه في مراحل تحولها ، بل كل عدة أعوام عبر مسيرتها .
دعونا نصارح أنفسنا بأن الوعي العربي لا يكاد يتفق إلا على القليل من المفاهيم التي يعيش في إطارها ، فمفهومه عن الجهل مثلا لم يعد صالحا للحياة
منذ سنوات طويلة ، فما بالنا بالآن وغدا !
فهل الجهل عنده هو المناقض للعلم بالشيء ؟ وإذا كان كذلك فما تصنيفه لمن يجهلون غالبية أشياء الحياة المعاصرة والتي تلخصها قوائم المهارات الحياتية (التي تضع لها دول العالم مقررات ومناهج تعليمية) ، أم أن الجهل عنده يختلط بالأمية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل هي الأمية القرائية والكتابية ، أم الأمية الحضارية ، أم الأمية القانونية ، أم الأمية العلمية ، أم الأمية العقائدية ، أم الأمية التكنولوجية ، أم غيرها من التصنيفات التي رصدتها الدول التي عرفت نقطة انطلاقها وبدايتها ؟ ، وقد بلغ بِنَا الأمر مداه في الاختلاط فشهدنا ونشهد في واقعنا العربي اتهامات متوالية بالجهل بين من كنّا نحسبهم علماء ومفكرين ومثقفين وقراء ومتعلمين ، وتقدمنا خطوات في الطريق فتسربت هذه الأحكام إلى حرم المؤسسات الجامعية والبحثية والعلمية الرفيعة ، وغدا وصف العلماء بالجهل أمر لا يثير الغرابة أو الاستهجان ، ولم تظهر أي محاولة حتى الآن لإيقاف هذا الخلل ، وتحديد مفاهيم الجهل والأمية وما يرتبط بها من مفردات نتداولها في ممارساتنا اليومية .
مثال آخر لمفهوم جوهري نحيا به ، وأصابه الخلط والخلل مما أثر على طبيعة الحياة ذاتها ، وهو مفهوم الفقر ، فالتعريف العربي له لم يعد صالحا للحد الأدنى من المعيشة عالميا ، فهل الفقير هو الذي يقل دخله السنوي عن 600 دولار تبعا لتعريف البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ؟ أم أن الفقير هو الذي تتدنى مستويات حصوله على حقوقه الأساسية في الحياة (التعليم والصحة والتغذية ) على نحو جيد ؟ أم أن الفقير هو من لا يستطيع الحصول على متطلباته الأساسية كما فرضها المجتمع الاستهلاكي المعاصر ، والذي يضطر غالبا للتوفير من دخله شهورا وسنين من أجل الحصول على سلعة أو منتج أساسي له أو لمنزله ؟ أم أن الفقير هو من يعاني في توفير غذائه وملبسه ومسكنه كما هو حادث مع عدد غير قليل من أفراد مجتمعنا المصري .
بالنظر إلى المجتمعات العربية وبخاصة مصر، سيتضح حجم الخلط المفاهيمي لتعريف الفقر ، وبخاصة مع الأرقام التي تداولتها وسائل الإعلام في السنوات الخمس الأخيرة عن حجم الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج ، وحجم الأموال المهدرة بفعل الفساد ، تلك الأرقام الضخمة التي جعلت أصحاب الوظائف العليا من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعيين وخبراء ورؤساء مجالس إدارات وغيرهم يشعرون جميعا بأنهم دون مستوى الفقر قياسا إلى ما تكشف لهم من رواتب عند محاولة تطبيق الحد الأقصى للأجور ، والبلبلة التي أثيرت بفعل هذه القضية ، والتي لم تحل حتى الآن . فما بالنا بالموظف الصغير والمواطن العادي ومحدود الدخل ومن لا دخول ثابتة لهم ، وبخاصة إذا علمنا أن عدد موظفي القطاع العام لا يزيد عن ستة ملايين من إجمالي الملايين التسعين تبعا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ؟
وعليه فالسؤال : لماذا تفشل كل الإجراءات التي تتخذ من أجل الحد من معدلات الفقر؟ هل لأن الدولة يغيب عنها الدراية بجذور الفقر وتشعباته في التعليم والصحة والإنجاب والجريمة والتهام معدلات التنمية ؟ أم لأنها تضع الخطط لمعالجة الرأس دون الاهتمام بالجذع ؟ أم لأن تغلغل الفساد المتوارث يعوق أي إرادة للتنمية؟ أم لأنها لم تحدد مفهومها عن الفقر بما يتناسب والعدالة الاجتماعية المنشودة ؟
وأيا ما كان الأمر، فإنه لايمكن البدء في إصلاح كل هذا إلا بعد تحديد مفهوم الفقر إجرائيا وتبعا للتطورات العالمية لمفهوم الفقر ذاته ، وهو ما سيقود للكشف عن الطبقية الشديدة على مستوى البلد الواحد ، وربما هذا هو جوهر الأسباب .
أما المثال الثالث فهو الأكثر خطورة مما سبق نظرا لارتباطه بالممارسات العملية واليومية للمواطن العربي ، وهو المستوى التداولي ، ذلك أن كل المفاهيم اليومية المتداولة بين الناس ليست لها ضوابط محددة ، فمفاهيم العمل وإتقانه وجودته اختلطت بمقولات “ على قدر فلوسه “ ، و “ ليس في الإمكان أبدع مما كان “ ، و “ زينا زي غيرنا “ ، و “ أنا بعمل أكتر من كل اللي حواليا “ ، و “ أنا مش ح أكون أحسن من رؤسائى ولا أكتر منهم عملا “ ، وغيرها مما يحلو للبعض انتقاده والتندر به وكأنه بذلك وضع يده على السر ولا دخل له بما سيحدث بعدها لأنها ليست مسؤليته .
مفهوم المسؤلية ذاته اختلط بين إلقاء الأعباء الأساسية على الآخرين ، أو على المرؤسين ، أو على الحكومة ، وتنصل كل من مسؤليته ، إلى الدرجة التي تجد فيها المسؤول الرئيسي عن الأمر يخبرك بكل بساطة أنها ليست مسؤليته ، والأمثلة على ذلك كثير ، فالطبيب في المستشفى ليس مسؤلا عن المريض لأنها ليست ورديته ، ورجل الأمن ليس مسؤلا لأنها ليست منطقة اختصاصه ، وأستاذ الجامعة ليس مسؤلا لأنه ليس تخصصه ، والمواطن في الشارع ليس مسؤلا عن التخريب الذي يقوم به آخرون لأنه منشغل بحاله فقط ، وهكذا تخلى كل عن مسؤلياته لأن المسؤليات في الأساس لم تعد محددة ولا ضابط لها ، ولا مفاهيم قاطعة لحدودها .
أما عن مفاهيم التكفير والتخوين والوطنية فحدث ولا حرج ، فكل مؤسسة داخل الدولة الواحدة لديها ضوابطها ومحدداتها وتعريفها الخاص بها والمتناسب مع توجهاتها ، وكذلك تتعدد المضامين للمفهوم الواحد مع كل جماعة أو فئة تربطهم أيديولوجيا ، وكل شريحة من المجتمع تربطها مصالح مشتركة ، وكل مجموعة من الأفراد يربطهم وعي متقارب ، ويصل الأمر إلى اختلاف معاني هذه المفاهيم بين أفراد الأسرة الواحدة ، وهو ما عمقه وساعد عليه صعود جماعة الإخوان إلى الحكم في غفلة من الزمن وغيبة من الوعي ، وخلط في المفاهيم ، غير أن حكمهم زال ، وبقي الخلط ينذر بأخطار لابد من تداركها وبوعي دقيق .
فإذا ما انتقلنا للتعليم ومفاهيمه ومتطلباتنا منه ، فإنه معروف للجميع تدني مستوى ومكانة التعليم العربي في التصنيفات العالمية كما تشير التقارير والجداول والإحصاءات ، ذلك أننا لم نحدد ماذا نعني بالتعليم ، وماذا نريد منه ، وما مواصفات الخريج في كل تخصص ، وكيف يتم ذلك في كل مراحلة ، وكيف يتم تحديد المفاهيم أولا ، لتتضح معالم الطريق .
فكيف تستطيع الدول العربية أن تقف وأحوال التعليم فيها متردية ومفاهيمه مختلطه ، وأهدافه غير واضحة ؟ كيف تستطيع المواصلة في عالم أصبح أكثر شراسة باعتماده علي العلم والإنتاج الفكري اللذان هما نتاج التعليم ولا شيء سواه ؟
وباختصار ، نحن بحاجة حقيقية وعاجلة لأن نحدد مفاهيم كل شيء في حياتنا ووعينا العربي ، بدءا من مفاهيم القيم والأخلاق التي توارثناها ونظنها ثابتة ، ومرورا بمعاني عاداتنا وتقاليدنا ، وانتهاء بالمفاهيم العلمية ذاتها ، والتي يعرف المتخصصون في أي مجال مدى اختلافنا حول المصطلح وقضاياه .
أمر آخر يحتم علينا ضرورة تحديد مفاهيمنا ، وهو التحولات العالمية التي لسنا بمعزل عنها ، وهي ما تسمى قيم الحداثة وما بعد الحداثة ، وتوجد في مصر –على حد علمي – دراسات وبحوث اجتماعية عديدة ترصد أثر هذه القيم على المجتمعات ، والتحولات التي طرأت على الأفراد وبالتالي غيرت من منظومة القيم لديهم ، وهو ما يمكن مراقبته واقعيا في مفاهيمنا عن الزواج –مثلا- ، ومدى تأثره بالعولمة والمجتمعات الاستهلاكية ، وذلك في كل مراحله بدءا من الخطوبة ، وانتهاء بما بعد الزواج .
هذه الدراسات والبحوث في كل العلوم الإنسانية هي التي يجب أن تساعدنا علي تحديد مفاهيمنا وأبعادها ، وهي التي يجب أن تنتبه إليه الدولة وتتبناه ، فهي بالفعل دراسات حبيسة الأدراج .
نحن في خطر لأننا لم نحدد حتى الآن مفاهيم ضرورية للحياة ، مثل : العدالة ، والقانون ، والأمانة ، والشرف ، والجهل ، والتعليم ، والحرية ، والديمقراطية ، والفقر ، والغنى، وغيرها وغيرها .
تصورنا أو نتصور أن منظومة القيم ثابتة ، وهذا غير صحيح ، فالقيم متغيرة بتغير طبيعة الحياة ، القيم متحركة تتسع لتشمل أنظمة حياة جديدة ، وبالتالي
فهي في حاجة لتحديث مستمر .
ما يندرج على القيم يندرج بالضرورة علي بقية مفاهيمنا، وبخاصة تلك التي تتعلق بممارساتنا اليومية ، والتي تتحكم في مسيرتنا ، وتوجهنا نحو القيام بعمل ما دون عمل آخر ، والتصرف بطريقة ما دون الأخرى .
واقعنا يحتاج لاهتمام بالتعليم والعلم والتثقيف والثقافة ، والتفكير والوعي ، لأنها المداخل الوحيدة لأي تنمية أو تطوير أو تحديث ، وبدونها فلن يكون لنا مستقبل ، ولن نستطيع المواصلة في ظل ما يحتكم إليه العالم ، وما يعتمد عليه من استثمار في العقول ، وتسخير للعلم في خدمة أهدافه السياسية والاقتصادية والتنموية ، وحتى الاستعمارية بمفاهيم الاستعمار الجديد ، وبحروب الجيل الرابع والخامس التي تعتمد تفكيك الشعوب عن بعد ، والغزو الفكري ، والحصار الاقتصادي ، ومحو الهويات الفرعية ، وبالتالي فرض الهيمنة والسلطة ، لامتلاكها كل أدوات الإنتاج ، وتحويلنا إلى شعوب استهلاكية لاهثة كما بدأت تتضح معالمه الآن .
قليل من التأمل يكفينا أن ننتبه لملامح هذا المستقبل المخيف ، والذي ما تزال الفرصة بين أيدينا لمواجهته واحتجاز مكانتنا بين صفوف مالكيه ، وبخاصة أننا نمتلك أدوات الإنتاج ، ونمتلك العلماء والمفكرين والباحثين وأصحاب الصنائع ، ونمتلك البحوث والدراسات ، نمتلك العقول والطاقات المهدرة من شباب وكبار ، نمتلك القوى الناعمة التي تعتمدها الشعوب بوصفها أقوى الأسلحة ، نمتلك القوى الحقيقية لكننا نغفل عنها ، نمتلك ذلك كله ، ولكنا نحتاج لتحديد المفاهيم أولا ، ثم وضع الشعوب في مساراتها الصحيحة ، وهي القوى الوحيدة القابلة للبناء والإنتاج .