القاهرة 18 يوليو 2016 الساعة 02:51 م
القاهرة 18 يوليو 2016 الساعة 02:44 م
كتب : محمود الزيباوي
في 9 تموز-يوليو 1998، توفيت نور الهدى في بيروت، فرَثَت وسائل الإعلام "راهبة الفن" التي بقيت تعتز حتى آخر أيامها بلقب الآنسة. فقدت "صاحبة الصوت الذهبي" بريقها باكرا، غير أنها بقيت حاضرة، وروت مرارا قصة حياتها الحافلة بالأحداث.
يقال عادة ان نور الهدى "انسحبت مبكراً من تحت أضواء الشهرة الكبيرة"، كما كتب الياس سحاب، غير أن المراجعة المتأنية لأخبار هذه الفنانة تثبت بأنها جاهدت على مدى عقود من الزمن لاسترداد موقعها في الساحة الفانية، غير أنها فشلت في ذلك، وأيقنت في نهاية المطاف "أن نجمة الغناء الأولى في لبنان، قد أصبحت فيروز، بعد عصرها وعصر زكية حمدان".
سيرة نور الهدى في عصرها الذهبي الأول معروفة. هي ألكسندرا بدران، ولدت العام 1924 في مرسين، جنوب تركيا، ونشأت في حي المزرعة في بيروت. عشقت الغناء منذ الطفولة، واحترفته باكراً رغم معارضة والدها الشديدة. تتلمذت على يد الملحّن والعازف خالد ابوالنصر، وقدّمت في صغرها، في مسرح سينما كريستال، حفلة شكّلت بداية انطلاقتها الفنية. أحيت الحفلات بين بيروت ودمشق، ودخلت الإذاعة اللبنانية في أول عهدها، يوم انشأها الفرنسيون باسم "راديو الشرق" في ايلول-سبتمبر 1938.
في العام 1942، حضر يوسف وهبي احدى حفلاتها في حلب، فرأى أنها تصلح للسينما، ووقع معها عقداً للعمل في مصر لمدة خمس سنوات. اختير للمغنية اللبنانية الشابة اسما فنيا، نور الهدى، وكان أول أفلامها "جوهرة"، وفيه غنت من ألحان رياض السنباطي وفريد غصن ومحمد الكحلاوي. عُرض الفيلم في العام 1943، ونجح نجاحا كبيرا. في العام التالي، اجتمعت نور من جديد مع يوسف وهبي في "برلنتي"، وفي 1945، شاركت محمود ذوالفقار بطولة فيلم "مدموازيل بوسة"، وغنّت فيه من ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمود الشريف. في 1946، مثّلت مع محمد فوزي في "مجد ودموع"، وغنّت معه من تلحينه حوارية "ست الحسن"، كما أنشدت من تلحينه "أنا مش حلوة"، إضافة إلى خمس أغنيات من تلحين فريد الأطرش ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. في العام نفسه، تحقّق حلمها الكبير، ووقفت أمام عبد الوهاب في آخر أفلامه "لست ملاكاً"، وغنّت معه "كنت فين تايه وغايب"، و"اضحكي وغني وافرحي معايا".
رافق نقولا بدران ابنته خلال هذه السنوات، ولم يتركها لحظة. وحين سألها محرّر مجلّة الفن": "هل أنت متزوجة؟". أجابت: "أني متزوجة أبي". وسألتها مديحة يسري: "هل تفكرين بالزواج؟"، فقالت: "لا، لأني وهبت حياتي للفن". بقيت الآنسة نور الهدى على هذه الحالة، وصوّرها صاروخان في كاريكاتير وهي منتصبة، ومن خلفها ظلّ والدها بدلاً من ظلّها. تابعت "صاحبة الصوت الذهبي" مسيرتها السينمائية في مصر، وقامت العام 1947 بدور البطولة أمام حسين صدقي في "غدر وعذاب". وفي العام التالي، ظهرت مع أحد سالم في "المنتقم"، ثم اجتمعت ثانية في فيلم كتب قصته والدها عنوانه "قبّلني يا أبي"، وغنّت فيه من جديد من ألحان السنباطي والقصبجي وفوزي، كما غنّت من الحان عبد الوهاب رائعتها "الدنيا ساعة وصال".
في العام 1948، قامت نور الهدى ببطولة أفلام ثلاثة، هي "حياة حائرة"، "نرجس"، و"المستقبل المجهول"، وغنّت في هذه الأفلام باقة من الأغاني وضعها ملحنون رافقوها في مسيرتها المصرية. وفي العام التالي، أنتجت فيلم "هدى" الذي فشل فشلاً ذريعاً، ورأى البعض أن تدخّل والدها في التأليف والانتاج كان وراء هذا الفشل. في السنوات الأولى من الخمسينات، أضافت نور الهدى إلى رصيدها ثمانية افلام ختمت بها مشوارها الزاهر في مصر. في 1950، لعبت دور البطولة في "أفراح" مع محمود ذو الفقار، ثم اجتمعت للمرة الأخيرة مع محمد فوزي في "غرام راقصة". وفي 1951، ظهرت في "الشرف الغالي" و"شباك حبيبي". وفي 1952، مثلت أمام فريد الأطرش "في ما تقولش لحد"، بعدها مثلت مع كمال الشناوي "مصري في لبنان"، ثم ظهرت ثانية مع فريد الأطرش في "عايزة اتجوز". ختمت نور الهدى هذه المسيرة العام 1953 حيث شاركت عماد حمدي بطولة "حكم الزمان"، ثم ظهرت في فيلم "ثوري" عنوانه "حكم قراقوش"، وأنشدت فيه من ألحان محمد عبد الواهب والسنباطي وزكريا أحمد ويوسف صالح.
خلال هذه السنوات، عادت الآنسة نور الهدى إلى الغناء في لبنان، وتعاونت مع ملحنين رافقوها في مسيرتها الأولى. صعدت بطلة "مجد ودموع" سلّم الشهرة، غير انها ظلت تعيش في جلباب والدها، وهي تردّد: "لا أفكّر في الزواج، لأني وهبت حياتي للفن". فشل فيلم "هدى" الذي أنتجته، ونقلت مجلّة "الإذاعة" في بيروت قولها: "لقد دفعت كل ما بقي عندي من مال في هذا الفيلم وأرجو أن أستعيد هذا المبلغ، لكن هل في مقدوري إعادة ثلاثين ألفاً من الجنيهات؟". وأضافت المجلّة معلّقة: "والمعروف في الدوائر السينمائية المصرية أن قصة هذا الفيلم من تأليف والدها نقولا بدران، وهو نفسه مؤلف قصة فيلم "قبّلني يا أبي" الذي عرض في الموسم الماضي وجاء بخسائر لا يستهان بها".
كتب محمد التابعي مقالة في "آخر ساعة" في هذا الشأن، قال فيها: "ان نور الهدى عندها إمساك في الحبّ وزميلتها صباح عندها إسهال في الحبّ". وكتب إحسان عبد القدوس في "الإثنين" قصة قصيرة رسم فيها صورة بائسة للفنانة التعيسة في الحب من دون أن يسمّيها. تقول هذه القصة القصيرة: "إنها فنانة بزغ نجمها في مصر، وكان الجميع ينتظرون لها إقامة طويلة فوق قمة المجد، فقد وهبها ألله كل شيء. وهبها فناً وجمالاً وذكاء، لكنه سبحانه وتعالى وهبها أيضاً أباً عنيداً يضع فوق كتفيه حجراً ضخماً يسميه رأساً. هذا الأب، خُيّل إليه إن الناس كلهم قد تربصوا بإبنته ليختطفوها منه، ففرض عليها من شخصه حارساً صارماً، وأعلن الأحكام العرفية على كل تصرفاتها. وهي اليوم قد أصابها اليأس فكفت عن المقاومة، لغباء أبيها، وأنانيته، وجبروته، ولم تعد ترى منفذاً أمامها لإستعادة مجدها، لأنها أصبحت أضعف من أن تتبدّل".
في شباط-فبراير 1952، أنعمت الحكومة اللبنانية على نور الهدى بوسام الاستحقاق اللبناني المذهب، وعلّق رئيس الوزراء عبد الله بك اليافي، الوسام، على صدر الفنانة في ديوانه، وتبعت هذه الحفلة الرسمية، حفلات تكريم عديدة. جاهدت نور الهدى في استعادة دورها في وطنها، وأحيت حفلات، غير أنها لم تحصد النجاح المرجو. تضاءل بريق نجمة الأمس تدريجيا، فازداد سخطها على الوسط الفني. واصلت النجمة نشاطها بلا انقطاع، وسجّلت كمّاً هائلاً من التسجيلات الإذاعية تعاونت فيها مع مجمل الملحنين اللبنانيين، ومثلت في فيلم لبناني عنوانه "لمن تشرق الشمس" العام 1958، غير أنها فشلت في تحقيق أي نجاح يذكر، فازدادت نقمتها، وعظم سخطها على "المونولوجستات اللواتي يغنين من ثيابهنّ لا من أفواههن". كررت نجمة الأمس أحاديثها عن الاخلاق والفضيلة، غير أن هذا لم يمنعها من احياء حفلة في مسرح "شاهين" في عاليه صيف 1968، بمشاركة جاكلين، كهرمان، منى فريد، وقوت القلوب.
في العام 1972، وإثر ظهورها في برنامج "حنكشيات" التلفزيوني، وجه جورج ابراهيم خوري إلى نور الهدى رسالة خاطبها فيها وقال: "لست هنا في مجال تقييم موهبتك الأصيلة الصافية، بل أتوقف عند حديثك عن شهرتك الذابلة، وقد عزوت هذا الذبول إلى تمسكك بالفضيلة والكرامة. إن أتفه سبب يمكن للفنان أن يبرر بواسطته فشله في تسديد خطاه على طريق الشهرة هو تمسكه بأهداب الفضيلة. عندما رأيتك على الشاشة الصغيرة، أحسست وكأنك بحاجة إلى يد مخلصة لتهزك، لتصحّيكِ، وتعيد لحنجرتك إشراقتها التي تنتزع الآه من أعماقنا، فقد قال الشاعر البوليفي أولميرو: الجرأة تقتحم دائماً النجاح، والمهزومون هم الذين لا يأملون في الإنتصار".
"المدن"