القاهرة 26 مايو 2016 الساعة 11:38 ص
كانت أيام حزن وغضب. ونحن نتلفت لا ندري هل هو غضب من السماء. أم أن العيب فينا؟! ثم ان الدنيا كلها علي هذا الحال.
لم يكن مجرد حادث طائرة فعدد الضحايا لا يزيد كثيرا علي عدد ضحايانا آخر دفعة في ليبيا.
لا نعرف علي وجه التحديد كيف قتلوا؟ ولماذا مثلما يحيط الغموض كالعادة بكل حادث طائرة. حيث ندخل في متاهات "الصندوق الأسود" الذي لم ينفع مثلما حدث لطائرة ماليزيا التي انتهت إلي مجهول المخابرات أو العفاريت!! ومازلنا لا نعرف - بينما نعرف - سر سقوط طائرتنا منذ سنوات قرب شواطيء نيويورك.
سمعنا مرة أخري من قال ان الطيار محمد شقير توكل علي الله قبل الاقلاع. وهو ما سبق أن فعله الطيار "جميل البطوطي".. مع أننا في بداية كل أعمالنا نتوكل علي الله.. لا هو ضيق بالحياة ولا احتجاج.
وهذا أفضل من حكايات علي لسان خبير استراتيجي - وما أكثرهم هذه الأيام - عن اختراعات مجهولة تطلقها في السماء جهات غريبة من أي مكان في العالم ولا من شاف ولا من دري.. علي سبيل المؤامرة!
حتي وصلنا إلي حدوتة المضيفة التي ذهبت تصنع كوبا من الشاي في "نصبة" الطائرة فشب حريق عطل كل الأجهزة؟!
والحظ الذي يجعل راكبا تفوته الطائرة المنكوبة أو ذلك الذي يبذل جهدا ويبحث عن واسطة تجد له مكانا علي طائرة الموت.. تذكرنا ان عضوا بارزا بمجلس الشعب وان عضوا بالبعثة العسكرية المصرية إلي أمريكا تخلف عن ركوب الطائرة المنكوبة في نيويورك تذكرنا بأسطورة أيام "هارون الرشيد" عندما جاء عزرائيل يحذر أحد اتباعه الذي خاف فاشتكي للخليفة فقال له أنا ذاهب لرحلة صيد بعيدة سوف آخذك معي فقد تبعد عن عزرائيل. وقد كان. لولا انه فور وصوله وجد من ينتظره ليقول غريبة كنت أعرف اني سأقبض روحك هنا في البراري ولكنك لم تكن تبارح "بغداد".. ومات في الميعاد والمكان.
وصديقي الأردني "سليمان عرار" رحمه الله - وكان صحفيا ووزيرا ورئيسا لمجلس الشيوخ - وقد سقطت به الطائرة وهي تهبط في مطار بغداد ولم يصب بجرح ولو بسيط إلا حالة نفسية ادخلته المستشفي أياما.. ولكنه مات في عزبة صغيرة بالقرب من "دمنهور" وهو في زيارة للريف المصري مع صديقه المحامي الأديب صبري العسكري.. لم يستيقظ من نومه الهاديء إذ كان القدر ينتظره هناك!!
ولا يعرف أحد بأي أرض يموت
حوادث الطائرات ليست الأكثر عددا ولكنها الأشد تأثيرا فالإعلام عنها وتخيل الوفاة بين السماء والأرض ترعب النفوس.. بينما ضحايا القطارات والسيارات أكثر بكثير.. هذا ولا تتوقف الحركة والحياة.
تتشابه الحكايات ولا بأس إلا ان يحتفل أصحاب القلوب البليدة بموت الآخرين علي واحد ونص.. اختارت جريدة "المساء" مانشيتا علي صفحتها الأولي يقول: "الحياة الحمراء لا حياء ولا خجل.. مصر تبكي ضحايا الطائرة و"رزان مغربي" في وصلة رقص مع مطربين مجهولين".. الحق ليس علي "رزان"!
فهناك برامج كاملة بالساعات لنسوان علي "شلت" وأي كلام.. واستضافة لنصابة تحكي بالتفصيل خبابا العالم السفلي وما يفعله الجن بالإنسان. والمذيعة تستمع إليها باندهاش في انتظار المزيد من الخرافات التي تستخف بعقول البشر وصولا إلي الكلب الذي قتلته وأخذت حتة حساسة منه لبستها في مكان أمين بجسدها.. بعد كل هذا الدجل يأتي البرنامج "الثقافي!!" بطبيبة تكشف علي الفتاة لتقول: ماحصلش!
أي استهانة بالعقول ونحن في ظل تلك الهموم. وليس حادث الطائرة وحده؟
هذا غير اللغو والاستهبال والتي تقول في برنامج طويل عريض: أنا أحبك يا مبارك!!
الله معنا.. يرحمنا.
كنت في الطائرة المنكوبة
هذه فقرات من مقال كتبته "إنعام كاجوجي" في جريدة الشرق الأوسط:
* عدت في القاهرة مساء الأربعاء علي متن رحلة مصر للطيران رقم 803 ووصلنا باريس بالسلامة بحدود العاشرة ليلا واستيقظت مبكرا صباح الخميس علي خبر فقدان الطائرة نفسها وهي في رحلة عودتها إلي القاهرة رقم .804
طول النهار لم تفارقني وجوه طاقم المضيفين والمضيفات خصوصا تلك التي كانت ترحب بالمسافرين باللغة الانجليزية من مكبر الصوت وقد مازحتها فيما بعد.
* سمعت معلقين فرنسيين علي التليفزيون يشيدون بكفاءة الطيار المصري وسمعة الشركة.. وهناك من اشار إلي قصور في إجراءات السلامة المتبعة في المطارات المصرية.. يقولون هذا رغم ان الطائرة اقلعت من مطار شارل ديجول أهم مطارات فرنسا.
* وددت لو أدخل علي الخط لأقول انني لم أعرف إجراءات أكثر تشددا من تلك التي وجدتها في مطار القاهرة هذه المرة.
* دخلت الطائرة مرهقة لكنني اشعر بالأمان.
* لم اتصور ان طائرتنا هذه ذاتها ستغرق بعد ساعات قلائل.. رحم الله ضحايا الطائرة ووهب أهاليهم السلوي.
قطار الأمل
** اهتزت مشاعري وأنا أري صورة نموذج لقطار والشاب الفلسطيني محمد لطفي واقف ببابه ينادي علي اللاجئين في مخيم بيت لحم يناديهم: "حيفا. يافا. عكا. بيت نتيف" فيسرع كبار السن والشبان إلي القطار الذي يفترض انه سيعود بهم إلي قراهم.. انه حلم العودة لبيوتهم التي اضطروا للهجرة منها. ومازال بعضهم يحتفظ بمفتاح بيته القديم لأنهم سيعودون ويتركه لاحفاده لأنهم سيعودون.
لم يتحرك القطار الذي كان متجها إلي القدس في يوم ذكري النكبة لأن القوات الإسرائيلية تحاصر المكان.
مهما طالت الرحلة علي متن القطار فإنه سيقف ذات يوم عند محطة الوصول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كتب قصيدته "مقعد في قطار":
كل أهل القطار يعودون للأهل.. لكننا لا نعود إلي أي بيت
ويصبح القطار رمزا في كثير من الأشعار والروايات وعنوانا لأفلام سينمائية مثيرة.
ونحن دائما في المحطة.. يركبه المهاجرون السوريون إلي أوروبا هربا من جحيم حكامهم.
ويتخذه البعض مسرحا للحب أو التجسس.. وتخيفنا "أجاثا كريستي" الشهيرة بروايتها التي أصبحت فيلما سينمائيا "جريمة في قطار الشرق".
ولقد تأثرت بالفيلم المصري "ساعة ونص" الذي دار في قطار ووضع الرجل أمه "كريمة مختار" التي تقدم بها العمل فيه ودس في يدها ورقة بعنوانه كتب فيها: من يجدها يضعها في أقرب دار للمسنين أو المحسنين.
ويعيش الناس في الهند حياتهم داخل محطات القطارات. فلما فكروا في السياحة جعلوا من قطارات المهراجات الخاصة رحلة للخواجات يسافرون بها عبر البلاد أكل ونوم وفرجة علي المدن والآثار أطلقوا عليها اسم "قصر علي القضبان".
ولا أنسي محطة "سيدي جابر" قبل الإسكندرية بدقائق حيث ينزل معظم الركاب.. المغزي يغادرون الحياة.. ومن لم ينزل لن يلبث أن يصل القطار إلي محطة مصر بعد لحظات.. الكل نازل نازل!!
إغلاق النقابات لأسباب أخري
** ضحكت إذ قرأت ان الشرطة أغلقت نقابة الصحفيين في اليمن بأمر قضائي.. وذلك للمرة الثانية في أقل من ثلاثة أشهر. لصالح زوجة سابقة لأحد أعضاء النقابة طلق زوجته ولم يدفع النفقة.
هذا ولا تغلق النقابات بسبب نفقة الزوجات فقط. فالاعتداءات علي كل الألوان من الضرب واطلاق الرصاص والاعتقال وصولا إلي القتل.
يحالفنا الحظ ان نقابتنا لا تغلقها نفقة مطلقة. وإنما قد يغلقها أبناؤها وذوو النيات السيئة.
نماذج من الوفاء
** الدنيا بخير مهما شكونا وعانينا.
* المهندس "يحيي حسين عبدالهادي": يذكر باحترام زملاء لنا من الصحفيين الذين علي رءوسهم تاج ومن بينهم محمود عوض وجمال الغيطاني ومحمد عبدالقدوس والدكتور محمد السيد سعيد وأحمد السيدالنجار وعبدالله السناري وعبدالحليم قنديل وحمدي رزق ومحمد أمين وعلي القماش وعماد الصابر وأسامة داود وكارم يحيي وأسامة غريب وبلال فضل وعمرو سليم وشاب شريف لا يذكر اسمه.
انهم وغيرهم يستحقون تيجانا وليس مجرد ريش علي رءوسهم.
* ماما "نعم الباز" تكتب عن الفلاح العامل المنجد بائع "الجرانيته" علي شاطيء رأس البر وعماد الصابر والمغني السنيد في فرقة "أم زتون" بالمنصورة ومدرس الحساب في ابتدائي وطبيب امتياز قصر العيني وأمين شرطة في ميدان التحرير ومستشارا بسفارة مصرية ومتصوف ومحام مشاكس ومراكبي وبائع عرقسوس وأب علي كل لون. وسائق قطار.. وشخصيات أخري كلها "إنسان في صيغة فنان" تذكرته "نعم الباز" في عيد ميلاده.
كل سنة و"عادل إمام" طيب.
* الزميلة ليلي حسني تذكرت من نسيناهم من الفنانين الذين أسعدونا قبل أن يودعوا الحياة.. ثم عادت وتذكرت أربعة آخرين: إبراهيم يسري الذي لم يلق التقدير الذي يستحقه حيا وميتا.. مات في نفس يوم وفاة صلاح سرحان قبل سنوات وهو الشقيق الأكبر لشكري وسامي سرحان.. وفي نفس يوم وفاة "بدر الدين جمجوم" ظل يؤدي أدواره الناجحة في السينما والمسرح حتي مات قبل أكثر من ربع قرن.. وفي يوم وفاة المطربة "هند علام" شقيقة الموسيقار "محمد فوزي" والمطربة الممثلة "هدي سلطان".
تعيش "ليلي" وتفتكر.