القاهرة 25 سبتمبر 2016 الساعة 02:24 م
هل قام بليز سندرارس حقاً بتلك الرحلة في القطار العابر سيبيريا خلال الفترة التي اندلعت فيها الثورة الروسية الأولى في العام 1905، أم أنه اختلق الحكاية كلها، كما كان من دأبه أن يفعل بين الحين والآخر؟ ليس ثمة جواب واضح عن هذا السؤال. ومع هذا كانت نتيجة الرحلة كتاباً شعرياً - وليس كتاباً نثرياً كما يشير العنوان! - يعتبر أحياناً «واحداً من أجمل الكتب في تاريخ النشر الفرنسي» وفق ما تقول طبعة جديدة من الكتاب صدرت عام 2008 بعدما كانت طبعته الأولى والأساسية صدرت العام 1913. أما حكاية جمال الكتاب فلا تعود بالطبع فقط الى نصوصه أو إلى حسن طباعته، بل بالتحديد لأنه أتى كتاباً مشتركاً بين الشعر والرسم، إذ وضعت له رسوماً في منتهى الجمال يومها واحدة من أشهر رسامات بدايات القرن العشرين، صونيا ديلوناي زوجة روبير ديلوناي، التي كانت وزوجها من أهل الطليعة الفرنسية وكان أبولينير قدمهما لسندرارس الذي سيرتبط معهما بصداقة طويلة. وكان هذا الكتاب والتعاون في الاشتغال عليه من علامات تلك الصداقة.
> مهما يكن من أمر، إذا كان سندرارس «يتحدث» في الكتاب عن رحلة عبر سيبيريا في العام 1905، فإنه لم يكتب تلك القصيدة الطويلة التي تشكّل نص الكتاب إلا في العام 1913، وبالتحديد كي تشكل الجانب اللغوي من ذلك المشروع العجيب الذي انتهى به الأمر في ذلك الحين إلى أن يُطبع في 150 نسخة فقط. وذلك بسبب الافتقار الى النفقات الكافية لطباعة كتاب يصل عرضه الى مترين.... أما نفقات ما طبع منه بالفعل فقد جُمعت من خلال اكتتاب بين الأصدقاء الذين دفع كل منهم ثمن نسخته مسبقاً.
> والحال أن هذا الكتب لا يزال يُنظر اليه اليوم كعمل تجريبي تشكيلي أكثر مما هو نص أدبي شعري. أما من هذه الناحية الأخيرة فإنه لا يعدو أن يكون «مجرد» قصيدة شعرية طويلة تتحدث عن «ذلك الشاب» الذي قام بالرحلة من موسكو الى خاربين مع الصبية الباريسية المسماة هنا «جان جانيت نينيت» والملقبة بجيهان، والتي سوف يُتبيّن في نهاية القصيدة أنها ليست أكثر من فتاة هوى، أو هذا على الأقل ما يفيدنا الشاعر بأنه اكتشفه بعد مخاض غرامي طويل. ولقد كتب سندرارس النص في مرحلة كان منصرفاً فيها كلياً الى كتابة نصوص شعرية متنوعة حول تجوالات في مناطق متنوعة من العالم يبدو أنه كان تجوّل في بعضها بالفعل ليخترع بعضها الآخر على هواه. ومن هنا عدم اليقين في ما يتعلق بسيبيريا بالتحديد. المهم أن النصّ الشعري، على جماله لم يكن أهم ما في الكتاب. فالذي لفت الأنظار حقاً وأعطى لهذا العمل فرادته في تاريخ النشر، كان الجانب التشكيلي فيه، حيث إن صونيا ديلوناي، وجدتها فرصة مناسبة لكي تختبر هنا أشكالاً فنية جديدة ولا سيما على مستوى الألوان وتفاعلها مع الورق الخاص الذي طُبع الكتاب عليه، ومن ثم تفاعل تشكيل الرسوم نفسها مع الفكرة التي قضت بأن تُطوى الصفحات، وكل منها على حدة بحيث يشكل الكتاب، بنسخة المئة والخمسين نوعاً من عمود يصل ارتفاعه الى أكثر من ارتفاع برج إيفل. وهذا أيضاً ما أعطى للمشروع كله، ليس سمة المغامرة التأليفية وفي مجالي الشعر والرسم، بل كذلك سمته كنوع من «حدث» في العالم الثقافي... واعتبر نوعاً من «افتتاح لغة شعرية وتشكيلية جديدة». ولقد كان تجديدياً أيضاً أسلوب العمل حيث طوال أسابيع كان سندرارس يجلس في محترف صونيا الباريسي ليقرأ أشعار النص في ما هي، وفي شكل فوري تنشر ألوانها في استلهام مباشر من تلك الأشعار. وكانت النتيجة ذلك العمل الذي يتميّز بجدّته حتى الآن مع أنه قُلّد كثيراً بعد ذلك.
> أما بالنسبة إلى سندرارس، فإن الكتاب أضفى عليه هالة جديدة لكنه زاد من تناقضاته. إذ ما من كاتب فرنسي جاد وطليعي كتب بمقدار ما كتب هو على مدى أكثر من ستين عاماً من حياة أدبية طويلة، وما من كاتب فرنسي أبدى من الاحتقار للكتابة ومن كراهية لها مقدار ما أبدى بليز سندرارس. ولم يكن ذلك بالتناقض الوحيد في حياة «صاحب اليد المقطوعة»، هذا الكاتب الذي يقول مؤرخو سيرة حياته، أنه لئن كان ضحية لشيء ما في حياته، فإنه لم يكن سوى ضحية للأسطورة التي صنعها لنفسه وصاغها بكل دقة، ثم وقع أسيراً لها، من دون أن تكون بالضرورة حقيقية وتتطابق مع حياته وأسطورته الحقيقية. «كانت أسطورة ابتدعها هو نفسه، وساعد أصدقاؤه في تعزيزها: أسطورة الرجل العملي، رجل المغامرات المأخوذ بهوس الحياة، وهوس الحياة الخطرة تحديداً، الكاره الفن والفنانين، وغير الراغب إلا في التشرد والتجوال. إن هذا الرجل الذي كان يرفض على الدوام أن يكون رجل أدب، كتب أكثر من أي كاتب آخر، وكتب باستمرار مدهش». ومع هذا، رغم كثرة كتاباته وكثافتها، عرفت أسطورة بليز سندرارس كيف تعمل دائماً على إخفاء الكاتب خلف قناع الرجل، مع أن الحقيقة تقول أن هذا الكاتب لئن كان قد تشرد وتجول فإنه إنما فعل هذا على صفحات الورق أكثر مما فعله في الحياة الحقيقية. أما بحار العالم وشطآنه التي تجوّل فيها كثيراً، فكانت في أغلب الأحيان من بنات أفكاره. وأما حبه للحياة وهوسه بها، فإنهما انما كانا القناع الذي أخفى وراءه كآبته الحقيقية وسأمه من كل شيء: من الحياة قبل أي شيء آخر!
> ولد سندرارس، وهو سويسري الأصل في مدينة شودي فان في العام 1887 وكان اسمه الأصلي فردريك سوزيه، أما بليز سندرارس فهو الاسم الذي اختاره لنفسه حين أضحى كاتباً. ولقد بدأ سندرارس حياته ككاتب في شكل مبكر ومبتكر، إذ إنه يعتبر حتى أيامنا هذه، من أكبر المجدّدين في الشعر والكتابة الفرنسية الى جانب أبولينير. وهو ابتكر، باكراً، ذلك الأسلوب العنيف والقوي، الذي ساعده في التعبير عن حياة العمل والعنف والخطر، التي عاشها جزئياً وحلم بها جزئياً. ومن هنا فإن كتابيه الكبيرين الأولين اللذين حققا له القدر الأكبر من الشهرة، وهما «أعياد الفصح في نيويورك» (1912) و «نثر عابر سيبيريا وجيهان فرنسا الصغيرة» الذي نتناوله هنا، كانا في الوقت نفسه كتابي سفر وشكوى وحزن وتشرد في طول الأرض وعرضها.
> وتماماً كما عاش سندرارس مبحراً في بحور الحياة، حقيقةً أو وهماً، فإنه عاش كتابته كذلك مبحراً في بحور الكلام، فجاءت نصوصه عبارة عن مزيج من الشعر والنثر والصور والخوارق والأساطير ووصف الطبيعة والمشاعر، وكان من الواضح أنه من كل ذلك انما كان يتوخى أن يجعل لعنصر المفاجأة في النص دوراً أول. وهو نجح في ذلك الى حد بعيد حيث عرفت سطوره دائماً بكونها تخفي طي الكلمات مفاجآت ومشاعر مثيرة. لكن سندرارس لم يكتب الشعر وحده بل كتب القصة أيضاً، ومن أشهر قصصه «التجوال» (1948) التي تعتبر أعظم تمجيد خطّه يراع كاتب قصد تمجيد الحياة الخطرة. وينضوي هذا النص على الرغم من بعده الروائي الواضح، ضمن إطار النصوص التي كتبها بليز سندرارس عن حياته وسيرته الذاتية وكلها نصوص عنيفة غريبة يمتزج الواقع فيها بالخيال.
> على الرغم من كثرة ما كتبه سندرارس ووجوده الحي في الحياة الثقافية الفرنسية، ظل النقاد الفرنسيون يتجاهلونه غير راغبين في أخذه على محمل الجدية، لذلك كان بإمكانه أن يرحل مغموراً (في الحادي والعشرين من كانون الثاني - يناير- 1961) لولا أن اكتشفه الكاتب الأميركي، المقيم في باريس، هنري ميلر وبدأ يتحدث عنه واصفاً إياه بأنه «قارة بأسرها من الأدب الحديث». وهكذا، بفضل ميلر بات سندرارس معروفاً ومعترفاً به على نطاق واسع. ولقد بلغت شهرته أوجها في عام وفاته، أي في العام 1961، حين منح «جائزة الآداب الكبرى لمدينة باريس» وكانت واحدة من أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية في ذلك الحين. ونذكر من بين كتب بليز سندرارس الشهيرة الأخرى: «باناما أو مغامرة أعمامي السبعة» (1918)، «الذهب» (1925)، «مورافا جين» (1926)، «حكايات حقيقية» (1937)، «الحياة الخطرة» (1938)، «الرجل المصعوق» (1945)، «اليد المقطوعة» (1946)، «بليز سندرارس يتحدث إليكم» (1952)...