القاهرة 19 يوليو 2016 الساعة 10:56 ص
أجد نفسي مضطرا ، وفي لحظة مبكرة من هذه السطور، أن أقول بأن الجيش التركي، تعرض لمهانة تاريخية، وبصورة غير مسبوقة في العالم، وكأنه مجموعات من المرتزقة المذعورين ، العاجزين، وليس جيش دولة إقليمية إسلامية كبرى، وثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد نظيره الأميركي، وتقدر ميزانيته بنحو 18 مليار دولار، ويحتل بذلك المرتبة الـ 15 عالميا على مستوى الإنفاق العسكري .. ومهما اختلفت الآراء والمواقف تجاه سياسة الحكومة التركية، إلا أن الجيش يمثل "رمزية " كبرى للدولة، والمفروض أن يكون قلبها "الصلب" وليس "الجندي" المهان بهذه الصورة المسيئة للشعب التركي أولا .. هل تبتلع "عقيدة" العسكرية التركية هذه الصورة المهينة ، وكأن جنودها أسرى حرب في يد النازيين؟ّ!
هناك إجابة بالطبع ..
ولا أتصور ، أن تبتلع المؤسسة العسكرية التركية "الكبرى" عددا، وخبرة، وتاريخا، ما حدث ، لأن إهانة جندي واحد، وبهذا الشكل، وبتلك الصورة ، ولو كان "إنقلابيا" هي إهانة للعسكرية التركية .. ولا يتصور عقل أي عاقل ، أن يصبح الجيش التركي مجرد مؤسسة في القصر الحاكم، بجوار "حريم السلطان" .. أو لا يتساءل يوما عن أكبر وأغرب حركة تصفيات واسعة ، للجنرالات، حدثت في التاريخ الحديث .. والرقم نفسه كفيل بوصم الجيش التركي بالخيانة ويستوجب حله ، وليس فقط تطهيره !!
وفوق ما تقدم كله .. إذا كان الجيش التركي، وبكل عراقته العسكرية، قد انكسرت "هيبته" .. فإن السلطان نفسه، قد اهتز "الكرسي" من تحته، أيضا، وبصرف النظر عن حقيقة ما جرى مساء الجمعة 15 الشهر الجاري، وهل كان انقلابا "خائبا" قد وقع بالفعل ، أو إنقلابا "مقلوبا" جرت مشاهده في صورة أقرب للعبثية، أم مجرد مشهد "سياسي" في الدراما التركية .. هذا لا يهم .. ولكن ما يهمنا ، تسلسل أحداث، كان لابد أن تنتهي إلى الفصل قبل الأخير، الذي شاهدناه وتابعنا حركته بعد ست ساعات ، بكتيبة من علامات الإستفهام والتعجب ــ أكرر .. الفصل قبل الأخير في المشهد التركي ــ وأعتقد أن الفصل الأخير لن يتأخر كثيرا .
والشاهد .. أن ما حدث وبكل صور المهانة والإنكسار والإذلال التي صدمتنا ،وصدمت غيرنا ، ولو على الأقل من باب الإنسانية ، أو بدواعي الشفقة على رجال جيش ، كان يوما "ما " صاحب الكلمة العليا والمتحكم في الساحة السياسية التركية، وله صولات وجولات مع حلف الناتو .. ما حدث يرجع إلى البدايات الأولى ومنذ ان صعد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلى السلطة وهو خائف يترقب، ينظر بعين يشوبها القلق تجاه المؤسسة العسكرية التركية، الحارس الأوحد للديمقراطية العلمانية، والذى لا يخضع للمُساءلة، وتمتع بسطوة كبيرة على الشئون السياسية فى البلاد، لذا فإن الرئيس التركى حاول تقليم أظافر الجيش ، وأن يضع تلك المؤسسة التى باتت تؤرقه وتقلق الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" منذ 2002 نصب عينيه ويقلل من دورها فى
الحياة السياسية، لذا عين "نيسدي تأوزيل"، أحد الرجال المخلصين له، رئيسا لهيئة الأركان، ثم أقر البرلمان التركى بغالبية الأعضاء من الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" تعديلا على قانون الجيش، يقضى بأن الجيش يدافع عن المواطنين ضد التهديدات الخارجية، وذلك عوضا عن قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، والتى كانت تضفى شرعية على كل الانقلابات، التى كانت تقول إن الجيش يحمى العلمانية فى تركياوتبنت حكومة أردوغان سلسلة من التعديلات الدستورية، استغلها "أردوغان" وقام بوضع حدا نهائيا لدور العسكر فى الحياة السياسية، منها أنه جعل عدد أعضاء مجلس الأمن القومى 9 مدنيين مقابل 5 من العسكر بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل عقود. كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت فى السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لعقود.
وقررت حكومة "أردوغان" ، أيضا ، فصل القيادة العامة لقوات الجندرمة، وهى قوات الشرطة الريفية شبه العسكرية فى تركيا، عن هيئة الأركان العامّة وضمها إلى وزارة الداخلية،
في محاولة لملء صفوف الدرك بأنصار حزب العدالة والتنمية وخلق توازن فى مواجهة قوة الجيش، وأخضع "أردوغان" تحركات وتصرفات الجيش التركى لمراقبة البرلمان، فى خطوة هامة جدا لمتابعته، ووجد ضباط وجنرالات فى الجيش أنفسهم يحاكمون فى قضايا تتصل بتهم محاولة قلب نظام الحكم أو الانتماء إلى جماعة معارض أردوغان اللدود "فتح الله غولن"، وكانت أبرز القضايا : قضية أرغينيكون، وقضية المطرقة..
* القضية الأولى، تعود أحداثها إلى عام 2007 عندما أوقف القضاء مئات الضباط المتقاعدين وفى الخدمة، بعد أن اكتشفت الشرطة مخبأ للأسلحة ، حينها كان الجيش معارضاً لوصول عبد الله غول إلى الرئاسة. وتم الحكم بالسجن المؤبد على ضباط كبار فى الجيشن من بينهم رئيس اركان الجيش السابق، ايلكيرباشبو، وقائد الجيش الأول السابق حسن ايغسيز، وقائد الدرك السابق شينيراراويغور، ومعهم مسئولين سياسيين وأكاديميين ، وبتهمة
التآمر للإطاحة بحكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية.
* والقضيّة الثانية “المطرقة” .. وترجع أحداث القضية إلى العام 2003 و"المطرقة" هدفها تنفيذ سلسلة هجمات، لزرع البلبلة فى تركيا، وبالتالي تبرير تدخل الجيش لإعادة الأمن، واتّهم فى القضية بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية، وتم حبس العشرات من الجنرالات واحتجاز المئات من المسئولين العسكريين المتقاعدينن في العام 2012.. وقد تُوّج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعيّة للمجلس العسكرىالتركى الأعلى فى أواخر يوليو 2011 وهى الاستقالة التى اعتبرها المراقبون آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيّين
وبقيت القضية المحورية وهي : لا أحد ينافس الرئيس وسلطاته .. وان على الجيش أن يتراجع منكسرا إلى ثكناته، وإلا عليه مواجهة الشرطة وجماهير حزب العدالة والتنمية ،
والصور ما زالت ماثلة أمام الجميع .. السلطة المطلقة للرئيس، وبمقدار ما عبر عنه صراحة ،يجيت بولوت، مستشار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، "اتركوا اليساة للرئيس وحده " حيث يتعين عليه أن يشتغل وحده دون سواه بالسياسة في البلاد، وقال فى تصريحات تليفزيونية 25 يونيو الماضي : "لاحاجة لأن يشتغل أى شخص آخر بالسياسة بعد الرئيس، فهو يتولى شئون السياسة الداخلية والخارجية"
لقد قيل ، ليلة الإنقلاب و ما بعدها ، كلام كثير عن الشرعية، والحكومة المنتخبة، وشرعية الصندوق، ومثل هذه الاعتبارات جعلت مفكرا فرنسيا كبيرا ( أليكس دى توكفيل ) يكتب منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، كتابه الشهير( الديمقراطية في أمريكا ) يحذر فيه من طغيان وظلم الأغلبية لمن عداهم ،
ومثل هذا هو أيضا الذي جعل مفكرا أمريكيا معاصرا يصف الديمقراطية الأمريكية ساخرا بأنها " أفضل نظام سياسي يمكن شراؤه بالنقود " إنه لم يتهم الديمقراطية الأمريكية باستخدام التزوير أو الرشوة ، بل كان يقصد ما يمكن للنقود أن تفعله في تشكيل عواطف الأغلبية سواء بالحق أو بالباطل !!
وعموما ليس كل نظام تأتي به الديمقراطية يكون هو نفسه ديمقراطيا ، فقد عرف التاريخ أشكالا من الحكومات التي أتت عن طريق العمليات الانتخابية والاختيار الحر، وكانت معادية واستبدادية .. ألم تأت الأغلبية بالفاشية والنازية ، فالفاشية لم تتوان طوال عهدها عن نبش الشعور الديني ، ليس فقط من أجل حشد وتعبئة الجماهير حول طروحاتها ، وإنما إلى تقديس الرجل الأوحد ، ألم يجعل هذا من موسوليني " الزعيم الجبار " ومن هتلر شخصية كونية استثنائية الوجود ؟!
واتصالا بما سبق .. فإن الفصل الأخير، داخل المشهد التركي، لن يتأخر كثيرا .. هكذا تقول شواهد سابقة .. أو حسب مقولة الفيلسوف العظيم سقراط "إن الآلهة عندما تغضب على
أحد لا تنتقم منه، لكن تكلفه هو أن ينتقم من نفسه ، ويسيء لنفسه" ..