القاهرة 19 يوليو 2016 الساعة 01:27 م
حينما مضت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) إلي مكتبة سوهاج بصعيد مصر، وجدت مخطوطا كبيرا ضاع أوله، ومكتوب عليه «في علم الأدب، مجهول اسمه، أو اسم المؤلف» وراحت تقرأ لتكتشف أن المخطوط الماثل أمام عينيها هو «رسالة الغفران لأبي العلاء المعري» وهي أقدم النسخ المصرية المخطوطة ، فقامت بتحقيقها ونشرها.
وحينما قَدِمَ مَلِك إسبانيا إلي مصر زار دار الكتب بها، وهناك ودَّ المدير أن يُكْرم الزائر فأحضر له أقدم مخطوط في مصر وقدّمه إليه ؛ تطلَّع الملك في انبهار ودهشة لخطوط المخطوط وزخارفه وألوانه، وراح المدير يلحّ علي الملك أن يمسك المخطوط ولكن الملك اعتذر في دبلوماسية خوفاً علي الورق من عرق يده ! تداعت إليَّ هذه الحكاية وأنا أستمع لأحد الأصدقاء وهو يحكي لي عندما كان في عاصمة دولة عربية وزار دار المخطوطات بها، وسأل الموظف المختص عن إحدي المخطوطات فقال له إنها موجودة وسيحضرها له ؛ فأحضر مقعداً خشبياً عتيقا ليعلو فوقه حتي يصل إلي المخطوط المنشود ولما كان المخطوط أعلي من قامة هذا الموظف مضافا إليها ارتفاع المقعد وضع الموظف عدداً من المخطوطات فوق المقعد وقفز فوقها بحذائه المغبر باحثاً في أعلي الرف عن المخطوط المنشود !
وأذكر أني شددت الرحال لزيارة عجوز ورثَت مخطوطات عديدة عن زوجها الذي توفي قبل مولدي وبعد أن حكت لنا عن ذكرياته معها وكيف كان يعاملها بلطف واحترام طلبتُ منها أن تُطْلعني علي المخطوطات، فقالت لي إنها لم تفتح دولابها الخشبي منذ وفاة المرحوم وبعد لأيٍ وبحثٍ عن المفتاح فتحته لنجد المخطوطات تسرح فيها الأرَضة محوّلة معظمها إلي كوم تراب !
أما ما حدث في إحدي قرانا فقد كان أشنع إذ لم يترك أحدهم سوي مخطوط واحد كبير وبعد وفاته وُزّع الميراث وكذلك أوراق المخطوط أيضا ؛ فَقُطّع المخطوط، وذهبت أوراقه هدراً بين الورثة. ومن يدري فربما وضعت إحدي الوارثات أوراقها المخطوطة في وسادة تنام عليها التماساً للبركة ! ومع العَرَق ستضيع ملامح الكلمات إلي الأبد كما ضاعت أقدم مسرحية فرعونية - وهذا ما كتبه عالم المصريات سليم حسن - فقد دّوَّنَ الأديب الفرعوني القديم مسرحيته نحتاً علي جوانب حجر دائري كبير في أحد معابد صعيد مصر وأخذه أحد المزارعين وجعله طاحونا يطحن بها الحبوب لأهل القرية والقري المجاورة، ودارت الطاحون وضاع النص المنحوت، وحينما اكتشفته بعثة الآثار كان النص المتبقي بقايا مسرحية كُتبت قبل أكثر من خمسة آلاف سنة !!
مَنْ يجمع هذه المخطوطات ؟ من يعمل علي ترميمها وتصنيفها وتحقيقها ؟ لا أقصد هنا المخطوطات المحفوظة لدي الدول - وهذي حالها لا يسر أيضا - بل أعني المخطوطات المتناثرة في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي والمملوكة لأشخاص ؛ ثم ألا يوجد موقع واحد عبر الإنترنت نعرف إن كانت هذه المخطوطة حُقّقت أم لما تحقق بعد ؟ حتي لا نجد التحقيقات المتوازية في أكثر من قطر عربي بينما آلاف المخطوطات لما تحقق بعد. ألا توجد هيئة عامة تفاوض هؤلاء الأشخاص وتشتري منهم ما يمتلكون وإن رفضوا فعلي الأقل تصويرها ونشرها ؟
من المؤسف والمفرح أن آلاف المخطوطات العربية والإسلامية وجدت طريقها نحو مكتبات العالم ولاسيما الألمانية فربما لو ظلت قابعة في بيوتنا لقُضي عليها ؛ آلت هذه المخطوطات إلي المكتبات الألمانية بالجامعات والبلديات من خلال الشراء أو الاستيلاء عليها من الأقطار العربية والإسلامية لكنها - وبحق - وجدت من يسعي إلي حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل علي تحقيقها، وإن نظرة في أعداد هذه المخطوطات لتوضح لنا أهميتها كذخائر تراثية لا تقدر بثمن ؛ فقد احتلت مكتبة برلين الوطنية نصيب الأسد من هذه المخطوطات الإسلامية إذ أن عددها يربو علي العشرة آلاف مخطوط مفهرسة في عشرة مجلدات، يقع كل مجلد في حوالي ألف صفحة، وفي مكتبة جامعة جوتنجن حوالي ثلاثة آلاف مخطوط من نفائس التراث العربي. وفي مكتبة جامعة توبنجن بجنوب ألمانيا العديد من المخطوطات الذخائر ناهيك عما بها من كل إصدارات العالم العربي والإسلامي من كتب ودوريات منذ اختراع المطبعة ؛ جاوز عمر بعضها المائة عام واختفت من المكتبات العربية وصار الحصول علي بعضها ضربا من المستحيل، مما يجعل دورها دوراً ثنائيا في خدمة المخطوط والمطبوع من الفكر العربي، ولقد عثرتُ في إحدي زياراتي علي مخطوط فريد في العروض العربي وهو مخطوط «كتاب العروض» لعلي بن عيسي الربعي ت 420هـ وقمت بتحقيقه وعلي الرغم من مضي أكثر من ألف عام علي المخطوط إلا أن حالته جيدة، وقد اغتظتُ ذات مرة من المبالغة في حفظ المخطوطات، وكانت إحدي موظفات المكتبة ترمقني وأنا أقلّب المخطوط فودّت أن تقلب لي المخطوط بدلا عني ؛ فَصِحت بها في لطف ممازحا: ربما يكون هذا المخطوط مِلكا لجدي! فردّت: لكن لم يحافظ عليه أبوك!!