القاهرة 20 سبتمبر 2016 الساعة 10:39 ص
عندما نقف على الأطلال نتذكر بأسى السينما المصرية العظيمة الراحلة، و التى فشلت محاولات انعاشها حتى الأن، يحضرنا سؤال نطرحه بقلق بالغ، هو هل تلاقى الدراما المصرية نفس مصير السينما المظلم ؟ حينما طغت التجارة على الفن، و اختل الميزان الذى يحفظ توازن صناعة السينما فى مصر، و
الذى أدى الى انحدارها التدريجى و تراجعها أمام السينما العالمية، بعد أن كانت السينما المصرية منافس قوى للسينما العالمية، و كانت الأفلام المصرية تقتحم محافل السينما العالمية ،كفيلم " شباب امرأة " بطولة تحية كاريوكا و شكرى سرحان، و من اخراج صلاح ابوسيف، والذى شارك فى مهرجان كان السينمائى الدولى عام 1956 ، و أيضا رائعة الدكتور طه حسين " دعاء الكروان " بطولة فاتن حمامة ،و أحمد مظهر، و من اخراج بركات و الذى شارك فى مهرجان برلين السينمائى الدولى عام 1952 .
عندما يفقد المجتمع مقوماته الحضارية ،و تتدنى ثقافته يحدث هذا الخلل ،و يبدأ الشارع يفرض ذوقه ،أو هكذا يخيل لبعض القائمين على الصناعة ،فى حين أن فكرة ما يطلبه المشاهد ،أو "ان الزبون دائما على حق " هى فكرة تسير بمعتنقها نحو الفشل و الخسارة، فعندما اعتنق العديد من صناع السينما هذه الفكرة، تدنت نوعية الأفلام المنتجة، و بالتالى تدنت فئات المشاهدين، و انخفض الاقبال على دور السينما فأغلق العديد منها ابوابه .و الحقيقة التى لم يدركها هؤلاء ،هى أن السينما هى التى توجه ذوق الجمهور و اتجاهاته، و قد وعت ثورة 1952 هذه الحقيقة ،و استخدمتها بذكاء لكسب تأييد الشعب المصرى للثورة، فساندت صناعة السينما و وفرت لها الامكانيات، لكى تقوم بشرح فكر الثورة للمصريين، ففى فيلم الأيدى الناعمة صيغت تلك الفكرة بمهارة شديدة، و سياق كوميدى طريف، وضح أحد المفاهيم الرئيسية للثورة ،و هى أن الانسان بعمله و خدمته لوطنه ،و ليس بحسبه أو نسبه .
و لكن عندما يتخيل البعض أن الفن قد صار مجرد سلعة ،تخضع لفكرة العرض و الطلب ،فان هذا الاعتقاد يحطم الصناعة التى تقوم على الفن، و بينما تتحول السينما الهندية الى مصدر للدخل القومى، تتراجع السينما المصرية الى حيز ضيق جدا، لا يتعدى عدد قليل من الأفلام التجارية البحتة فى معظمها، و التى تخضع لحسابات المكسب و الخسارة المحدودة ، و فى النظريات الاقتصادية للعرض و الطلب ،فان الطلب على السلعة هو ما يحدد الانتاج و يؤثر فيه ، الا أن الفن لا يخضع لهذه النظرية، فالوضع هنا معكوس ،فالمنتج هو الذى يحدد حجم الطلب ، فجودة الفيلم هى التى تحدد حجم المشاهدة ،و الاقبال على دور العرض، و من هنا يأتى النجاح الاقتصادى مع النجاح الفنى ، فالنجاح الفنى يأتى أولا و ليس العكس، لذلك عندما وضع شباك التذاكر كهدف أول، انحدرت صناعة السينما و تهاوت .
لذلك يجب أن نحاول أن نجنب صناعة الدراما، التى حلت محل صناعة السينما الوقوع فى ذلك الفخ ،و هو فكرة تلبية ما يخال للبعض انه ذوق المشاهد المصرى، و هى فكرة وهمية ففى الحقيقة أن مسلسل" ليالى الحلمية" لم يراعى فيه طلبات المشاهدين و اذواقهم، فهى أذواق مختلفة و مشارب متنوعة، تعتمد على درجات متباينة من الثقافة تتراوح بين القمة و القاع ،لذا فهى لا يمكن أن تتفق ،و لكن المسلسل جاء بجودة فنية عالية، أولا من حيث القصة والسيناريو اللذان الذى كتبهما استاذنا الفذ " اسامة أنور عكاشة " رحمه الله ، و كذلك ماتوافر للمسلسل من نجوم صاغوا بأدائهم حالة مجتمعية، جذبت الناس نحو المسلسل حتى نستطيع أن نقول أن شخصياته رسخت فى وجدان المصريين ، و فى الحقيقة نستطيع أن نقول أن الدراما المصرية حتى أوائل الألفية الثانية ،قدمت أعمالا هى علامات فى تاريخ الدراما المصرية.
لكنها الأن تقع فى نفس الفخ الذى سقطت فيه السينما المصرية من قبلها، و هو فخ أن الزبون دائما على حق ، فنجاح بعض المسلسلات النصف جماهيرى، أدى الى اعتبارها نموذج للمسلسل الناجح ،رغم أن هناك اعمالا أخرى اقوى و أكثر جودة، لاقت نفس النجاح الجماهيرى و لكن على مستوى ثقافى مختلف، و لكن الغلبة تكون بالطبع للمسلسلات التجارية التى لن تلبث هى الأخرى أن تنهزم و تتراجع ،أمام المنافسة القوية من الدراما الوافدة علينا من الخارج ،كالدراما السورية و التركية و غيرها، و التى تكون فى معظمها أعمالا جيدة و قوية ، لذلك اتمنى ألا تلاقى الدراما المصرية مصير السينما، و أن يتم الاهتمام بالجودة الفنية فهى الضمان الوحيد لاستمرار الصناعة و تقدمها .