القاهرة 24 يوليو 2016 الساعة 02:32 م
يعود اسم الكاتبة الإيطالية إلسا مورانتي في هذه الأيام بعد غياب عن الساحة الأدبية الأوروبية، لكن في طريقة مواربة، أي من خلال كاتبة من جيل جديد تنشر باسم مستعار هو إيلينا فيرانتي، يرى البعض تشابهاً بينها وبين الكاتبة الراحلة ليس في رنة الاسم فقط، بل كذلك في أسلوب الكتابة. وإذ كان الحديث عن مورانتي قد عاد، فقد عاد معه بالطبع، الحديث عن أشهر رواياتها وهي تلك التي عنونتها بـ «الحكاية»، وأقامت عالم الأدب الإيطالي ولم تقعده حين صدرت قبل نحو ثلث قرن، ثم حين حُوّلت فيلماً قامت ببطولته كلوديا كاردينالي. في الفيلم تلعب هذه الأخيرة دور إيدا راموندو، التي تحكي لنا الرواية فصلاً من الحياة الدرامية والبائسة التي عاشتها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.
> إيدا امرأة تعيش، في تلك المرحلة من الحرب والحكم الفاشي في إيطاليا، كل المخاوف والتهديدات التي عاشها اليهود هناك، كما في ألمانيا. وأحداث حياة إيدا تُروى لنا بصوت راوية لن نعرف أبداً من هي، حيث على رغم غيابها التام عن الأحداث، نشعر في الأقسام الثمانية التي تنقسم إليها الرواية، أنها موجودة في تلك الأحداث، في مكان ما من الأمكنة. أما بالنسبة الى إيدا، فإن لديها ابنين صبيين تقوم بتربيتهما وبذل كل أنواع التعب من أجلهما، هما اللذان ثمة فارق كبير في السن بينهما. فالأول «نينو» أنجبته قبل زمن وهو أضحى اليوم شاباً. أما الثاني «يوزيبي» فإنه ثمرة اغتصاب جندي ألماني لها. في البداية، نكون مع حكاية إيدا التي لا تكشف أن أمها يهودية، وأنها إنما غرقت وهي تحاول الفرار الى فلسطين خوفاً من الممارسات الفاشية. بعد ذلك، نتحول الى حكاية إيدا مع ولديها عبر أقسام الرواية التي ابتكرت فيها مورانتي أسلوباً لمَوْقَعة الأحداث تاريخياً، من خلال مقطع يسبق كل فصل ليروي الأحداث التاريخية الفعلية التي يدور الفصل على خلفيتها. وفي الفصول نتابع حكاية نينو الذي يبدأ حياته العملية كلص قبل أن يتحول الى المقاومة ويصبح قادراً على زيارة أمه وأخيه بين الحين والآخر، ما يربطه بعلاقة حنون مع ذلك الطفل المريض البائس الذي لا ترى أمه مستقبلاً له. والطفل يوزيبي بدوره، يتعلق بأخيه ولا يتوانى عن رصده بإعجاب في جميع أفعاله سواء كانت صالحة - مثل قتله ثلاثة جنود ألمان كفعل مقاومة - أو شريرة. وفي نهاية الأمر، يُقتل نينو فيما كان يحاول تهريب أسلحة الى داخل إيطاليا.
> القسم الأخير من الكتاب يتعامل مع علاقة إيدا بابنها الباقي وأمراضه وخوفها عليه وخوفها من انكشاف أصله الألماني. فنحن الآن في العام 1947 والألمان قد اندحروا... لكن الطفل لا يعرف الخوف ومن هنا يترك نفسه عرضة لممارسات وضروب غياب تتمكن منه في النهاية، فيما تكون الأم غائبة تدرّس في المدرسة الابتدائية التي التحقت بها. وهي تكتشف موته لدى عودتها الى البيت... ما يضعها في موقف ذهول لن تبرأ منه طوال ما تبقى لها من سنوات تعيشها.
> ربما قامت شهرة إلسا مورانتي، أساساً، خلال السنوات الأخيرة من حياتها، على معركتها الحامية مع ألبرتو مورافيا، رفيقها خلال سنوات طويلة، وعلى رائحة الفضيحة التي نفذت من خلال ذلك الصراع، فأتى رحيل الكاتبة عام 1985، ليضع حداً لذلك كله، ويُنسي الناس «معارك» إلسا مورانتي مبقياً على أعمالها الأدبية. ولن يكون من الصعب بعد ذلك اكتشاف أن أعمالها هذه كانت من الأعمال الأدبية الأساسية في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك بشهور قليلة، جاء فيلم «لاستوريا» - أو «الحكاية» - الذي اقتبسه لويجي كومنشيني من الرواية ومثلته كلوديا كاردينالي، ليرسخ نهائياً مكانة صاحبتها. واليوم بعد رحيلها بأكثر من ثلاثة عقود، باتت لهذه الكاتبة الاستثنائية مكانة أساسية في التاريخ المعاصر للأدب الإيطالي، يرى بعض النقاد، في شيء من المبالغة طبعاً، أنها لا تقل عن مكانة مورافيا نفسه.
> في شكل عام، كانت إلسا مورانتي كاتبة الأحاسيس الطفولية، الكاتبة التي نظرت الى العالم من خلال عيون الأطفال فاكتشفت قسوته وأحست باليأس منه ووقفت في نهاية الأمر موقف الحيرة إزاءه. ولئن كان هذا واضحاً في القسم الأول من «الحكاية» على الأقل، فإن دأب إلسا مورانتي في معظم رواياتها ونصوصها الأخرى، كان تحرّي جوانب ذلك اليأس الذي كان لا يكفّ عن اعتصارها، جنباً الى جنب مع الهواجس الأسطورية التي أسست لذلك اليأس. وهي هواجس ولدت مع إلسا مورانتي منذ بداياتها، هي التي لن تنسى أبداً أنها أطلت على الحياة في 1918، أي في العام نفسه الذي وُلد فيه القرن العشرون، رمزياً على الأقل، من رحم مآسي الحرب العالمية الأولى ومجازرها.
> كانت إلسا مورانتي لا تزال مراهقة حين كتبت روايتها الأولى «مغامرات كاترينا الغريبة». صحيح أن تلك الرواية لم تحقق يومها النجاح الذي كانت تتوقعه لها كاتبتها، غير أنها حددت لإلسا طريقها المقبلة، وكذلك حددت لها مواضيعها الأساسية: الطفولة، الدهشة أمام العالم، والشر المستطير في عالم الكبار. والحال أن إلسا لن تخرج بعد ذلك عن هذه المواضيع أبداً، لا في كتاباتها ولا في نظرتها كامرأة الى العالم، حيث ظلّت على الدوام تلك الطفلة المدهوشة التي تراقب العالم بعيون قلقة، وتعرف في كتابتها كيف تربط بين الخاص والعام، بمعنى أن «الحكاية» لديها تكون حكاية وتكون «تاريخاً» في الوقت نفسه، ومن هنا ذلك الالتباس الخلاق والمدهش في عنوان روايتها الأساسية «لاستوريا».
> الرواية الكبيرة الأولى التي كتبتها إلسا مورانتي كانت «أكاذيب» في 1948، وفيها حكاية طفل ولد وترعرع مثل طفل وحشي برّي، في بيت كبير، وكان كل أمله في الحياة، أن تتكرر زيارة والده الذي كان ينظر إليه بوصفه مخلوقاً خرافياً جاعلاً منه بطل مغامرات غريبة يبتكرها خياله. غير أن العالم الغريب والخرافي الذي ابتكره الفتى، سرعان ما أخلى مكانه لنظرة كشفت عن قسوة ذلك الواقع. وهكذا كانت خيبة الطفل كبيرة حين وجد الواقع يحلّ في شكل مباغت محل عالمه المتخيّل، فيصدمه تلك الصدمة التي لن يبرأ منها أبداً.
> أما كتاب إلسا الكبير، فصدر في 1969 وكشف كم أن هذه الكاتبة التي كانت تعيش كطفل روايتها «أكاذيب» معزولة خارج كل جماعة وشلة، وسط روما، تحلم بالجنوب الأسطوري الذي ينتمي إليه أبوها، وكم أنها كانت قادرة على مراقبة العالم وأحداثه التي تدور من حولها. ففي ذلك الكتاب وعنوانه «العالم الذي ينقذه الصغار»، انطلقت إلسا مورانتي من حادثة انتحار لتصل الى تأمل التاريخ والكيفية التي يتطور بها المجتمع وسط خضّات انتفاضات الطلاب في 1968 وحرب فيتنام والقنبلة الذرية وآفاق استخدامها المدمر، هذا كله قاد إلسا مورانتي الى التعبير عن تصوّر مأسوي للتاريخ، تصوّر قولبه الموت ومطاردته لها، لكن قولبه أيضاً ذلك التقسيم الذي رأت إلسا مورانتي أنه يقسم الناس قسمين: الأكثرية البائسة والأقلية السعيدة، الأُوَل هم الذين يخضعون لمنطق المجتمع ويندمجون في مؤسساته، أما الآخرون فهم الذين يرفضون ذلك الخضوع ويعيشون على الهامش. ورواية «الحكاية»، تأتي ضمن هذا الإطار، لكن دائماً من خلال عالم تتأمله عينا الطفل، الطفل المصاب بالصرع المندمج بالطبيعة، الى درجة أن إلسا تقدمه لنا حاملاً، وحده، حقيقة الوجود. وإلسا تركز على علاقة شخصيتها بالتاريخ من خلال أسلوب يقوم على التركيز على أحداث التاريخ الحقيقية بالتقاطع مع أحداث الرواية. وهذه الرواية حققت نجاحاً كبيراً ما إن صدرت وصارت واحدة من أكثر الروايات شعبية في تاريخ الأدب الإيطالي الحديث، وكذلك حال رواية إلسا التالية «آراكولي» التي، مرة أخرى، تنظر الى العالم وقسوته من خلال عيني طفل.
> في هذه الرواية كما في بقية كتبها التي كانت قليلة العدد على أي حال، عرفت إلسا مورانتي كيف تصنع لنفسها مكانة على حدة في تاريخ أدب إيطالي لم يكف عن طرح أسئلة الوجود على نفسه طوال إبداعاته خلال القرن العشرين وما بعده.