القاهرة 21 يونيو 2016 الساعة 11:47 ص
نشرت صحيفة الأهرام ، في العدد الأسبوعي ــ الجمعة 17 / 6 ــ محضر اجتماع الجلسة الأخيرة للجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني ، بمجلس الأمة في العام 1961 ويعد بالفعل شاهدا للتاريخ وعلى التاريخ ، كيف يكون الحوار ديمقراطيا ، موضوعيا، مقنعا بالمنطق والعقل، وبسيطا في الرؤية والتحليل، وهادئا "مبتسما" وأحيانا ضاحكا، رغم إمتداده نحو ثلاث ساعات، بين الزعيم والشيخ الذي ظل يجادله ويحاوره دون توقف ، وذاك في حد ذاته كان عملا خارقا ومذهلا، أرهق الزعيم واتعبه، ولكن دون ملل، أو فرمان بإنهاء الحوار ..
أما الزعيم .. فهو بالطبع "جمال عبد الناصر" .. ولا أتصور أن أحدا في الأمة ، في تاريخها الحديث والمعاصر، استحق أن يكون زعيما غيره، ولا يزال مقعده شاغرا، فالزعامة مؤسسة قيادة .. وأما الشيخ، فهو المفكر الإسلامي خالد محمد خالد، أحد أبرز رجالات الأزهر الشريف، منذ تخرجه في كلية الشريعة ، وارتباطه فيما بعد بجماعة الإخوان المسلمين، دون أن يرتبط معهم بعضوية، رغم إطراءه وتقديره لمؤسس الجماعة حسن البنا، وكان كدأبه جريء في الحق لا يخاف ذا سلطان ، يعبر عن رأيه ..لا يهاب.. لا يجامل ، يعبر عما يعتقده ، قد يكون صوابا ، وقد يكون خطأ ، المهم أنه مقتنع بفكرته مجتهد فيها غير متهم ،ولا يحابى من أجل مناصب ترفع عنها .
الحوار الطويل ينطوي على وعي واسع لدى الزعيم عبدالناصر بمجريات الأمور، بمستوياتها المختلفة، وأنماط التفكير السائدة في المجتمع آنذاك، وحجم الاستهداف الداخلي والخارجي، وهو يجيب على النقد الصريح والحاد من "الشيخ" المفكر الإسلامي خالد محمد خالد، والذي انتقد مواقف الثورة من قضايا الحرية والديمقراطية، وعارض ما أراد عبد الناصر القيام به من إجراءات ضد بقايا الإقطاع، وأعداء الشعب، ورافضا العزل السياسي ، مطالبا بـ "العدل السياسي" ، وتحديد ولاية رئيس الجمهورية ، وصولا للقول بأننا لا نمارس اليوم ثورة، لا ثورة اجتماعية ولا ثورة اشتراكية. وإذا كنا نرى أننا أمام ثورة جديدة فليشكل لها مجلس قيادة ثورة يقودها، وإذا كنا نرى أننا نواجه ثورة جديدة ففيما إذن كانت السنوات العشرة التى مضت !!
الشيخ يسأل وينتقد .. والزعيم يرد موضحا، ويشرح الملابسات ، ويتمم فصول الحقائق الغائبة..
ويجيب عبد الناصر : " الأخ خالد بيقول ان احنا لا نمارس اليوم ثورة، ونحن نعيش فى تطور، وبعدين فى الآخر فى حماسه قال: هذا الشعب المؤمن بثورته، دليل حتى فى قرارة نفسه هو معتقد إن فيه ثورة لأن الشعب مؤمن بثورته ازاى ومافيش ثورة؟ فيه ثورة مستمرة وأنا من أول يوم فى الثورة قلت إن هذه الثورة استمرار لثورات أخرى قام بها الشعب. كنت باستمرار أقول الأباء والأجداد كافحوا وقتلوا من قبل ما يجنوا ثمار هذه الثورة "
ويضيف "ناصر" : الأستاذ خالد بيقول: إذا كانت ثورة ما نعمل مجلس قيادة الثورة، ما كنا عاملين مجلس قيادة الثورة، النهاردة احنا عايزين نعمل من الشعب مجلس قيادة ثورة، الشعب الأصيل.. دا اللى أنا باقصده بالديمقراطية السليمة. فيه خلاف بينا فى فهم الديمقراطية والديمقراطية السليمة..الأستاذ خالد بيقول: ان احنا بنتجنى على اللى فات، احنا مابنتجناش على اللى فات، احنا جينا فى المبدأ السادس للثورة، وقلنا إقامة حياة ديمقراطية سليمة، معنى هذا إن ماكانش فيه حياة ديمقراطية سليمة؟ جينا فى المبدأ الخامس قلنا إقامة جيش وطنى قوى، معنى هذا إن ماكانش فيه جيش وطنى قوى؟ معنى هذا إن الجيش كان بيستخدم ضد الشعب مش من أجل الشعب، ونريد أن نحوله ليستخدم من أجل الشعب لا ضد
الشعب.
ويعترض خالد محمد خالد على التوجه لإدانة الآخرين خاصة من رجال قبل الثورة ، وحتى فيما بعدها، ووصفهم بالرجعية وأعداء الثورة .. ويتدخل "ناصر" مصححا : أنا فى كلامى ماباقولش هذا الكلامعلشان أدين، ما لو كنت عايز أدين كنت عملت محاكم، و زى ما اتعملت محاكم فى الثورة الفرنسية، واتعملت محاكم فى الثورات الشيوعية وفى الثورات الأخرى، العملية مش إدانة. أنا باقول ان احنا هنا بنبحث عن الحقيقة وإذا كنا عاوزين نبحث عن الحقيقة بناخد هذه الحقيقة منين؟ من تجربتنا فى العشر سنين دى ومن السنين اللى حصلت قبل هذه الثورة تجربتنا كانت تدل على إيه؟ هل استطعنا أن نقيم عدالة اجتماعية؟ هل استطعنا أن نقيم ما يمكنا من القضاء على الظلم الاجتماعى؟ هل استطعنا أن نقضى على الاستغلال السياسى والاستغلال الاقتصادى والاستغلال الاجتماعى؟ أبداً ما استطعناش. وانت فى كتبك اللى عاملها قبل الثورة كنت بتقول: ان احنا بنكافح من أجل القضاء على الاستغلال السياسى وعلى الاستغلال الاجتماعى؟ فى كل هذه الكتب وفى كل صفحة منها كنت بتتكلم وبتطالب بالقضاء على الاستغلال السياسى والاستغلال الاقتصادى والاستغلال الاجتماعى.
ويطول الحوار .. في الوقت ، وفي النقد .. وهنا يتدخل رئيس مجلس الأمة "أنور السادات" لينهي جدال خالد محمد خالد .. وقد شعر أن الحوار الطويل أرهق عبد الناصر .. ولكن الزعيم يضحك ويطلب من السادات منح الفرصة كاملة لـ "الأخ خالد " .. ويضبف قائلا :
"هل الديمقراطية اللى انت بتتكلم عليها بمعناها القديم مكنتنا احنا الشعب من ان احنا نقضى على الاستغلال السياسى أو الاستغلال الاقتصادى أو الاجتماعى؟ أبداً، بدليل إن حينما قامت الثورة كان هناك إقطاع بأبشع صوره، ما قدرتش هذه المؤسسات بجلالة قدرها إنها تقضى على هذا الإقطاع. كان هناك سيطرة من العائلة المالكة، وكان هناك تحكم وكان هناك سيطرة لرأس المال، وكان فيه واحد زى ما قلت لكم بيسقط الوزارة بخمسين ألف جنيه. هل استطعنا بهذه الديمقراطية اللى بتتكلم عليها ان احنا نقضى على هذا؟ لم نستطع أبداً أن نقضى على هذا إلا بالثورة، بهذه الثورة وهذه الثورة مستمرة حتى نقيم الديمقراطية الحقيقية وحتى نقيم العدالة الحقيقية.
والشيخ يواصل انتقاده ، ويبحث عن إجابة لتساؤلات قلقة وحائرة ، تقترب من الإتهام الصريح للثورة وزعيمها.. والحوار يمتد ويطول ، و"ناصر" يواصل توضيحه ، وكشفه للحقائق :
"هل احنا قلنا حنعزل الشعب، ونقيم حزب واحد زى الشيوعيين اللى البلد بتبقى
200 مليون والحزب بيبقى مليون، هل احنا قلنا حنقيم حزب واحد ونحتكر السياسة لفئة قليلة؟ ماقلناش كده، الخلاف الوحيد على الأحزاب، طب كان فيه أحزاب قبل الثورة حصل إيه؟ هل تأثر الإقطاع؟ هل تأثرت سيطرة رأس
المال؟ هل طلع الاستعمار وطلعوا الإنجليز؟ هل قيمة السفير البريطانى نزلت قيراط أو قيراطين أو اتغيرت من سنة 23 لسنة 52؟ مانفتكرش فى فبراير سنة 52 أما كان على ماهر له ميعاد مع السفير البريطانى والسفير البريطانى رفض إنه يقابله وقال إن عنده برد، اضطر على ماهر انه يروح تانى يوم يقدم استقالة، وجت بعد كده وزارة الهلالى وكان فيه اتفاق، كان فين؟ الإنجليز كانوا موجودين، الإنجليزكانوا بيحكموا، السرايا كانت موجودة، طب الأحزاب عملت إيه؟ ماطلعوش الإنجليز ليه؟
والمفكر الإسلامي، يعيد طرح رؤيته التي تحمل قدرا كبيرا من النقد .. والزعيم ، يلتزم بأصول الحوار الديمقراطي ، ويرد : " بتقول إن الديمقراطية يجب أن يكون الشعب قادر على أن يختار حكامه باقتراع حر وأنا موافقك على هذا، والشعب قادر على أن يعزل حكامه باقتراع حر، موافقك على هذا، موافقك على إن باستمرار بيبقى فيه للشعب حرية اختيار رئيس الجمهورية، يختاره لمدة معينة، تعرف لو ان كل ثلاث أو أربع أشهر ممكن نعمل ثقة وبتاع بنرجع تانى للعملية الأصيلة. ليه ما عملناش رئيس جمهورية ورئيس وزارة فى سنة 56؟ كان ممكن نعمل هذه التجربة ونقول إن حكومة برلمانية بس وجدنا ان احنا حندخل فى عمليات انقسامات، وان احنا فى ظرف حساس حيحاولوا يوقعوا رئيس الجمهورية مع رئيس الوزارة، واللى حيجروا على رئيس الوزارة ومش حيعرفوا إنهم يوصلوا له يجروا على رئيس الجمهورية.. وشفنا هذا الكلام فى أيام أزمة محمد نجيب فى سنة 53، ازاى استغلوا نجيب وجمال عبد الناصر، وماقدروش على جمال عبد الناصر، جريوا على نجيب علشان يقيموا فى البلد انقسام، واستطاعوا أنهم يقيموا فى البلد أزمة. ولهذا تلافينا هذا وقلنا نعمل النظام رياسى.. جمال عبد الناصر ما قالش أبداً إنى أنا عايز أبقى رئيس جمهورية مؤبد".
ويواصل المفكر الإسلامي حواره، القريب من النقد الساخن، وهو الأقرب للإٌتهامات، فيما يتصل بمحاكمة جماعة الإخوان المسلمين ؟؟
ويقول "ناصر" : حاكمنا الإخوان المسلمين - أنا.. بتكلم بقى على المفتوح - ليه؟ هل حاكمناهم افتراء وإللا لأن كان فيه جيش مسلح موجود علشان يستخدم للانقضاض على هذا الشعب؟ مش دا اللى حصل فى سنة 54؟ هل احنا اللى بدينا بالعدوان؟ وبعدين هل سيبناهم؟ طلعوا، أكترهم أفرج عنه قبل مايخلص العقوبة، أكثرهم اللى كان فى وظايف وفصل اتعمل لهم قانون مخصوص علشان يرجعوا لوظايفهم، هو دا العدل اللى احنا كنا بنتبعه وبنمشى فيه. ماقلناش أبداً إن فرصة أهم بيقعدوا فى السجن عندهم 10 سنين و15 سنة نخلص منهم، مش عايز أنا أخلص من أى واحد فى هذه البلد، عايز ألم كل واحد من أبناء هذه البلد، اللى بعد سنتين وتلاتة وأربعة عدد كبير خرج، اللى ربنا هداهم وأرجو الله إن
ربنا يهديهم كلهم..الشعب رحيم، واحنا من الشعب، دا احنا مش جايين من كاليفورنيا، احنا من بنى مر، من هنا من هذه البلد ..
ويواصل الزعيم توضيحه للشيخ : "احنا ما بنقولش النهارده عايزين نشتغل لمصلحة خاصة، بنقول احنا عايزين نقيم حياة ديمقراطية سليمة. ما بنقولش عايزين نحرم الشعب من مسئوليته، ما بنقولش عايزين نحرم الشعب من أنه يختار رئيس جمهوريته مابنقولش دا أبداً، ما بنقولش ان احنا عايزين نحرم الشعب من الدستور، ما بنقولش ان احنا عايزين نحرم الشعب من البرلمان، أبداً بأى حال من الأحوال، ما بنقولش ان احنا عايزين نحرم الشعب من المعارضة أبداً، لأن فى أى برلمان لابد حيكون فيه اليمين واليسار والوسط، مهما اتقال هنا، فيه يمين، وفيه يسار، وفيه وسط، واليمين واليسار والوسط دا ماهواش أبداً تعبير من الرجعية أو الشيوعية ولكنها عملية نسبية. زى ما قلت لكم يمكن كان ممكن يكون سهل قوى لو كنا عملنا مجلس ثورة. أهو بنطلع أوامر وتتنفذ، بس مش هو دا المطلوب. المطلوب فى هذا الوقت هو تطبيق المبدأ السادس؛ إقامة حياة ديمقراطية سليمة. وأنا معاك"
وينتقل الحوار متصر إلى حرية الرأي والتعبير .. ويقول ناصر : " الكلام اللى قاله الأخ خالد محمد خالد، طبعاً حرية الكلمة موجودة ما احنا ماقيدناش حرية الكلمة بالعكس، يعنى من أول يوم بنقول حرية الكلمة، وبالنسبة لك انت بالذات كانت موجودة، وكنت بتكتب فى الأهرام، وانت اللى سبتهم مش هم اللى طلعوك.. إلى آخر هذا الكلام. ماحدش منعك من إنك تكتب كلمة بأى حال يعنى، فأنا بقول إن حرية الكلمة موجودة، وطوال السنوات العشر اللى فاتت كانت موجودة، وبدى أسمع من الأستاذ خالد محمد خالد إذا كان قال كلام أو كتب كلام وما اتنشرش، كل الكلام اللى كتبه اتنشر وكل الكتب اللى طلعها اتنشرت، فحرية الكلمة موجودة ويعنى على أوسع مدى وعلى أوسع باب. أعداؤنا بيحاولوا إنهم يبينوا ان احنا نظام بيخوف والله ما خوفنا حد لغاية دلوقت خالص. يعنى من الرجعية اتشتمنا شتيمة لا أول لها ولا آخر، وسمعت انت طبعاً يمكن بنفسك الشتيمة وما تردد".
الحوار الثري الديمقراطي .. يمتد أكثر من ثلاث ساعات متواصلة .. بين الزعيم والشيخ .. ولا يمكن اختصاره على هذه السطور .. ويقول عبد الناصر "ضاحكا" : عايز تقول حاجة؟ واللا نروح؟
ويجيب المفكر الإسلامي، خالد محمد خالد: فى الحقيقة.. أنا لا أنكر أبداً أننى نعمت بحرية الكلمة فى عهد الثورة إلى أبعد آفاق هذه الحرية. فلقد أخرجت قبل الثورة كتابين، وأخرجت فى ظل الثورة خمسة عشر كتاباً. أنا يا سيادة الرئيس أعرفك تماماً وإذا كنت أرجو لك مزيداً من الكمال كحاكم، أتمنى أن يظل الرجل الذى يحمل هذا الاسم جمال عبد الناصر، أتمنى أن يحكمنى عشرين سنة وأكثر.
واتصالا بما سبق ، أذكر الحوار الذي دار بيني وبين الدكتور عزيز صدقي، وزير الصناعة ومؤسس أول قاعدة صناعية في العالم العربي ، ورئيس وزراء مصر الأسبق، رحمه الله، وهو يقول : لقد وصل جمال عبد الناصر إلى ما وصل إليه من مكانة عربية وعالمية ، ورغم ذلك لم يتطرق الغرور إلى نفسه لحظة واحدة ، ولم أشعر طوال فترة عملي معه التي امتدت منذ البدايات الأولى لثورة يوليو تقريبا وحتى وفاته عام 1970 ، إنه ذلك الحاكم المتغطرس أو المتعطش للسلطة أو الرافض للنصيحة المخلصة .. أقول ذلك ردا على كل الدعاوي والإفتراءات الظالمة التي رددها البعض بعد وفاته من أنه كان ديكتاتورا أو متسلطا . لقد كان عبد الناصر واضح الرؤية وهذا أول ما يميزه كقائد وطني يعرف بالضبط ماذا يريد ، ويعرف كيف يصل إليه من أقصر الطرق وأقربها .