القاهرة 23 يونيو 2016 الساعة 12:55 م
في العام 1955، وكانت كولومبيا – بلد غابريال غارسيا ماركيز الذي سيصبح واحداً من كبار كتاب القرن العشرين لاحقاً -، تعيش في ظل واحد من أكثر أنظمة الحكم غباء وتسلطاً في طول أميركا اللاتينية وعرضها، أيام الديكتاتور العسكري الفولكلوري، وفق تعبير ماركيز نفسه، غوستافو روخاس بينيّا، حدث أن غرقت في مياه بحر الانتيل سفينة عسكرية، ومعها ثمانية من رجال البحرية الكولومبية العسكرية. خلال الأيام الأولى بعد الحادثة، كان ثمة اقتناع عام بأن المفقودين قد ماتوا إذ ابتلعهم البحر... وبسرعة توقفت السلطات البحرية عن البحث. ومع هذا، في اليوم الثامن، تم العثور على واحد من البحارة، حياً ولكن في طور أقرب الى الاحتضار، وقد لفظته الأمواج على أحد شواطئ كولومبيا المهجورة. بسرعة نقل الرجل الى المستشفى وأسعف، ليصبح خلال ساعات بطلاً وطنياً لا يُشق له غبار. خرج من المستشفى لتحتفل به السلطات والشعب ويشرب الناس نخبه وتكتب الصحافة عنه، وتحيط به في لقاءات جماهيرية صاخبة، ملكات الجمال ونجمات السينما والمجتمع، قبل أن تبدأ بالنسبة اليه مرحلة تجميع الأموال التي راحت تعطى له بسخاء، مقابل لقاءات صحافية... بل حتى مقابل حملات دعائية للبضائع الاستهلاكية صار هو بطلها وصورتها. وهكذا انقلبت حياة الرجل رأساً على عقب. صار نجم النجوم في البلاد. ولكن كان من الطبيعي لهذا كله أن ينتهي بعد حين. وبالفعل ما إن انقضت بضعة أيام حتى كفت الدجاجة التي تبيض ذهباً عن أن تبيض. ووجد البحار نفسه وحيداً من جديد، بالكاد يعبأ به أحد. فماذا فعل؟ ببساطة توجه الى مكاتب تحرير مجلة «الإسبكتادور» وقد قرر، هذه المرة، أن يروي أمام الصحافة حكايته الحقيقية، التي سرعان ما ستبدو بعيدة كل البعد عن الحكاية الرسمية والاحتفالية.
> لكن المدهش في هذا كله هو أن ذلك البحار الخائب المسعى، لم يقع يومها بين يدي صحافي عادي بل بين يدي كاتب شاب كان في بدايات مساره المهني، من دون أن يعرف هذا الأخير على الفور أن تلك الحكاية نفسها ستكون حاسمة في ذلك المسار، وأن شكوى الشاب ستتحول الى نص صحافي سيصبح بعد سنوات عملاً «أدبياً» مستقلاً في ذاته، ويحسب كخطوة أولى بين تلك الخطوات التي سيكون من علاماتها لاحقاً «مئة عام من العزلة» و «الجنرال في متاهته» و «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» و «الحب في زمن الكوليرا». ومع هذا، سيظل النص الذي نتج من تلك المقابلة بين «البطل الوطني» و «الصحافي الشاب»، على شكله الأول: تحقيقاً صحافياً، تحوّل بفضل قلم ماركيز الى نص شبه روائي من طراز رفيع، هو النص المعروف اليوم بـ «حكاية بحار غريق».
> لكن هذا لم يكن في ذلك الحين سوى حديث صحافي، نتج من لقاءات بين الشابين تواصلت طوال شهر بكامله، وأسفرت عن نشر سلسلة من المقالات سرعان ما أذهلت كولومبيا بأسرها، ليس فقط لأن ماركيز صاغها بتلك اللغة الجميلة المشوقة التي سيعرف بها طوال نصف قرن بعد ذلك، ولكن بخاصة لأن نص الحلقات أتى لفضح واحدة من أكبر وأغرب الأكاذيب في تاريخ ذلك البلد في شكل خاص، وليفضح في شكل عام الطرق التدجيلية التي يصنع بها الأبطال والأساطير.
> ولعل أول ما فضحته الحلقات هو السبب الذي كمن في الحقيقة خلف مأساة السفينة. فإذا كانت السلطات قد أعلنت أن هذه تعرضت لحادث خطير خلال قيامها بمهمة عسكرية وطنية، قال البحار الشاب أن المسألة لم تكن كذلك: لقد غرقت السفينة لأن قيادتها كومت عليها أطناناً من البضائع المهربة تفوق طاقتها. بكلمات أخرى: كانت السلطات القيادية العسكرية تستخدم السفينة للتهريب، جاعلة من جنود الوطن مجرد مجموعة من المهربين لا أكثر. ولنقرأ هنا ما كتبه ماركيز بنفسه يومذاك حول هذا الاكتشاف، في تقديمه للطبعة الأولى من الكتاب: «إن ما لم نكن نعرفه أنا والبحار عندما حاولنا إعادة بناء مغامرته بالتفصيل، هو أن بحثنا المضني سيقودنا الى مغامرة جديدة، سببت هزة لدى الأمة، وكلفت البحار كرامته... أما أنا فكادت تكلفني حياتي». لماذا؟ يجيب ماركيز: «في ذلك الوقت كانت كولومبيا ترزح تحت ذلك الحكم الديكتاتوري العسكري والاجتماعي الذي كان إحدى ابرز «مآثره» اغتيال التلاميذ في وسط العاصمة عندما قام الجيش بتفريق تظاهرة سلمية بالرصاص، فضلاً عن قيامه بنقل عدد غير محدود من جماهير مصارعة الثيران بواسطة رجال البوليس السري، بتهمة «مضايقة ابنة الديكتاتور خلال حفلة المصارعة». يومها، يكتب ماركيز «تم فرض الرقابة على الصحافة فوجدت صحافة المعارضة نفسها أمام مشكلة يومية تتعلق بكيفية العثور على قصص وأخبار خالية من السياسة للترفيه عن قرائها». وعندما جاء البحار فيلاسكو معلناً عن نفسه ليسأل عما يمكن ان ندفع له ثمناً لقصته «الحقيقية» كما قال، رأت إدارة المجلة الفرصة مواتية».
> ففي البداية يوم كان البحار محاطاً بالنجوم والسلطة والحراسة القوية، عجز محررو «الاسباكتادور» عن الوصول اليه لنقل حكايته، أما الآن فها هو يأتي بنفسه، طالباً بعض المال لا أكثر. ولقد علق ماركيز على هذا قائلاً أن رد فعلهم الأول كان انه لئن أتى البحار اليهم الآن دون دعوة «فلأنه على ما يبدو لم يعد لديه أي شيء آخر يقوله لنا، ولأنه قد أصبح قادراً على اختراع أية أخبار سعياً وراء المال، ولأن الحكومة قامت بوضوح بتحديد قيود على ما يتوجب عليه قوله». وهكذا استبعدت الفكرة أول الأمر، ولكن بعد ذلك، وبعد ان استمع اليه ماركيز تبدل كل شيء. ولا سيما حين أكد في اليوم الرابع، إذ طلب منه ماركيز وصف العاصفة التي أودت بالسفينة، انه لم تكن هناك عاصفة. بل أمواج تمكنت من السفينة بسبب حمولتها الزائدة، ما عنى بالنسبة الى ماركيز أن ثمة ثلاث حقائق جديدة تتعلق بأخطاء قد حصلت: أولاً لم يكن قانونياً نقل حمولة تجارية على متن مدمرة عسكرية؛ ثانياً، إن الوزن الفائض منع السفينة من القدرة على المناورة لإنقاذ البحارة؛ وثالثاً، كانت الحمولة مهربة ومكونة من أجهزة كهربائية (برادات وتلفزيونات وغسالات). وهكذا باتت الفضيحة واضحة، وهي استغرقت في الصحيفة أربع عشرة حلقة... روت الحكاية، ولكن مع تصعيد تدريجي أتى بفعل الصدفة، وليس، كما يؤكد ماركيز، بفعل مهارة صحافية.
> ومن هنا يبدو لافتاً أن تكون السلطات قد أبدت رضاها أول الأمر، عن نشر صحيفة معارضة، حكاية بطلها القومي بعدما كفت بقية الصحف عن الاهتمام به، وبعدما لم يعد من مصلحة صحافة السلطات تركيز الاهتمام عليه، بحيث يبدو الأمر من قبيل البروباغندا، ولكن بعد عدة حلقات وإذ راح القراء يتلهفون لقراءة التفاصيل التي راح قلم ماركيز الرشيق يدونها، دون ان يفوته، في ذلك الحين ثم لاحقاً، أن يؤكد أن «مفاجأتي الأولى كانت أن الرجل القوي البنية، البالغ من العمر عشرين سنة، كان يملك غريزة غير عادية لفن الرواية القصصية، فبدا – بالنسبة اليّ – كأنه عازف موسيقى أكثر منه بطلاً قومياً. وكان يملك ذاكرة مدهشة ومقدرة على التركيب ونوعاً من الكرامة الكامنة وغير المتطورة التي تمكنه من أن يكون قادراً على الضحك في ما يتعلق ببطولته». كل هذا كان في البداية، ولكن بعد حلقات قليلة أولى، تحول الأمر من حكاية صحفية، الى تلك الفضيحة السياسية التي كان لا بد أن تندلع وتقيم كولومبيا ولا تقعدها. لقد هزت الفضيحة أركان النظام ومهدت لتحوله الى مزيد من العنف، قبل ان يسقط وقد فقد حتى تعاطف الطبقات العليا التي كانت تنظر اليه على انه حاميها من تحركات الشارع.
> مهما يكن، لا بد أن نشير هنا الى أن ماركيز، بعد أن نشر الحكاية على شكل حلقات وفعلت فعلها السياسي والاجتماعي، ناهيك بكونها دعمت مقروئية «الاسباكتادور» ودفعتها الى الصفوف الأولى، نسي أمرها تماماً و «لم أعد لقراءتها طوال خمسة عشر عاماً، كما كتب في تقديمها حين جمعت في كتاب في العام 1970، على رغم أنها تبدو صالحة للنشر. بل وجدت أن لا نفع يرجى من نشرها». لكنها عادت ونشرت، لتكفّ أهميتها السياسية عن احتلال أعلى سلم الأولويات في الاهتمام بها، مستحوذة هذه المرة على قيمتها الأدبية في سياق نتاج غابريال غارسيا ماركيز الأدبي ككل. مع انه هو ظل يؤكد على الدوام أنها لم تكن من نتاجه وحده، بل كذلك من نتاج لغة ذلك البحار الشاب الذي صار منذ ذلك الحين نسياً منسياً.