القاهرة 05 يونيو 2016 الساعة 01:35 م
• هل تخيل الكاتب في تحصن سبع نساء في «بنسيون» وتعرضهن لتحرش المجتمع معادلاً بصرياً لقصة النساء اللائي احترقن في الحمام الشعبي !
خرجت علينا غادة عبد الرازق،وهي تقود حملة الدعاية لفيلم «اللي اختشوا ماتوا»،وهي تروي قصة الحريق الذي شب في حمام شعبي قديم كان مخصصاً للنساء،ما اضطر غالبيتهن إلى الهرب عاريات بينما رفض بعضهن خشية وحياء،وفضّلن الموت على الخروج،فانزعج صاحب الحمام،بعد ما هاله ما رأى،وسأل الجمع : «هل مات أحد ؟» فقالوا له :«اللي استحوا ماتوا» !
ولا أظنني الوحيد الذي ربط بين ما قالته «غادة»،والقصة،وتصورت لسذاجتي،أن الفيلم،الذي كتبه محمد عبد الخالق وأخرجه إسماعيل فاروق سيقدم رؤية واعدة للنسوة «اللي اختشوا فماتوا» قبل أن أكتشف أنه حاول التمسح في المثل الشعبي الشهير،وليس ثمة علاقة،على الإطلاق،بين أحداثه،والقصة الشهيرة إلا إذا تخيلنا أن الكاتب رأى في تحصن سبع نساء في «بنسيون»،وتعرضهن لتحرش دائم من المجتمع،معادلاً بصرياً لقصة النساء اللائي احترقن في الحمام الشعبي،لكنه،في هذه الحالة التخيلية يصبح معادلاً رديئاً وركيكاً،بل تحرشاً فجاً بالموروث؛خصوصاً أن شيئاً من الأحداث أو قصص البطلات السبعة لم يمثل عنصراً جاذباً بأي حال،،وإنما جاءت القصصهن تقليدية ومستهلكة،ومجرد اجترار لمشاهد ومواقف رأيناها ألاف المرات في أفلام سابقة؛حيث الممرضة «ليل» (غادة عبد الرازق)،التي تبرعت بحياتها وأموالها للطبيب الشاب «خالد» (أحمد صفوت) لكنه غدر بها،والصعيدية «أمينة» (أميرة الشريف) التي خالفت عادات أهلها، وتزوجت من أحبت فحق عليها القتل،والكومبارس «عبير» (هيدي كرم) التي تعشق التمثيل لكنها ترفض أن تفرط في جسدها،والشامية «ولاء» (مروى) التي فاتها قطار الزواج وتحاول اللحاق به بينما توشك «أسماء» (مروة عبد المنعم) على اللحاق به،وتعمل «كريمة» (عبير صبري) في مركز صحي هو في الحقيقة وكر للدعارة فيما تنعي الراقصة السابقة «صفية» (سلوى خطاب) ماضيها التليد،وزوجها الفقيد،وترى في «البنسيون»، الذي تديره،وتخصصه للسيدات فقط،فرصة للمشاركة،ونسيان الهموم !
من فاتته فرصة مشاهدة فيلم «اللي اختشوا ماتوا»،ومن لا يود رؤيته لسبب ما في نفسه،يكفيه الاستماع لأغنية «إحنا الحياة»، التي غنتها المطربة جنات،كنوع من الدعاية للفيلم،ليتعرف،من دون أن يغادر مكانه،على فكرته وقصته وأحداثه؛فالأغنية التي كتب كلماتها محمد البوغة ولحنها محمد يحيى ووزعها أحمد إبراهيم تقول : «إحنا اللي أقوى واحدة فينا مشكلتها في ضعفها .. وإحنا اللي أضعف واحدة فينا فيها قوة ما تتحكيش.. عيبنا وميزتنا إن فينا الحاجة وكمان عكسها .. ساعات بيعمينا الطمع وساعات برضي يا دوب نعيش .. إحنا الحياة لكن بتتعبنا الحياة وكتير بتكسر نفسنا ..عايشين نداري في ضعفنا .. لا طلنا قوة ولا طلنا ضعف .. عايشين بنرقص على السلالم كلنا»،وهي كلمات تلخص أزمات البطلات،باستثناء «التوابل» المتمثلة في «الضابط» (إيهاب فهمي)،الذي يتحرش بنزيلات «البنسيون»،وكأن بينه وبينهن ثأراً دفيناً،وصاحب البوتيك «علاء» (محمد محمود عبد العزيز) الذي يدعي الأخلاق والفضيلة بينما هو مثال صارخ للوضاعة والدناءة والانحطاط،كسائر المجتمع !
حملة الدعاية للفيلم هيأت الكثيرين للظن أنهم بصدد وجبة فنية شهية غير أن النتيجة جاءت «كارثية» لأسباب كثيرة؛على رأسها السيناريو المشوش،الذي لم يتقن صاحبه توظيف «الفلاش باك»،ورسمه الرديء للشخصيات الدرامية،والتقليدية التي تنضح بها المعالجة،فضلاً عن التخبط الذي ظهر عليه المخرج،وكأن العقد انفرط من بين يديه؛فلا أداء يستحق التنويه،ولا تعاطف يُذكر،وعندما تبكي غادة عبد الرازق على طفلتها يُصبح هذا إيذاناً بالضحك،وعلى غرار أفلام «السبكية»،التي تربى المخرج إسماعيل فاروق في مدرستها،يفتعل المؤلف والمخرج مناسبة ساذجة لترقص النساء جميعاً،وتصبح فرصة للكاميرا (تصوير سامح سليم) لتستعرض مؤخرة هذه،وخصر وصدر تلك،وفي مناسبة أخرى أكثر فجاجة تطعن فيها إحدى البطلات التاجر الغليظ،وتتحول الشاشة إلى بركة من الدماء لدرجة أن القاتلة نفسها تتقيأ على جثة القتيل،وقيل إن الرقابة صنفته + 16 بسبب هذا المشهد !
«اللي اختشوا ماتوا» هو الفيلم الذي فالت عنه جنات : «عايشين بنرقص على السلالم كلنا» يستوي في هذا مؤلفه ومخرجه وأبطاله وعناصره الفنية؛فكل ما فيه مفتعل،ومصطنع،وملفق،ومزيف،ويرجع السبب – في رأيي – إلى أن أحداً لم يقطع شوط الجرأة إلى نهايته،وساد منطق«البين بين»،ومن ثم سقط الجميع في المنطقة الرمادية والتناقضات التي لا حد لها؛فالفيلم يرصد صورة المخرج المنفذ (أحمد طه)،الذي يتلاعب بعاشقات الفن،وفي مشهد لاحق يستحضر صورة أخرى للمخرج الملتزم (محمد أبو داود)،الذي يقدم الأنموذج المضاد للمبدع المحترم،وفي حين تؤرقنا الفتاة الصعيدية التي تنتظر القتل في كل لحظة يفاجئنا الفيلم بمشهد كوميدي لشقيقها،وهو ينحني على جثتها قائلاً : «سامحيني يا بنت أبوي» .. ومن مشهد لآخر تتوالى الفواجع الدرامية
والفنية !
ما علاقة ما رأيناه في فيلم «اللي اختشوا ماتوا» والقصة الشهيرة التي تحكي عن حريق شب في حمام تركي قديم كان يستعمل الحطب والأخشاب والنشارة لتسخين أرضية الحمام،وتسخين المياه لتمرير البخار من خلال شقوق الحمامات التي كانت عبارة عن قباب ومناور معظمها من الخشب،واعتادت النساء الاستحمام فيه عاريات لا يسترهن إلا البخار الكثيف،ما اضطر الكاسيات منهن إلى النجاة من الحريق بينما دفع الحياء النسوة العاريات إلى الموت،لا شيء،فالفيلم تاجر بالقصة،وبنا،وأغرقنا في متاهة لا تنتهي من الخزعبلات،والمكايدة،والإيحاء بأن المجتمع الذكوري يظلم النساء،ويتحرش بهن،وهو الذي انقلب على نفسه،ومسخ رؤيته،عندما أوحى أن بعضهن داعرات،ومتطلعات للثراء،وأن إحداهن (عبير صبري) هي التي قتلت،وذبحت،وغررت برفيقاتها،بحجة أن التي تبيع جسدها لا تتورع عن بيع صديقاتها ؟
«اللي اختشوا ماتوا» هم،في حقيقة الأمر،وكما رأينا في هذه المهزلة السينمائية،هم أولئك الذين صنعوا هذا الفيلم،وحاولوا خداعنا فانقلب السحر على الساحر،وصفعهم الجمهور عندما انصرف عن الفيلم،وحاولت بطلته غادة عبد الرازق الحفاظ على ماء وجهها فلجأت إلى إعلامي شهير ليجري معها حواراً ينقذ به ما يمكن إنقاذه !