القاهرة 19 سبتمبر 2016 الساعة 11:19 ص
الحرام نسبى والحلال كذلك :
حفر الراحل المبدع يوسف إدريس لنفسه اسمًا من نور فى تاريخ الإبداع المصرى . وبجانب موهبته ، فقد امتلك شجاعة الدخول إلى المناطق المزروعة بالألغام ، ذلك أنه جسّد ( فى أكثر من عمل ) جدلية العلاقة بين الدين المصرى والحياة . بين عمق التدين وقوانين الواقع الاجتماعى ، تلك العلاقة الجدلية التى تحكم وتسيطر على الإنسان .
فى قصة ( بيت من لحم ) (1) يُجسد ( بلغة الفن ) مفهوم الحرام والحلال . وبعد قراءة القصة ، لايكون القارىء لها كما كان قبل قراءتها . ذلك أنّ القصة تحفر لنفسها مكانًا فى وجدان وعقل القارىء ، مؤكدة على أنّ المطلق زيفٌ ووهم ، وأنّ النسبى هو الحقيقة المؤكدة .
أبطال القصة شيخ أعمى . يتعيّش من تلاوة القرآن . وأرملة وبناتها الثلاث . من دَخْلْ الشيخ هدأتْ البطون وبدأت تتذوق حلاوة الطعام . ولكن الجوع أنواع . البنات الثلاث ، اجتمع الفقر ودمامة الوجوه ضدهن . وتملكهن يقين أنّ الزواج أبعد من نجوم السماء . ولكن الرغبة الجسدية لاشأن لها بالفقر أو بدمامة الوجوه . وتبدأ احدى البنات المحاولة مع الشيخ الضرير ، زوج الأم . وكان الوقت ظهرًا . وفى المساء ، مع الأم ، يقول لها لماذا تتكلمين الآن ولماذا كنت صامتة كالخرساء قبل ساعات ؟ ولماذا تضعين الخاتم فى اصبعك الآن ، ولماذا كنت بدونه من ساعات ؟
منذ تلك اللحظة بدأ التوتر الدرامى . أو بدأت تراجيديا تلك الأم البائسة الباسلة . ماذا تفعل ؟ وكيف تواجه المشكلة ؟ ومن هى البنت التى فعلتها ؟
فى الصباح ، على طبلية الطعام عرفتها . البنتان الكبرى والصغرى تتكلمان وتضحكان بشكل طبيعى . والوسطى صامتة منكسة الرأس .
ماذا تفعل تلك الأم التى وضعها واقع اجتماعى معين فى ذلك الامتحان ؟ يُترجم الكاتب مشاعرها منذ الليلة الأولى قائلا (( البنات جائعات . الطعام حرام صحيح ، ولكن الجوع أحرم . أبدًا ليس مثل الجوع حرام . إنها تعرفه . عرفها ويبّس روحها ومص عظامها . تعرفه – وشبعت ما شبعت – مستحيل أنْ تنسى مذاقه )) .
بإرادتها المستمدة من صلابة الواقع . ومن خشونة حياتها وبؤسها وقسوتها ، تضع الأم الحل للمشكلة : بأنْ تضع خاتم زواجها ( كل مهرها ) بجوار المصباح . وفى الصمت والظلام ، ينتقل الخاتم من اصبع إلى اصبع . وإذا كان الشيخ الكفيف الشاب بدا سعيدًا فى البداية ، إلاّ أنه بدأ يثور على الصمت . لماذا الصمت ؟ وما سر التحول من طبيعة أنثوية إلى طبيعة أنثوية مختلفة ؟
وإذا كانت الأم – بإرادتها الحرة وعلى حساب ضميرها المعذب – حسمت الصراع لصالح لحظات متعة عابرة ، تستمتع بها بناتها ، فإنّ زوجها حسم الصراع بطريقته الخاصة . فبعد الشك فى الصمت ، والشك فى التحولات الأنثوية ، جاء الخاتم وحلّ له المشكلة . فإذا كان الخاتم فى الاصبع ، فإنّ شريكته فى الفراش لابد أنْ تكون زوجته وحلاله : تتصابى مرة أو تشيخ . تكون ناعمة أو خشنة. نحيفة أو سمينة ، فهذا (( شأنها وحدها ، بل شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم . هم الذين يملكون نعمة اليقين . إذْ هم القادرون على التمييز . وأقصى ما يستطيعه هو أنْ يشك . شكٌ لايمكن أنْ يصبح يقينًا إلاّ بنعمة البصر . ومادام محرومًا منه ، فسيظل محرومًا من اليقين . إذْ هو الأعمى ، وليس على الأعمى حرج . أم على الأعمى حرج ؟ )) .
إنّ قصة ( بيت من لحم ) وإنْ كانت تخترق كل التابوهات ، فإنّ أهميتها تكمن فى فضح ذلك الواقع الاجتماعى الذى دفع الأم إلى ذلك الموقف التراجيدى ، عندما رضخت لذلك الاختيار الصعب الذى تأباه الأديان والأعراف الاجتماعية فى كل مكان وكل زمان . وبالتالى فهى ( القصة ) ثورة على ذلك الوضع الاجتماعى البائس . وإذا كان أبطال القصة من البشر ، فإنّ يوسف إدريس ركّز على أهم بطليْن : لعبة الخاتم والصمت .
هداية البشر وغواية الذات :
فى قصة ( أكان لابد يا لي لى أنْ تضيئى النور ؟ ) (2) يقدم يوسف إدريس بطلا تراجيديًا من نوع آخر : إمام جامع تم تعيينه فى حى الباطنية . حى تجار المخدرات ، والحشاشين والأفاقين الذين يبدأ نومهم مع أذان الفجر . ومشكلة البطل أنه لايكتفى بالأداء التقليدى لوظيفته ، وإنما يسعى لهداية أهل الحى . فقد اكتشف أنهم لايدخلون المسجد . وأنّ الأتقياء قليلون . فكان عليه أنْ يجذبهم إليه . ويقنعهم بضرورة الصلاة . وحتى يكون عمليًا ذهب إليهم فى المقاهى . فى البداية تحمّل سخرياتهم اللاذعة (( إسمع . خميرة عكننة موش عاوزين . وحسابنا فى الآخرة . والحساب يجمع )) .
وفى مفارقة دالة يعقد البطل مقارنة بين أهل الحى القدماء من طوائف ( الباطنية ) وبين أهالى الحى المعاصرين . الأولون كانوا يتأمّلون معانى الحب ، وما يقود إلى ينبوع الحب . . الله . . بينما المعاصرون يسبحون فى غيبوبة الحشيش .
وإذا كان أهالى الحى يتميّزون بالسخرية اللاذعة ، فإنّ البطل لايختلف عنهم ، وإنْ كانت سخريته مدعمة بالحقائق التاريخية ، إذْ يقول فى مرارة (( الحظ وحده أو لعلّها الحكمة هى التى دبّرتْ تعيينى فى جامع أقامه صاحبه وقفًا منذ قديم الأزل . تركى كان هو . بالسياط سلب ونهب . واعتقد أنه بالجامع وبضريحه المقام بجوار القبلة يجنى ثمار الدعوات . ستحمله صلوات الناس جيلا بعد جيل لتقرّبه من الجنة . حتى رحلة الجنة تقطعها على أكتاف الآخرين يا ..... تركى )) .
ولكن هذا الشاب الذى يتصور نفسه مبعوث العناية الإلهية لهداية أهالى حى الباطنية ، وبعد أنْ يستجيب له أهالى الحى ويترددون على الجامع لأداء الصلاة ، يتعرّض هذا الإمام الشاب لهذا الامتحان الصعب : الغواية فى ثوب الهداية .
الفتاة لى لى سنيورة الحارة التى أنجبتها أمها من أب إنجليزى ، طلبتْ منه أنْ يُعلّمها الصلاة . تطوّع بأنْ يُقدّم لها كتابًا يشرح لها قواعد الصلاة . ولكنها ردّت عليه ((أنا عاوزه درس خصوصى)) فانصرف عنها وهو يستعيذ بالله . إلى أنْ كان ذات فجر . كانت دائرة المئذنة فى مستوى نافذتها . رآها تتلوى فى فراشها . وبدأ الصراع النفسى داخل الشيخ الشاب . ظلّ يقاوم رغباته وفق معتقداته (( سأجعله يا ربى امتحانًا صعبًا . لن أهرب . سأضاعف الإغراء . وسأعاود النظر . سأرتكب الذنب الأصغر ليتعاظم انتصارى على الذنب الأكبر )) وتصوّر أنه انتصر على رغباته . ثم يتجدد الصراع من جديد . ويتركه الكاتب يصف تلك اللحظات قائلا (( استقبلتُ القبلة ونويتُ . فتحتُ عينى . كانت لى لى فى منتصف القبلة نائمة ، عارية ، يتموج شعرها على جسدها . عفوك يا إلهى . لقد أخفيتُ عنك الحقيقة . الشيطان انتصر )) .
وتكون قمة المأساة فى النهاية التى لم يتوقعها القارىء . فبعد أنْ ترك الإمام المصلين ساجدين ، وتسلّل عبر النافذة الملاصقة للقبلة ، وبعد أنْ دقّ باب غرفة لى لى التى استقبلته وقد غطّت نفسها بملاءة السرير ، وبعد أنْ قال لها (( جئتُ أعلّمك الصلاة )) إذا بها ترد عليه (( أنا اشتريت الاسطوانه الإنجليزى اللى بتعلم الصلاه . لقيتنى أفهمها أكتر . متأسفه . وأطفأتْ النور )) .
وإذا كان المبدع وضع بطله فى مفترق طرق بعد هذا الامتحان ، فإنه وضع أمام القارىء هذه التداعيات : هل سيحاول بطل القصة اكتشاف ذاته من جديد ؟ وأنه قد تعلم شيئًا من هذا الدرس القاسى ؟ وأنّ لى لى ليست سهلة المنال كما صوّرت له رغباته . وأنه كان عليه أنْ يكتشف حماقته ، خاصة وأنّ رجال الحى فشلوا فى إخضاعها لنزواتهم ، فاحترموها عندما تأكّدوا أنها ليست لأحد . ومادامت كذلك فهى فى حماية الكل . أخت الجميع المحرمة المرغوبة . وأنّ المبدع مهّد لسقوط البطل قبل نهاية القصة عندما جعله يناجى ذاته قائلا (( يا رب . هل يرضيك أنْ نسقط ؟ هل يرضيك أنْ نأثم ؟ هل يرضيك أنْ يتلبّسنا الشيطان ويسود ؟ أغثنى يا إلهى . أدركنى . ساعدنى . أنا فى الهاوية .. من ينتشلنى سواك ؟ )) إنّ هذه المناجاة هى جوهر القصة وهدفها الأول : إلى أى مدى يكون الإنسان مسئولا عن تصرفاته وفقًا للمنظور الدينى ؟ فإذا كان كل شىء يتم وفق المشيئة الإلهية . وإذا كانت حياة الإنسان مقدرة سلفًا قبل أنْ يولد ، فهل سيحاسب على تصرفاته ؟ ولأنّ للفن نطاقًا وللأسئلة الفلسفية نطاقًا مختلفًا ، فإنّ المبدع يترك لنا متعة الفن الجميل القادر على طرح الأسئلة .
أكبر الكبائر (3)
فى هذه القصة يُقدّم يوسف إدريس نموذجًا قلما التفتَ إليه المبدعون . نموذج الفلاح المصرى الذى يرتكب فعلا يُحرّمه الدين ويعاقب عليه ، ومع ذلك فإنه يسأل بكل سذاجة إنْ كان ما فعله وما يزال يفعله ، حرامًا . وهل سيدخل النار بسببه ؟ إنّ هذا السؤال الذى يضاد المنطق السائد ، يتّسق تمامًا مع شخصية صاحبه ( الشاب محمد ) فهو يعيش حياته أقرب إلى الفطرة الطبيعية . هو لا يفكر فى إيذاء أحد . أو الاعتداء على ممتلكات أحد . ويود أنْ يُلبى احتياجات جسده . وهو يعمل ويشقى من أجل اللقمة . وأى لقمة تكفيه . وهو كما يصفه الكاتب (( فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين حملوا عبء إخضرار بلادنا لسبعة آلاف عام وتزيد . فهو مهما اشتغل فى الغيط لا يتعب )) وهو عندما أقام علاقة محرمة مع الشيخة صابحة ، فإنّ فلسفته فى الحياة لا ترى أنه اعتدى على ممتلكات غيره . فهو لم يغتصبها ، أى لم يأخذها عنوة ودون رضاها ، بل إنه لم يراودها عن نفسها . أى لم يكن سببًا فى إغوائها . وإنما هى التى بدأت . وهى التى أرادت . وهى التى حددت المكان والزمان . بل إنّ الشيخة صابحة – بعد أنْ تعدّدت لقاءاتهما – تغيّرت حياتها تمامًا . فقد ذاقت طعم السعادة . بل إنّ زوجها الشيخ صدّيق أصبح راضيًا عنها . وبعد أنْ كان يُعنّفها باستمرار (( بدأ يلاحظ أنّ زوجته قد أصبحت شيخة بحق وحقيق كما يناديها الناس . ففى صلاتها إخلاص حقيقى . وفى دعواتها إلى الله أنْ يغفر لها ما تقدم من ذنوبها وما تأخر ، تبتهل بصوت يخرج من أعماق نفسها . ولم تعد أبدًا فى حاجة إلى أنْ يُذكّرها بالنوافل أو توزيع الحسنات )) .
وفى آخر فقرة يتذكر الراوى أنّ أحداث هذه القصة وقعت أثناء طفولته . وكان هو وأصدقاؤه يرون أنه إذا كان الشاب محمد والشيخة صابحة سيدخلان النار ، فإنّ زوجها الشيخ صدّيق سيدخلها هو الآخر ومن أوسع الأبواب . ذلك أنّ الشيخ صدّيق لم يكتف بأنْ أهمل زوجته ، ولم يكتف بتعنيفها وتوبيخها على الدوام . وإنما لأنه أهمل الزرع أيضًا ، حتى ماتت سنابل القمح من العطش . وتفرّغ تمامًا للعبادة . يقضى كل أوقاته فى الجامع . وبعد أنْ يُصلى الفجر يظل نائمًا إلى الضحى . ولم يستمع أبدًا إلى نصيحة زوجته : أنْ يترك السبحة ويمسك الفأس .
إنّ يوسف إدريس فى هذه القصة كأنما كان يتنبّأ ( بلغة الفن ) بتصاعد الفكر الأصولى الذى وجد مناخًا سياسيًا وثقافيًا مساعدًا بعد يوليو 1952 ، خاصة لو علمنا أنه نشرها لأول مرة فى أغسطس 1963 فى صحيفة الجمهورية . وإذا كان الشيخ صدّيق يُغالى فى مظاهر التدين الذى يوقف تطور الحياة ، متصورًا أنه اشترى الآخرة بالدنيا الفانية ، وإذا كان يُكثر من التعبد ويُهمل الزرع حتى يموت ، فإنّ محمد بفطرته أفضل منه : فهو على المستوى الاجتماعى إنسان منتج ومفيد لغيره من البشر . وأفضل منه على المستوى الدينى . فرغم أنه ظلّ يسأل سؤاله الساذج : هل سيدخل النار ؟ فإنه – بعفوية صادقة – وفى كل مرة كان يلتقى فيها مع الشيخة صابحة كان يشعر بالخـــــــــــــوف (( الخوف من الله أنْ يغضب .. والخوف من الجيران أنْ تعرف أو تحس )) .
ــــــــــــــــــــــ
1 ، 2 ، 3 : مجموعة بيت من لحم – مكتبة مصر – ط 1977 .