القاهرة 28 يوليو 2016 الساعة 01:04 م
ليلة من ألف ليلة
فى رحلة الى الزمن الجميل يأخذنا المسرح القومى، فى ليلة من ليالى ألف ليلة و ليلة، و فى الحقيقة لقد بدأت رحلتى مع السعادة و الانبهار، حينما دخلت المسرح القومى و بهرنى هذا الكم الهائل من الفن و الجمال، الذى بدا عليه المسرح نفسه ،فظللت لدقائق عديدة قبل أن ترفع الستار ، أمتع ناظري بالديكور الرائع للمسرح، و الذى يعيده الى زمن الأصالة و الفن الجميل و الذى تتوسطه عبارة شوقى الخالدة :" انما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت
أخلاقهم ذهبوا "، رأيت الجمال و العراقة حولى فى كل مكان ،فظننت نفسى فى واحة من الجمال وسط صحراء من القبح و العشوائية .
مسرحية "ليلة من ألف ليلة" ،من أزجال الراحل العظيم " بيرم التونسى " ،و التأليف الموسيقى للموسيقار المصرى الراحل "أحمد صدقى" و هو مؤلف موسيقى من الزمن الجميل ،عرف بتلحينه العديد من أغانى كبار المطربين ،أمثال ليلى مراد و عبد الحليم، كما اشتهر بتلحينه للعديد من الأوبريت مثل "عوف الأصيل" ، و "قطر الندى و الشاطر حسن" و الأوبريت الذى نحن بصدد الكلام عنه " ليلة من ألف ليلة " .
كان هذا عن نجوم الماضى أما نجوم الحاضر، فهم أيضا نخبة من تلك الفئة التى تصارع تيار القبح و الفن الردئ ،الذى انتشر فى جسد الفن المصرى كالطاعون ،و يقود اولئك المحاربين تاريخ من الفن يسير على قدمين هو الفنان يحى الفخرانى، و الذى يعد من رعيل رواد المسرح القومى، و فى مقدمتهم العظماء سميحة أيوب ، و سعد أردش ، و شفيق نور الدين ، أما عن الرعيل الجديد الواعد ،فهم الفنانة الرقيقة هبة مجدى، و يشاركها البطولة المطرب الشاب محمد محسن، و الفنان لطفى لبيب،و وليد فواز، و سلمى غريب ،و من اخراج محسن حلمى .
يأخذنا شاعرنا الكبير الى بغداد فى العصر العباسى ،ليروى لنا قصة " شحاتة " و يقوم بدوره الفنان " يحى الفخرانى " ،ذلك الرجل الذى يمتهن الشحاتة و يحترفها ،و ابنته الجميلة" نجفة" و تقوم بدورها الفنانة " هبة مجدى " ، و تلقى الأقدار بشحاتة فى طريق غريم قديم له هو " جوان " اللص و يقوم بدوره الفنان لطفى لبيب ، و لجوان ثأر مع شحاتة، اذ فى الماضى و قبل مرور عشرون عاما، يختطف جوان زوجة شحاتة و يهرب بها، و يظل شحاتة أعواما طويلة يبحث عنها دون جدوى ، و عندما يلتقيان يقرر شحاتة ترك مهنته و الانتقام من جوان الذى يبحث عن ابنه من زوجة شحاتة ، و فى نفس الوقت يتنكر الخليفة الشاب فى شكل جناينى ،و يقابل نجفة التى تقع فى حبه، و هى لا تعلم حقيقته .و تدور أحداث الرواية فى اطار غنائى ،الى أن تنتهى بزواج الخليفة من نجفة ،و تحقيق شحات لانتقامه من جوان .
تعتبر" ليلة من ألف ليلة" من القصص القصيرة ،و هى صفة تنتفى عن قصص ألف ليلة و ليلة ،و التى تتميز بطول القصة أو " الحكاية " و منها السندباد البحرى ، و عبد الله البرى و عبد الله البحرى ، و غيرها من القصص الطريفة ،و التى تميزت بوجود الجن و الخوارق كجزء أصلى من نسيج القصة ،و ذلك العالم الخيالى الأسطورى، الذى يعطى قصص ألف ليلة و ليلة سحرها و غموضها، الذى يجذب القارئ،مثل قصة الكاتب الكبير يسرى الجندى " الاسكافى ملكا " و التى استقاها من قصص ألف ليلة و ليلة ،و التى تم تحويلها لمسرحية بطولة الفنان ماجد الكدوانى ،و الفنان يوسف فوزى ،و التى تم تقديمها على المسرح القومى عام 2008 ،و التى استخدم فيها الجو الأسطورى من الجن و الخوارق، مما أعطاها اثارة و تشويقا .
و لكن هذا الجانب لم يظهر على الاطلاق فى قصة شاعرنا بيرم التونسى ، و لكن يمكننا أن نقول أنها كانت قصة الغرض منها ارساء قيمة الثواب و العقاب ،و لكن تم وضعها فى قالب ألف ليلة و ليلة الأسطورى، لجذب المشاهد و تشويقه. و قد ظهرت هذه القيمة مجسدة فى نهاية المسرحية ،حيث انتقم الشحات من غريمه الذى خطف زوجته فقتله، و فى الوقت نفسه نفاه الخليفة بعيدا عن بغداد، ليستطيع الزواج من ابنته بدون أن يتلوث بمصاهرة ذلك الشحات الأفاق. و لكن على الرغم من خلو "الحكاية " من عنصر الابهار القصصى، الا أنها امتلكت عنصر الابهار البصرى كنوع من التعويض عن بساطة القصة و محدوديتها .
و فى الحقيقة لقد توفرت للمسرحية عناصر نجاح قوية و فعالة ،كان أهمها القالب الغنائى الاستعراضى، الذى أخرجها من حيز المسرحية الى الأوبريت، و هو تجربة مسرحية لم تحدث فى العصر الحديث، الا فى رائعة الفنان محمد صبحى التى لن تتكرر " كارمن " ،و التى كان التأليف الموسيقى للفنان الكبير عمر خيرت، و احد من أهم أسباب نجاها. و لكن رغم ذلك تستوقفنى علامة استفهام كبيرة، فمن المفهوم أن يحب الجميع ألحان عمر خيرت لأننا نشأنا و تربينا على موسيقى عمر خيرت، فهى تيبة موسيقية مألوفة بل و محببة أيضا ، و لكن الشئ الغريب ان يستسيغ الجمهور بل و يحب، تيبة موسيقية مضى عليها ما يقرب من قرن كامل ،و هى موسيقى لم يسمعها اغلب الحضور فى المسرحية من قبل، الا من كان هاويا للموسيقى الشرقية و عاشقا لها ،فهى تيبة شرقية قديمة، مثلها مثل موسيقى العظيم سيد درويش و الذى ألف أيضا موسيقى أوبريت العشرة الطيبة .
تميزت أيضا المسرحية بالابهار الحركى، و الذى تجسد فى الاستعراضات الكثيرة التى تضمنتها المسرحية، و التى توافقت مع الجو الغنائى الذى ساد الحوار المسرحى ،و الذى تميز ايضا بالبساطة ، و الطرافة ، مع خلوه الكامل من الألفاظ المسفة ،أو الافيهات المفتعلة ،مما أعادنا مرة أخرى الى مسرح الزمن الجميل، و الذى تميز به المسرح القومى عبر تاريخه المشرف .
أما الديكورفقد جاء هو الأخر كعنصر من عناصر الابهار ،و الذى تميز باتقان شديد و أضفى صبغة من جماليات المكان على المسرحية ، و كانت الملابس أيضا تمثل عنصرا جماليا من حيث تناسق الألوان و الاتقان ،و هى مثلت جزء من المنظومة البصرية الجمالية التى تميزت بها المسرحية، و أيضا كان عنصرى الصوت و الاضاءة على نفس القدر من النجاح، حيث ساهمت الاضاءة فى استكمال دور الديكور فى خلق الجو الأسطورى للمسرحية ، كما جاء الصوت أيضا على قدر كبير من الكفاءة ، كان له أثرا واضحا فى نجاح الأداء الغنائى لأبطال المسرحية .
جاء أداء الفنان الكبير يحى الفخرانى سهلا ممتنعا كعادته، و لكن التحدى هنا لم يكن فى الأداء التمثيلى أو فى تقمص الشخصية، فالفنان الكبير هو أحد أساطير المسرح ، و لكن فى اقتران الأداء المسرحى بالأداء الغنائى ،و الموسيقى الشرقية و خاصة القديمة منها كما يعرف هواة "الأدوار القديمة " ،صعبة الأداء مليئة بالنواحى فنية ،و حتى و ان لم يكن الفنان يحيى الفخرانى قد تعرض لتلك النواحى، الا أن اداؤه تلك الألحان على نحو صحيح مثل تحديا جديدا له .
أما الفنانة الشابة هبة مجدى ،و التى خاضت تجربة يخشى الكثيرون خوضها، فالمسرح فن صعب مهيب، يعتمد على الحضور و الأداء الصوتى ،و التفاعل المباشر مع الجمهور، و مما زاد الأمر صعوبة أنها مسرحية غنائية ، الا انها أدت أداءً قربها الى قلوب الجمهور، فقد كان سلسا رشيقا، أضفت عليه روحا لطيفة مرحة، و فى الوقت نفسه ظهرت بمظهر الفتاة البرئية مما وضع الشخصية فى ذلك القالب المحبب، الذى جعل الجمهور يتعاطف معها على مدى أحداث الأوبريت .
أما المطرب الواعد محمد محسن ،و الذى خاض هو الأخر تجربة الحضور و الكاريزما المسرحية بنجاح، فقد كان أحد عوامل نجاح المسرحية، فهوتقمص بصورة جيدة دور الشخصية التى يقدمها، و هى شخصية الخليفة الشاب الزاهد فى متاع الدنيا، و الذى سلم قلبه لفتاة واحدة أحبها باخلاص ،و فى الوقت نفسه فهو رجل الحكم الحازم، الذى يمارس فكرة الثواب و العقاب التى تقوم عليها الأوبريت .
أما الفنان لطفى لبيب باطلالته المحببة ، فهو ذلك الرجل شديد البراعة و الموهبة، و هو على حد التعبير " يرتدى الشخصية " ،ورغم عدم اتساع مساحة الدور الذى يلعبه فقد كان دورا مزدوجا من حيث الأداء الصوتى، الذى ينقل الشخصية من اطار لاطار ،فهو تارة جوان اللص المجرم ،و هو ما يظهر من صوته القوى و لهجته الحادة، التى تظهر فى تعاملاته مع شحاتة الذى يعرفه حق المعرفة ، و هو تارة يمثل دور الرجل العجوز الضعيف ، الذى يبحث عن ولده ،و يظهر هذا أمام الخليفة و الوزير المعتصر .
أما الفنانة سلمى غريب فقد ادت دورها ببراعة و هى فنانة مسرح متمرسة تنتقل ببراعة بين الحالات الشعورية المختلفة للشخصية، ما بين الغيرة على زوجها من نجف ، و الشفقة عليها عندما تعرف قصتها ، و الغضب و الكراهية التى تكنها للزوج الخائن.
الفنان وليد فواز الذى يؤدى دور الوزير المعتصر، الذى يخطط لقتل الخليفة ،هو ممثل ينبئ بموهبة مسرحية واعدة، فرضت نفسها و حازت اعجاب جمهور المشاهدين، بل و لفتت الأنظار اليها بحضور قوى مؤثر ، ساهم فى تجسيد الشخصية ،و دخولها الى حيز الاقناع الذى جعل الجمهور يكره
شخصية المعتصر، و يسعد بانتقام شحات منها .
أوبريت " ليلة من ألف ليلة " ينقلنا الى نوع محبب من المسرح المحترم ،يرضى جميع الأذواق من المثقفين ،الى الجمهور العادى، الذى كان به عدد من الأطفال ،و اللذين رغم عدم استمتاعهم الكامل بالمسرحية ،كما استمتع بها الكبار، الا أنهم تواجدوا فى جو المسرح ،و مناخ من الفن الراقى ،يرسخ لهم قيمة الفن الجميل ، و يجعلهم فيما بعد حينما يصلون لمرحلة الشباب ،يستطيعون الفرز و الاختيار ما بين الفن الراقى، و الفن الهابط، و الذى ساعد على وجوده انسحاب الفن الراقى من المجال، و تراجع دور مسرح الدولة فى العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضى ، و هو الدور الذى لا يستطيع مسرح غيره القيام به فى نشر الفكر الراقى و رسالة التنوير ، فهل كان المسرح التجارى يمكن أن يتصدى لمسرحية مثل " كنج لير " و التى قام ببطولتها الفنان يحى الفخرانى و نخبة من نجوم مسرح الدولة على خشبة المسرح القومى عام 2008 .
و رغم أن مسرحية " الملك لير " كان يبدو أنها تخص المثقفين و النخبة ،الا إنها حازت على اقبال جماهيرى هائل ، مما يعيدنا الى فكرة احياء تراث المسرح المصرى، و الذى كان يتميز منذ بدايات القرن الماضى ،بنهضة هائلة ،ساهمت فيها حركة الترجمة النشطة التى كانت فى ذلك الوقت ،و التى كان يقوم بها الشوام المقيمين بمصر، و اللذين كانت اجادتهم للغات الأجنبية سببا فى اثراء المسرح المصرى، بالكثير من النصوص المترجمة لكبار الكتاب أمثال وليام شكسبير ، موليير ، تشيكوف .
كما ظهر بعد ذلك العملاق استاذنا " توفيق الحكيم " رحمه الله، و الذى أسس للكتابة للمسرح المصرى بمسرحيته " العريس " عام 1924 ،والتى عرضتها فرقة عكاشة عام 1926 ،و تبعها بعد ذلك بانتاج مسرحى غزير ، مثل أهل الكهف ، بجماليون ، ايزيس ، الصفقة ، غيرها.
و عن الفرق المسرحية التى ظهرت فى تلك الفترة فحدث و لا حرج ،فهناك فرقة " عزيز عيد " ، " جورج ابيض " و " فرقة الريحانى " ، و " عكاشة " ، " رمسيس " ، " على الكسار " و عشرات الفرق المسرحية التى تخصصت فى الكوميديا و التراجيديا ،و اثارت نهضة فنية و فكرية فى مصر، بين مختلف طبقات المجتمع المصرى ، فى النهاية لا يسعنا ألا أن نطلب و نتمنى ،أن يصبح للدولة مسرح فى كل مدينة مصرية، و قد كان فيما مضى تجوب فرق المسرح المصرية ،القرى و النجوع حاملة معها رسالة الفكر، الذى قال عنه استاذنا توفيق الحكيم، انه ذلك النور القائم فوق قمة هرم ثلاثى ،من الخير، و الحق، و الجمال .