القاهرة 20 سبتمبر 2016 الساعة 11:41 ص
• خطأ الفيلم الفادح في الإيحاء بأن السبيل لتحرير البلاد من خطر «داعش» يكمن في التعاون مع «جبهة النصرة» !
«الناس الوحيدون الذين يُقاتلون (داعش) و(القاعدة) هم حكومتا (العراق) و(سوريا) وجيشيهما المحترمين وحُلفاء هاتين الحكومتين،والباقي ليسوا سوى بريقٍ كاذب في أفضل حالاته وإرباكٍ متعمّدٍ وتشويشٍ وتضليلٍ معلوماتي في أسوأ حالاته» قالها جورج جالاواي السياسي البريطاني الشهير والنائب السابق في البرلمان الإنجليزي،وآمن بها المخرج السوري نجدت أنزور ثم انطلق منها ليصنع فيلمه «فانية وتتبدد»،الذي انتهت أحداثه بتدمير تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا ب «داعش»،وينجح في ساعتين على الشاشة في ما فشلت فيه سوريا وقوى عالمية عظمى طوال سنوات على أرض الواقع !
«فانية وتتبدد» هو العنوان الذي اختاره «أنزور» للرد على شعار «باقية وتتمدد»،الذي يرفعه التنظيم الإرهابي،لكن العمل، الذي مثل أول تجربة تعاون بين مؤسسة السينما في سوريا والشركة الإنتاجية التي يملكها «أنزور»،بدا وكأنه واحد ٌ من الأفلام التي تنتجها «الشئون المعنوية» في الجيوش النظامية؛فالفيلم المأخوذ عن فكرة ل هالة ديب كتبت لها السيناريو والحوار ديانا كمال الدين،يتوقف،بشكل خطابي دعائي مباشر،عند أشكال العنف الجسدي والبطش الفكري التي مارسها التنظيم المتطرف في حق سكّان إحدى البلدات السوريّة،وينتهي باللحظة التي يستعيد فيها الجيش السوري السيطرة على البلدة،وارتفاع العلم على الأرض المحررة،فيما يهرب أمير التنظيم «أبو الوليد» (الممثل السوري فايز قزق) بأمواله،متخفياً في زي امرأة منقبة،على طريقة رموز الجماعة الإرهابية في مصر !
نهاية مفتوحة،وليست النهاية السعيدة التخديرية التي تعني أن «كل شيء صار على ما يرام» و«قُطع دابر القوم الذين ظلموا»؛ فالإبقاء على «الأمير» على قيد الحياًة يحمل رسالة تحذيرية بأن الخطر مازال قائماً،وأن مخالب المؤامرة لم تُقتلع نهائياً،وهو تحذير عاقل للغاية لكن العقل لم يكن له نصيب في ما يتعلق برؤية الفيلم،التي جنحت إلى الانفعال الزائد،والابتزاز العاطفي، والمبالغة المفرطة في تصوير «الآخر» بوصفه «الشيطان الرجيم»،الذي لا يكتفي بسبي النساء،وتوزيعهم على «المجاهدين»، وإعدام كل من تسول له نفسه «التفكير» في مواجهة،ودحض،معتقدهم التكفيريّ بتهمة «زعزعة أفكار
الناشئة وتشويه عقولهم»،كما جرى مع الأستاذ «نضال»،الذي بكاه تلاميذه،وهم يتابعون لحظة إعدامه،لكنهم أجبروا على الهتاف «الله أكبر»، وتمثلت المبالغة في إظهار «الأمير» بوصفه «المنحرف جنسياً» الذي يستثيره «كعب قدم الأنثى»،حتى لو كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها مثل «نور» (أيمي فرح)،التي تفرغ لملاحقتها،ما أثار رعب والدتها «ثريا» (رنا شميس) مدرّسة اللغة العربية،التي هجرها زوجها، وتفرغت لتربية ورعاية ولديها «ماهر» المسافر،و«مازن» المجنّد في الجيش العربي السوري،وهي شخصية قوية،كما أظهرها الفيلم،لكن السيناريو ثم المخرج بالغ في تضخيم هذه القوة،في لحظات مواجهة «الأمير»،الذي لا يمكن تبرير ضعفه حيالها بأنها أم الطفلة التي يشتهى «كعبها»؛ فهو القادر بإشارة من حاجبه لبث العنف والدم والتدمير،وحرق ومصادرة الكتب،وإجبار المواطن المسيحي على الدخول في الإسلام،وإن أفسد السيناريو المعنى بالقول إنه وافق على ترك دينه خشية إملاق !
وأنت تتابع أحداث فيلم «فانية وتتبدد» لا تغيب عن ذاكرتك مشاهد للسينما المصرية بدت نبعاً مُلهماً لصانعي الفيلم؛فالشيخ «أبو محمد» (زيناتي قدسية) مفتي التنظيم والناطق بِاسمه،الذي يُحلل ويُشرعن للأمير سلوكياته القبيحة والمنحطة،يُذكرك على الفور برجل الدين الانتهازي الشيخ «عبد الحق» (حسن البارودي) في فيلم «الزوجة الثانية»،والحراك الشعبي،الذي لم يفرق بين «أبو كريم» البقال،والجار المسيحي،وأبناء الحارة،في مواجهة «داعش» يُعيدك
إلى مشاهد المقاومة الشعبية لأهالي القناة ضد المحتل في فيلم «بورسعيد»،والقول بأن سوريا كانت تعيش حالة من التعايش والوئام بين طوائفها كافة،يطير بك إلى أفلام كثيرة تغنت بالوحدة الوطنية التي تجمع عنصري الأمة المصرية،فيما تبدو جرعة الشر،بين صفوف «داعش»،زائدة عن الحد،وتكاد تُحدث أثراً عكسياً لدى المتلقي،الذي يستغرب مشاعر الحقد الدفين التي تعتمل بقلب «أم ياسين» (هناء نصور) تجاه «ثريا» زميلتها في المدرسة،ولا يجد مبرراً ل «سادية» السجانة «أم حسين» (رباب مرهج)،وإمعانها في تعذيب «ثريا»، والتحريض على اغتصابها،تحت ذريعة الغيرة منها لأن أسرت قلب حبيبها «أبو دجانة» (مجد فضة)؛فالعنف مرضي، وشخصي،بأكثر من كونه قناعة بعقيدة أو إيماناً بمبدأ،والحال نفسه ينطبق على التغير الجذري الذي أصاب «أبو دجانة» الذراع الأيمن للأمير،الذي استيقظ ضميره فجأة،وتذكر صديق طفولته المجند «مازن» ابن «ثريا» مُدرسته،وصاحبة الفضل عليه،فانقلب على «أميره»،وتعاون مع الجيش العربي السوري للإطاحة ب «داعش»،وجاء مشهد اقتحام «وكر الأمير»،وهو يتأهب للدخول على عروسه «نور» غاية في الهزل والعبث وركاكة التنفيذ،الأمر الذي لا يليق بمخرج صاحب اسم كبير مثل نجدت أنزور،بدا أن تركيّزه الأكبر ّ منصباً على استقطاب المتلقي عاطفياً بأكثر من هز أركان الفكر «الداعشي»، وضرب معاقله الدينية الهشة؛فالمواجهة الفكرية بدت هزيلة وضعيفة،كالمشهد الساذج للنساء السجينات،وهن يصلين بقمصان النوم،ولما يعترضن كونهن غير طاهرات،ترد عليهن «ثريا» بما معناه «ربك رب قلوب»،ثم جاء الانتصار العسكري في النهاية،والذي عجل به ارتداد عناصر رئيسة وفاعلة،في «داعش»؛مثل النائب الأول «أبو دجانة»،ليؤكد أن الفكر لم يلعب الدور المنتظر منه في دحر الطرف الآخر !
بالطبع لا يمكن التغافل عن التنويه بقدرة «أنزور» على تكثيف التفاصيل،ورصد مظاهر الدمار النفسي والمادي،التي خلفها التنظيم الإرهابي المتطرف في المجتمع السوري،ورائحة البارود التي يكاد المتفرج يشمها من الركام والحطام الماثل على الشاشة،ومما لا شك فيه أن «السينوغرافيا» التي توصل إليها بديع جحجاح،وإبداعه الذي حول الشاشة إلى لوحات تشكيلية وظف فيها الألوان النارية،التي توحي بالتعطش للعنف والقتل وسفك الدماء،تركت آثارها الإيجابية على الفيلم،الذي بذل أبطاله جهوداً كبيرة للحض على كراهية «داعش»،والتنفير من ممارساته الدموية والعنصرية،وإن عانى الفيلم من الخطابة والمباشرة والتصنع،والرؤية «الميلودرامية» التي تشفي غليل الجمهور البسيط،الذي صفق للفيلم أربع مرات عند عرضه في مهرجان وهران الدول للفيلم العربي،لكنه لا يرضي غرور «النخبة» التي لن تجد في التجربة ضالتها المنشودة،ولا أظن – أيضاً – أن الفيلم سينجح في التغلغل إلى الجمهور الغربي،وإقناعه بأن «داعش» على الأبواب؛خصوصاً أن الفيلم وقع في خطأ فادح عندما حاول إيهام المتلقي بأن السبيل الوحيد لتحرير البلاد من خطر «داعش» يكمن في التعاون مع «جبهة النصرة» !