القاهرة 27 يوليو 2016 الساعة 02:45 م
لم تستلهم «مجنون ليلى» في الإبداعات الموسيقية العالمية والعربية إلا منذ أوائل القرن 20م، في ظل الرومانسية وتكامل الفنون. وتحتل قصة الحب العربية الجميلة والخالدة مكاناً بارزاً في الموسيقى، وهناك العديد من الإبداعات المتباينة التي وظفتها، من الأوبرات إلى القصائد السيمفونية، مروراً بالمتتاليات والباليهات والغنائيات، حيث صاغ من خلالها المبدعون رؤاهم للقصة التي تكاد تكون رمزاً لقصص الحب العذري بالحجاز في عصر عبدالملك بن مروان.
طغت العاطفة القلبية الخالصة والجامحة على شخصية (قيس بن الملوح) (24 هـ - 645م / 68 هـ – 688م)، وعلى سلطان عادات وتقاليد العقل الجمعي لمجتمعه، ففاضت وملكت عليه حياته وسلوكه وتأملاته وإبداعاته، ليتدفق وجدانه شعراً، يطير هنا وهناك ليصل لأسماع أبيها. إنها في عينية الأجمل روحاً وعقلاً، نسي في حبها كل شيء، فآوى لجبل التوباد مرتع الذكرى والحب، إلى أن قلق عليه أهله فبحثوا عنه وأعادوه منهكاً، وتأتيه ليلى لعله يثوب لرشده وتجيء إليه النساء، يسألنه أن يصرف هواه عنها إلى إحداهن، فيكتئب هائماً في الصحراء، غير مبالٍ بالآلام، ليجدوه بعد فترة ميتاً. ندبته الفتيات بعديدهن وبكاه الفتيان، تعاطفاً وتعلقاً بحالته، وأقبل المعزون على رأسهم والدها/عمه، فكان الأشد جزعاً لإحساسه العميق بالذنب في هلاكه.
وكان يوماً لم يشهد العرب مثله بكاء على ميت، لتنتهي قصة العشق العربية التي سجلها التاريخ أنموذجاً للصدق النادر والوفاء العظيم، والمعاناة الطويلة لعاشق أبدع أجمل أشعار الحب العذري التي عرفتها الذاكرة الإنسانية التي تغنت بها توظيفاً واستلهاماً وإبداعاً أدبياً وفنياً، بعد أن تفنن الخيال الشعبي في إبداع أنموذجه عن قيس، (كابن لسيد القبيلة، وأجمل الفتيان وأظرفهم وأرواهم للشعر، وأكثرهم إفاضة في الحديث). إضافة للعديد من العناصر التي أنتجت (إطاراً درامياً عنيفاً، لعاشق مكنته هيئته الاجتماعية من الاضطلاع بدور غرامي كبير)، منشداً لليلاه أروع إبداعاته.
أوبرات وباليهات ومتتاليات
عالميـــــاً يعـــد الأذربيجــــانـــــي عزيز جـــــاد جيبيـــــكــوف (1885 - 1948م) أول من لحن موسيقى للمسرحية الغنائية التي حظيت بشعبية كبيرة (ليلى والمجنون) عام 1908م، على شعر أبدعه الشاعر الفارسي جمال الدين نظامي الكنجوي (1135 - 1483 م) والشاعر التركي فيضولي (-1483 1556م)، بعد أن التزما في إبداعاتهما بمعظم ما جاء بالأصل العربي، مما أدى لانتشار قصتهما في الأدب الشعبي. وعموماً فالتراث الأذربيجاني وثيق الصلة جمالياً بالموسيقى العربية، نظراً للأصول الإسلامية الشرقية، لذلك لم يزل هذا العمل صورة صادقة لتطوير الموسيقى الشرقية في اتجاه غربي قومي جديد، وهو مسجل على أسطوانات توفر للمستمعين فرص التعايش مع هذا التناول الغنائي الخاص لقصة الحب العربية. كما أبدع الأرميني آرمين تيجرانيان (1879 - 1950م) موسيقى تصويرية لها لم تنشر منفردة، وعام 1940م كتب راينهولد جليير (1875-1956م) أوبرا (ليلى والمجنون)، وعام 1947م كتب سيرجي بالاسانيان موسيقى باليه بنفس العنوان. أما الموسيقار المعاصر كارا كاراييف (1918 - ...) فكتب القصيد السيمفوني (ليلى والمجنون) عام 47 على أشعار لنظامي أيضاً، مبتكراً بالعمل لغة موسيقية ثالثة ليست في بساطة التراث الشرقي وحيد اللحن وليست غريبة بعيدة عن روحه، بل إن أسلوبه إجمالاً وفي قصيد (ليلى والمجنون) خاصة، اندماج مدروس بين خصائص الموسيقى الأذربيجانية وبين الأساليب الغربية، لذلك يعد من أبلغ أعماله وأصدقها، معبراً فيه عن رؤيته الفنية وتصويره بالموسيقى لمعاني وأفكار القصة، ولا يزال من الأعمال الأوركسترالية الشهيرة التي تقدم كثيراً، وقد منح عنه جائزة عام 1948م، وهو يمثل بين مؤلفاته قمة الأصالة في موسيقاه القومية المعاصرة. ورغم أقسامه الثلاثة، تتضافر وتتشابك العديد من الخيوط والعلاقات النفسية بالرؤى الموسيقية لتقدم تعبيراً شجياً وعميقاً عن الحب الخالد، في موسيقى وفق مؤلفها بين عالمي الشرق بثرائه اللحني والغرب بصنعته الفنية وأدواته التعبيرية المتقدمة، دون إخضاع أحدهما للآخر. عام 47 أبدع (بالاسانيان) موسيقى باليه (ليلى والمجنون) أول مرة، لكنه عدله بنسخته الثانية عام 56 للهجوم عليه، ثم راجعه للمرة الثالثة عام 64، كشكل نهائي متداول حالياً، كما استمد منه متتالية أوركسترالية مستقلة تقدم كعمل ناجح، بعدما أتيحت له -بحكم أسفاره كمؤلف وأستاذ ومسؤولياته الموسيقية- فرصة التعرف على صور عديدة من القصة العربية الفريدة، غير مكتفٍ بما استلهمه (نظامي) في أشعاره، بل كما جاءت في الفولكلور الأزوبكستاني والكازاخستاني والطاجيكستاني والأفغاني والهندي، طبقاً لتعبير الرواة والشعراء الشعبيين عنها، وكما جمعها باحثو الأدب الشعبي. أسلوب الموسيقى رومانسي يستوحي أنواع الموسيقى الشعبية، ويستمد منها وسائل التعبير الدرامي التي تضفي على الموسيقى حيوية توحي بالجذور الثقافية للموضوع، وتبرز براعة التلوين الأوركسترالي وتوزيعه المتفوق (للضوء والظل)، بما يدل على خصوبة الخيال. أقام موسيقى الباليه، والمتتالية، على ثلاثة موضوعات: لحن الحب –لحن الفرحة والوفاء في الحب– لحن حنين ليلى وعاطفتها المتقدة. غير أن الرقصات المضافة وفاء بالتزامات الباليه، كما تخيلها واضع السيناريو؛ جعلت الشخصيتين الرئيستين تتواريان أحياناً، وأحيطت الأحداث بإضافات كثيرة، ولقد راعى المؤلف مبدأ الانتقال بين أجواء نفسية وعاطفية حانية أحياناً وقاسية أحياناً أخرى، مضيفاً فقرات موسيقية لتحقيق هذا التوازن، كما نلمس ما طرأ على القصة من تحوير جعلها تختلف في بعض تفاصيلها، وإن حافظت على المعاني الرئيسة بين الحبيبين.
إبداعات شوقي - عبد الوهاب - السنباطي
عربياً استلهم القصة أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 - 1932م) عام 1927م، في مسرحيته الشعرية (مجنون ليلى)، حيث يعتبر الرائد الأول لها، كما اشتهرت شهرة عارمة بين الشباب، وبخاصة غنائياتها الخالدة، ناهيك عن تأثيراته في كثير من الشعراء المسرحيين والغنائيين، بجمعهم بين الشعر الغنائي والمسرحي، كعلي محمود طه - علي أحمد باكثير - عزيز أباظة. لم يبدأ شوقي من الصفر، حيث أبدع المسرحية الشعرية بعد معايشته للقصيدة الغنائية، فأسهم بذلك في تطويرها وتسهيل مسرحتها. كان يستطيع –لو واتته القدرة– أن يبدع من (مجنون ليلى) في الأدب العربي الحديث، مسرحية عالمية، عاتية بإنسانيتها وغنائياتها، لكنه لم يستطع أن يعيد إبداعها، فتقيد بتفاصيل الأصفهاني في كتاب (الأغاني)، حتى رأينا ناقداً كإدوارد حنين يجمع بإحدى مقالاته بمجلة (المشرق) البيروتية عدداً كبيراً من فقرات الأصفهاني ويردفها بأبيات شوقي ليدلل على أن شاعرنا لم يعد صياغة تلك الأخبار والطرائف شعراً، بل إن مراجعة أشعار قيس بالكتاب، تمكننا بسهولة أن نرجع عدة مقطوعات من المسرحية إلى المجنون القديم بالاقتباس المباشر كقصته مع الظبية التي مطلعها: (رأيت غزالاً يرتع وسط روضة / فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا). وكذلك في عدد من الصور والمعاني التي ضمنها شوقي مسرحيته بأسلوبه الخاص، كسؤاله زوج ليلى:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وأغنية (جبل التوباد) الشهيرة، حيث رعى قيس وليلى الغنم على سفحه طفلين. ففي الكتاب وفي المسرحية نعثر على:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رآني
وأذرفت دمع العين لما رأيته
ونادى بأعلى صوته فدعاني
كل ذلك قيد خيال الشاعر وحرمنا من أن نظفر منه بتحليل عميق لشخصياته، وتصوير قوي للمشاعر الإنسانية. ومع ثراء التراث الشعري العربي بالخصائص الفنية، والعديد من ضروب وأنغام الموسيقى؛ لم يبتعد شوقي عن طبيعته الغنائية أو عن تراثه، لكن النقاد يستنكرون عدم إتاحة الموسيقيين والملحنين والإمكانات التي كان ممكناً أن تتحول معها (مجنون ليلى) إلى أوبرا عالمية، على غرار ما أبدعه الموسيقار الشهير (ماسنيه) عام 1919م لألحان مأساة غنائية عن كليوباترا بالكامل. وفي الأجزاء التي لحنها وغناهــــــا محمد عبدالوهاب (1902 - 1991م) من قصة (مجنون ليلى)، والنجاح الكبير الذي لاقته، ما يقطع بأنها لو لحنت كاملة، ومثلت كأوبرا لأصبحت غذاء فنياً رفيعاً، فمن منا لا يطرب لغنائية (جبل التوباد حياك الحيا) أو (تلفتت ظبية الوادي) أو غيرهما من المقطوعات التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب، فما بالنا لو لحنت من مطلعها إلى نهايتها ومثلت بالغناء، وكلها تصلح بموضوعاتها ولوحاتها وأشعارها لأن تكون أوبرا عربية، أو أوبريت، يبعث المسرح الغنائي المصري من مرقده. لحن عبدالوهاب مقاطع من (مجنون ليلى) في أغان مستقلة عن الحدث، منها قصيدة (تلفتت) عام 1930م، ومطلعها:
تلفتت ظبية الوادي فقلت لها
لا اللحظ فاتك من ليلى ولا الجيد
ومنها قصيدة (جبل التوباد) التي غناها عام 1951م وتقول:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
أما أوبريت (مجنون ليلى) فهو في المشهد الثالث من الفصل الأول بالمسرحية، وقد حذفت منه أبيات دون إخلال بالمعنى، ختمه بآخر بيت في المشهد الخامس، ولا وجود للمشهدين الرابع والخامس، رغم تكاملهما مع الثالث، فقد فضل الملحن الاختصار على التطويل، ورأى أن التركيز على العلاقة بين العاشقين هو الأهم؛ فليس دقيقاً اصطلاحاً إطلاق لفظ (أوبريت) على العمل الموسيقي الذي عرض بفيلم (يوم سعيد) عام 1939م، فالأوبريت لغوياً (أوبرا صغيرة)، وموسيقياً مسرحية غنائية تتضمن أغاني ورقصات وحوارات مغناة، لا ينطبق ذلك على أوبريت (مجنون ليلى)، فما شوهد مشهد مسرحي فجائي مقحم، لا يعبر عن أحداث الفيلم، قام بدور (قيس) أحمد علام، و(ليلى) ممثلة مغمورة، أما (العم) فعباس فارس، ولم يتناسب ديكور الخيام الباهتة مع المضامين الشعرية واللحنية، الغناء عبدالوهاب (قيس)- أسمهان (ليلى)- عباس فارس (العم)، المشهد ميلودرامي حزين في ثوب رومانسي. ولعل ما يعلي شأن الأوبريت، الموسيقى والصوت والأداء ودقة التعبير عن الحالة والمعنى. كان من الأفضل أن يبقى الأوبريت في إطار المسموع لا في إطار المشاهد، وهو في الحقيقة أقرب إلى الحوارية الغنائية. استخدم عبدالوهاب مقامات موسيقية عربية وشرقية وتركية وفارسية لتنويع التعبير عن الحالة الوجدانية، ودفع الملل. ولوسوسته كمفكر موسيقي ومخطط بارع لقياس وتفصيل اللحن بدقة؛ اختار المقامات المألوفة: حجاز (عربي صحراوي)– نهاوند (جبلي فارسي)– عجم (فارسي يقابله الماجور)– حجاز كرد (عربي فارسي تركي)– نكريز (فارسي مشتق من نهاوند وحجاز معاً)، الأوركسترا كبيرة ضمت: الوتريات: التشيلو– الكمانات– العود، وآلات النفخ: كالأبوا لتصوير الأجواء الصحراوية– النحاسيات لأداء بعض المقطوعات والإيقاعات، ورغم دراسة عبدالوهاب للموسيقى الغربية إلا أن التوزيع كان لعزيز صادق. تبدأ المقدمة الموسيقية بجملتين موسيقيتين تنتهي كل منهما بضربة موسيقية مع صنج من مقام نهاوند، ثم تنساب الموسيقى مرسلة تعبيرية عن جوّ الصحراء من مقام حجاز تبرز فيها آلة الأوبوا، ويمكننا تقسيم الغناء الفردي والحوار إلى عدة مشاهد، المشهد الأول: ينادي قيس ليلى فيبرز له والدها فيرتبك ويخبره أنه قدم يلتمس قبساً من نار، فينادي ابنته لتلبي حاجته، تساعدها عفراء، النداءات والحوارات غناء مرسل. المشهد الثاني: ينفرد قيس بذاته معترفاً بالتلفيق، لتبدأ لازمة موسيقية موقعة من مقام عجم للأوركسترا كاملة كأنها موسيقى كلاسيكية سيمفونية، فيغني غناء موقعاً: (بالروحِ ليلى قضَتْ لي حاجةً عرضَتْ). المشهد الثالث: يلتقي العاشقان، تحمل ليلى جذوة متقدة في وعاء، تنادي قيساً بالضغط على سكون الياء في كلمة قيْس، فيتنبه ويتحاوران، موضحاً أن شعره في الأخريات عرضياً، وأن عشقه ليلى لا يدانيه عشق، مأخوذ بجمالها، غير واعٍ باحتراق يديه بالجذوة المشتعلة التي يحملها. وحين تلاحظ ذلك تحذره: (ويحَ عيني ما أرى قيس، خـذِ الحـذر)، يستمر قيس شارحاً جنونه بحبها، مستفسراً عن أحوالها. المشهد الأخير: يطرد قيس، حيث أثار صراخها أباها. غير أن مشهداً آخر يغني فيه قيس (سجا الليل)، شاركت عبدالوهاب الغناء أسمهان بصوتها النادر بمساحته وبتعبيره المتقن، متساوية مع عبدالوهاب في الأداء. أغرم عبدالوهاب بتغيير الألحان والأداء، فتنقل بين خمسة مقامات ببراعة، كما كان استخدامه مقام نكريز بالمشهد الثالث تمهيداً موحٍ لموسيقى (سجا الليل) التي يعتبرها بعض الموسيقيين ختاماً، ومنهم من يعدها أغنية بذاتها، بدليل إذاعتها منفصلة، غير أن عبدالوهاب رأى أن تكون استمراراً للأوبريت. أجمع النقاد أن أوبريت (مجنون ليلى) أرقى ما وصلت إليه الموسيقى العربية المعاصرة، علماً أنها أنتجت قبل عام 1939م، ودعا نجاحها الريادي الكبير، أن يطلب أصدقاء عبدالوهاب تلحينها كاملة، فوعد بذلك. ورغم أن عمالقة مثل محمود الشريف وأحمد صدقي، وغيرهم كسيد إسماعيل ويوسف صالح لحنوا لحناجر: راوية وإسماعيل شبانة، أغاني فيلم (قيس وليلى) عام 60، التي وزعها فؤاد الظاهري، إضافة لوضعه الموسيقى التصويرية، بعد أن نظم أشعارها السيد زيادة وعبدالفتاح مصطفى وإبراهيم رجب، بعد انتخابهم من ديوان قيس ما قدموه، وما نسجوه من أبيات على غراره، ورغم أن أخصائي القصيدة العربية رياض السنباطي لحن أوبريت (مجنون ليلى)، توزيع فؤاد الظاهري أيضاً، بصورة غنائية ورؤية موسيقية جديدتين، تتحفنا كنوادر تراثية، لحناجر سعاد محمد (ليلى)، وعادل مأمون (قيس)، وكارم محمود (ورد) ،ويوسف صباغ (رفيق ورد)؛ إلا أن أياً منهم لم يفكر بتلحينها كاملة كأوبرا. المفاجأة أن أم كلثوم شاركت عبدالوهاب حلم مشروع تلحين (مجنون ليلى) كاملة! بل أغرمت بأغنية (جبل التوباد) فطلبت أن تغنيها فوافق، أكد ذلك عبدالوهاب في أحاديثه لسعد الدين وهبة في برنامج (النهر الخالد) بالتليفزيون المصري، التي دونها مؤخراً الأمير أباظة في كتاب بالعنوان نفسه، فقال عبدالوهاب إنه فكر مع أم كلثوم أن ينتقي –بمساعدة فريق شعراء– كل ستة أبيات موزونة ليلحنها، ويتبعها بفواصل موسيقية، سواء الأشعار التي وردت على لسان قيس أو ليلى؛ ورغم روعة النماذج التي لحنها من (مجنون ليلى) في رؤية توفيق الحكيم، إلا أنه يقرر أننا لا نستطيع تقديم أوبرا جديدة، فجميع الأوبرات الأوروبية المقدمة حديثاً، قديمة، وأن الأصوات الأوبرالية القوية نادرة لدرجة يعتقد معها أن سيد درويش لم يكن ليستطيع معها أن يقدم أوبريتات –لو عاش لليوم– وربما أبدعها للسينما أو للتليفزيون لتصل للجمهور بأقل مجهود وتكلفة ووقت، وذلك لتغير مفردات العصر. الجدير بالذكر ما يؤكده الناقد الكبير إلياس سحاب في كتاب (حديث عن عبدالوهاب) أنه في شهوره الأخيرة حاول تلحين ما لم يلحنه سابقاً من المسرحية، وأنه لحن مقاطع كثيرة منها محاولاً استكمالها، طالباً من المايسترو الكبير سليم سحاب أن يعدها موسيقياً، ويكتب نوتاتها خلال استكماله تلحينها، والتنسيق مع المسؤولين لتمويلها الضخم، وبالفعل جمع الألحان السابقة التي لحنها على مراحل، لكنه رحل قبل إتمامها وتقديمها كأوبرا عربية لأجمل ما كتب شعراً وموسيقى، خدمةً تاريخية للموسيقى والغناء العربيين، بعد تراجع الموسيقى والقصائد. وينادي الشاعر جهاد فاضل بإعادة إحياء المشروع بتكاتف فريق من المبدعين ترعاه وزارة الثقافة، يتكون من نهلة القدسي - أمينة تراث عبدالوهاب– والمايسترو سليم سحاب، وبعض الملحنين والموزعين لاستكماله، كأفضل تكريم لتراث عبد الوهاب. فمن المؤكد أن لفن الموسيقى إمكانات لا نهائية في تعبيرها الرصين عن المشاعر السامية والعواطف الإنسانية بكل أعماقها وأبعادها النفسية.
"المجلة العربية"