القاهرة 28 سبتمبر 2016 الساعة 02:43 م
يبدو أن الزعيم العربي جمال عبد الناصر، سيبقى عصيّا على الموت والغياب،
بشخصيته المتفردة .. عاش بمقاييس الزمن ، حياة قصيرة ، فقد رحل عن 52 عاما و8 أشهر و 13 يوما ، ظهر فيها على مسرح التاريخ لمدة 18 عام ، مثلت فصل إستثنائى فى التاريخ العربى كله .. "زعيم استثنائي" أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة ، وأعطى لهذا اليقين المتجدد، حركته التاريخية ، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها، وحول أرضها، وفي العالم .
بعد رحيل الزعيم العربي "ناصر" ، أثارت وسائل الإعلام الغربية ، مسألة "دور الفرد في التاريخ " وتناولت مجلة الإيكونوميست الأمريكية، في تحليل لها في العام 1984، "ظاهرة الزعيم " وأن ( أزمة العالم العربي، هي البحث عن القائد الزعيم، والذي بقي مكانه شاغرا بعد رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر ) .. وهو ما عبر عنه الكاتب الأمريكي الشهير "توماس فريدمان" بأنه مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد العالم العربي "الربان" الذي كان يأمر.. فيطاع، ويقول .. فيستمع إليه جميع القادة العرب، ويقرر .. فينفذون، كانت لديه القدرة و"الملكة" على التأثير النافذ في الشعوب العربية قاطبة " ..
وهكذا .. كان دور جمال عبد الناصر، رقما بارزا في حسابات التعريف التاريخي لدور الفرد في مرحلة تاريخية معينة .. ويبقى دوره كاشفا لدلالات ومعان دور الفرد التاريخي من حيث الالتحام والتوحد مع دور مصر .. من حيث معايشته لضرورات وأحكام هذا الدور .. وربما يمكن القول ــ تجاوزا ــ وكأن دور مصر كان يترقب دور الرجل ، بعد سنوات من عمر التاريخ شهدت حصارا على هذا الدور ، أو إغفالا أو تجاهلا لمقدرات ومفهوم دور مصر ، أو العجز عن إدراك الموروث التاريخي والحضاري والإنساني لهذا الدور ، أو عدم القدرة على استلهام روح مصر ، واكتشاف أبعاد الدور المصري الذي يتجاوز حدوده إلى ما هو أبعد من الموقع الجغرافي، وباعتبار أن قدر مصر أن تصبح قوة إقليمية فاعلة ونافذة ومؤثرة بعروبتها وبعمقها الاستراتيجي في أفريقيا ، وقوة عالمية بمكانتها وتأثيرها في حركة الأحداث داخل العالم الثالث، وبعمقها الاستراتيجي داخل الدائرة الإسلامية الأوسع.
وإذا كانت الحركة التاريخية التي قادها جمال عبد الناصر قد أثرت في منطقة تجاوزت حدود الدوائر الثلاث العربية والأفريقية والإسلامية، فإن دوره بالأساس كان يعتمد على الوعي الاستراتيجي باحكام دور مصر ، وبمصلحة مصر الاستراتيجية .. ولذلك لايزال الرجل متفردا بزعامته في وجدان الأمة ، وأن يتحرك خاطرا يحوم حولها كل يوم .. ومثل هذا لا يزال قائما فوق ساحتنا العربية وخارجها .. ومثل هذا وجده الأديب الكبير بهاء طاهر متجسدا في أفريقيا .
وتقول الواقعة كما يرويها الروائي الكبير :
كنا في رحلة من العاصمة نيروبي إلى مدينة كينية أخرى ، وتوقفت بالسيارة في قرية صغيرة على الطريق فتوجهت مع مجموعة من جنسيات مختلفة نبحث عن سجائر في ذلك المكان .. دلونا على دكان صغير يشبه مثله في أي قرية من قرانا ، حيث تتكوم أجولة السكر والدقيق في ناحية وبجوارها صفائح الزيت وقطع الصابون المرصوصة ، وأوعية تضم حلوى للأطفال ، ورف للسجائر .. ألخ ، ووسط كل تلك الفوضى كانت هناك ، في صدر المحل صورة مثبتة بالدبابيس في الحائط ، صورة ملونة قديمة لوجه يبتسم ، وكنت أعرفها جيدا " صورة جمال عبد الناصر " .. وعندما اشتريت السجائر من صاحب الدكان العجوز ، سألته بشكل عابر :
صورة من هذه المعلقة هناك ؟
فالتفت الرجل خلفه في دهشة مشيرا إلى الصورة وهو يسألني :
ألا تعرف من هو ؟
قلت : لا
فقال الرجل ببساطة : هذا هو أبو أفريقيا .
ويضيف طاهر : لن أنسى ما حييت البساطة واليقين في لهجة ذلك الرجل الأشيب وهو يقول ليّ بلكنته الأفريقية ( This is the father of Africa ) وقفت صامتا للحظة .. كنت قد تركت مصر وقتها ، وصحف العهد تتبارى في الهجوم على عبد الناصر ، لم يترك الكتّاب نقيصة إلا وألصقوها به ، وكان نشر صورته أيامها من المحرمات ، ناهيك بالطبع عن إذاعة صوته ، أو الإشارة إلى أي شئ حسن فعله في حياته ، حتى بحيرة ناصر خلف السد العالي ، معركته الكبرى ، وإنجازه الباقي ، شطبوا اسمه من عليها مخافة أن يذكر الناس به .. "
رجل عبد الناصر.. واقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولى، وبلغ سعر الجنيه الذهب 4 جنيه مصر.. رحل بعد أن تحقق له حلم إنشاء أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث، حيث بلغت عدد المصانع التى أنشأت فى عهده 1200 مصنع ، منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية وإستراتيجية .. وتم إدخال الكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والوحدات الصحية والجمعيات الزراعية إلى كل قرى مصر، وتم ضمان التأمين الصحي والإجتماعي والمعاشات لكل مواطن مصري .. وزيادة مساحة الرقعة الزراعية بنسبة 15% ولأول مرة تسبق الزيادة فى رقعة الأرض الزراعية الزيادة فى عدد السكان .. وزاد عدد الشباب فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا بأكثر من 300 % .. وزادت مساحة الأراضى المملوكة لفئة صغار الفلاحين من 2,1 مليون فدان إلى حوالى 4 مليون فدان .. وكل ذلك تم بدون ديون على مصر..
ولم تكن عملة مصر مرتبطة بالدولار الأمريكى، بل كان الجنيه المصرى يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريال سعودى بأسعار البنك المركزى المصري.. رحل الزعيم الإستثنائي ولم تكن هناك بطالة، ولم تكن هناك أزمة تعيينات أو وسائط أو رشاوي.. وربما كان الأهم ، والأكثر أهمية ، أن مصر لم تسمع في حياته عن "فتنة طائفية".
وربما لا يعرف كثيرون .. ممن يلقون السمع لمن يتغنى بهزيمة 1967 .. أن الاقتصاد المصري، على الرغم من هزيمة الجيش في 67 استطاع أن يتحمل تكاليف إتمام بناء مشروع السد العالي الذي اختارته الأمم المتحدة عام 2000 كأعظم مشروع هندسى وتنموى فى القرن العشرين، والذى يعادل فى بناؤه 17 هرم من طراز هرم خوفو .. ورغم آثار الهزيمة العسكرية، فإن الإرادة المصرية لم تهزم ، وتم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادي، وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليار جنيه .. واستطاعت مصر فى ظل نكسة 67 أن تحافظ على نسبة النمو الإقتصادى كما كان قبل النكسة، بل أن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا، وفقا لتقرير وزارة المالية المصرية والبنك الدولي .. واستطاع الاقتصاد المصري عام 1969 أن يحقق زيادة في فائض الميزان التجاري ــ لأول وآخر مرة فى تاريخ مصر ــ بفائض قدرها 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان .. وتم وضع حدود دنيا وعليا للرواتب والمرتبات، مراعاة للمساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب، فلا أحد يعيش برفاهة وبذخ، ولا أحد يعيش دون مستوى الكفاف.
ويبدو أن العدالة الإجتماعية رحلت .. مع رحيل جمال عبد الناصر .
وفي مجمل الأحوال فإن الملائكة لا يسكنون الأرض ، والرجل الكبير ــ رحمه الله ــ خاض تجربة متفردة في تاريخ مصر والأمة العربية.. وللتجربة إيجابيات وسلبيات ، ولكنه حاول أن يحدد ملامح المشروع العربي الكبير، وهو يحمل هموم أمته ، قاصدا العبور إلى مرحلة التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، وقد كان عظيما مع كل المحاولات .. ولأنه لا يمكن إلا أن يكون هكذا .