القاهرة 22 يونيو 2016 الساعة 12:37 م
تختلف مصر والسعودية اقتصاديا فى أمور كثيرة، فمساحة الأخيرة ضعف مساحة الأولى (مليون كيلومتر مربع لمصر مقابل
مليونى كيلومتر مربع تقريبا للسعودية)، بينما عدد سكان الأولى يمثل تقريبا ثلاثة أمثال الثانية (91 مليونا لمصر مقابل 30 مليونا للسعودية). وفى الوقت الذى يوصف فيه الاقتصاد السعودى بأنه اقتصاد نفطي، فإن الاقتصاد المصرى ظل لأزمان طويلة يوصف بأنه اقتصاد نهري. وبينما يقدر الناتج المحلى الإجمالى المصرى مقوما بالقدرة الشرائية للدولار بنحو تريليون دولار فإنه بالنسبة للسعودية تريليون وستمائة مليار دولار تقريبا. أما إذا كان التقويم إسميا فإن الناتج المحلى المصرى يكون 331 مليارا، أما السعودية فضعف هذا الرقم بتقدير 653 مليار دولار. الفارق فى هذه الأرقام وتأثيرها على مستويات المعيشة فى البلدين يعود فى أغلبه إلى النفط وعدد السكان، فيكون نصيب الإنسان المصرى اسميا 3700 دولار، ومقوما بالقوة الشرائية للدولار 11849 دولارا، أما بالنسبة للسعودية فإن نصيب الفرد يصير اسميا ضعف المصرى 653 دولارا، ومقوما بالقوة الشرائية للدولار 53624.
بالمقارنات العالمية مع الدول المماثلة فإنه لا السعودية تمثل معجزة اقتصادية رغم ثروتها الكبيرة لا بالمعايير الخليجية مع باقى دول مجلس التعاون الخليجى ولا بتلك الدولية حيث نجد تركيا ومساحتها 783 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 80 مليونا تقريبا، لديها دخل محلى إجمالى يفوق اسميا السعودية (751 مليار دولار) ويماثلها تقريبا مقوما بالقدرة الشرائية للدولار. كما أن مصر لا تمثل كارثة اقتصادية كما يبدو من الأخبار والشائعات الذائعة عنها، فلديها اقتصاد كبير نسبيا، ومتنوع بين الزراعة والصناعة والخدمات، ورغم كل ما يذاع عنها فإن توزيع الدخل فيها أخذا بمقياس «جينى» يعد أفضل من تركيا وجنوب إفريقيا وفيتنام والبرازيل والصين والهند وحتى الولايات المتحدة الأمريكية (ملاحظة: مقياس جينى لا يقيس الغنى والثروة وإنما يقيس مدى تركيز الثروة بين القمة والسفح).
ما اتفق عليه البلدان هذا العام هو أنه لم يعد ممكنا أن تستمر أوضاعهما الاقتصادية على ما هى عليه؛ وكل منهما على طريقته، قرر أنه لا بد من تغيير المسار الاقتصادى للدولة بخروج السعودية من هيمنة وسيطرة الاقتصاد النفطي؛ وخروج مصر من النهر إلى البحر سواء كان الأحمر أو الأبيض أو سواحل سيناء. «رؤية 2030» كانت الإستراتيجية العليا التى فيها رسمت الدولتان خريطة للطريق مداها الزمنى خمسة عشر عاما، والجغرافى المساحة الكلية للدولة بما فيها الجزر البحرية والنهرية فى الحالة المصرية. الغاية هى أنه فى نهاية هذه المدة المقررة أن تتغير جوهريا مكانة الدولتين فى النظام العالمى فيصعدان إلى أعلى فى المؤشرات الدولية؛ والأهم أن ترتفع فيهما مستويات معيشة السكان، ونوعية الحياة فيهما.
ورغم التوافق الكبير حول المنهج العام، و«الرؤية»، إلا أن كلا البلدين اختلفا فى طريقة التعامل معها. فى مصر فإن رؤيتها اختفت من الخطاب العام سواء كان الرسمى أو الشعبي؛ فكم كان مدهشا أن حوار الرئيس السيسى مع الأستاذ أسامة كمال بمناسبة مرور عامين على انتخابه رئيسا لمصر لم ترد فيه «الرؤية» مرة واحدة، ولا شاهد أحد رئيس الوزراء يؤكد أن ما يجرى افتتاحه من مشروعات له صلة بالوثيقة التى وصفت من قبل بأنها «تاريخية»، ولا عثر أحد فى وثائق مجلس النواب على تذكرة بالموضوع، ولا جاءت إشارة عنها على لسان قادة الأحزاب، ولا كان هناك اهتمام من جمعية أهلية، أما الإعلام فالأرجح أنه وضع الموضوع كله إلى جوار وثائق تاريخية أخرى جاءت وذهبت لا يتذكرها أحد والأرجح أنه يود لو ينساها!.
فى السعودية أصبحت «الرؤية» على كل لسان، وفى جميع الأوقات، ومن الحماس الذى صاحبها أصبحت «رؤية 2030» «مشروعا للتحول الوطنى»، يعيد ليس فقط صياغة مكانة الثروة النفطية فى الاقتصاد الوطني، وإنما أيضا لإعادة تركيب العلاقة بين المواطن والدولة، وحجم الحكومة، وخدمة المواطنين، وخلق الثروة، وتحرير الاقتصاد؛ وباختصار أن تكون السعودية عند نهاية المدة، غير تلك التى نعرفها اليوم. المسألة هنا ليست مجرد حالة من الشعارات وإنما برنامج زمنى محدد، فلم يعد ما هو مطروح أمرا ما سوف يحدث بعد عقد ونصف، وإنما هو عمل يتقدم كل يوم ويمكن القياس عليه فى علاقته بالهدف النهائى ومن هنا كانت «رؤية 2020» وأهم ما فيها إعادة هيكلة جهاز الدولة كله بحيث يكون مناسبا للقيام بالمهام الجديدة التى تتضمن خلق موارد جديدة قدرها 141 مليار دولار خارج القطاع النفطى و450 ألف وظيفة خارج الجهاز الحكومى الذى سوف تبدأ عملية خفض الأجور فيه من 45% من الموازنة العامة إلى 40%. ولكن المسألة ليست أجورا فقط، وإنما هى مسار القرارات، والقدرة على تحويلها إلى واقع اقتصادى وتنموى فى العموم، فتندمج المؤسسات والوزارات وتنقسم حسب المهام الجديدة المطروحة عليها والتى سوف تتعرض باستمرار لعمليات قياس الآداء تبعا لما هو موضوع للرؤية طويلة الأجل (2030) والقصيرة الأجل (2020). التحول الكبير هو الانتقال من اعتماد كامل على الحكومة إلى الاعتماد على القطاع الخاص فى جميع المجالات. المدهش أنه فى السعودية المعروفة بالسياسات المحافظة، والآجال الطويلة فى اتخاذ القرار، و«البارانويا» فى التعامل مع الأجانب، فإن السرعة فى اتخاذ القرار ملحوظة، وتنفيذها مذهل، والاستعانة بالأجانب لا يوجد فيه حرج.
فى مصر أطلقت «الرؤية» وانتهت علاقتها بالواقع. فرغم الإنجازات الكثيرة، والمشروعات التى جرى افتتاحها خلال الأسابيع الماضية، فإن أحدا لم يقرر عما إذا كان لها علاقة بالهدف الأسمى فى 2030 أو حتى الهدف الأدنى 2018 حسب برنامج الحكومة. الجهاز الحكومى بقى على حاله يطبق الاشتراكية التى تعنى مشاركته الشعب فى اقتسام الثورة بغض النظر عما جاء فى الرؤية من أحلام لا بأس بها طالما أنها بقيت بعيدة عن اليقظة؛ وفيه ذاع الفساد ليس بالأموال التى يحصل عليها، وإنما بالفرص التى يضيعها مع كل ساعة تنتهى دون أن تستخدم فى تنمية مصر. استخدام القوات المسلحة فى التنمية بكثافة ربما كانت جوهر النموذج المصرى للتنمية للخروج من عباءة البيروقراطية؛ ولكن هل يجوز ذلك إذا ما كان المطلوب تنمويا ثلاثة أمثال ما يجرى حاليا رغم حجمه الكبير؟!