القاهرة 19 مايو 2016 الساعة 12:45 م
كتب : أحمد شوقي علي
يمتلك الروائي المصري محمد الفخراني نَفَساً هادئًا في الكتابة والحياة على السواء، حتى وإن عكست نصوصه ولعه الواضح بالتجريب، أو بدا بعضها صاخبًا/جريئًا في موضوعه، إلا أن روايته الأخيرة "ألف جناح للعالم"، الصادرة مؤخرًا في القاهرة عن دار الكتب الخان، تبدو ترجمة واضحة لذلك الهدوء وتلك النظرة التأملية للجمال بمفهومه الرومانسي.
ثمة اختلاف كبير بين رواية الفخراني الأولى "فاصل للدهشة"، وروايته الجديدة، سواء على مستوى اللغة أو بناء العالم الروائي. فالأولى تسبر عالم القاهرة العشوائي الفقير، مستخدمة لغته العارية ومظاهر قسوته، فيما ترسم "ألف جناح للعالم" عالمًا متخيلًا يتعاطي في المقام الأول مع روح العالم وإنسانيته بكل ما تحتمله من عذوبة، ما يوحي برغبة لدى الكاتب في تجاوز ما صنعه في عمله الروائي الأول. لكن الفخراني يعتبرها "مجرد خطوة جديدة"، ويقول في حواره مع "المدن": "أحب أن أقدم شيئًا جديدًا في كل كتاب، فكرة أن يتجاوز الكاتب نفسه، تبدو لي وكأن الكاتب يسابق نفسه، أو لديه مشكلة مع كتابته السابقة، الأمر بالنسبة إلي بهذه البساطة: شيء جديد في كل مرة".
تعالج رواية "ألف جناح للعالم" الشغف باعتباره فضيلة الحياة الأهم، عبر خلق عالم متخيل "فانتازي"، فيما تجري أحداثها كلها في المستقبل، وفي حين أن السرد لا يحيل إلى زمن أو مكان محددين، فهو لا يقدم في الوقت نفسه ما يوحي بهما، حيث تخلو الرواية من أية إشارات للخصوصية الثقافية لأبطالها، أو البيئات سواء التي جاءوا منها أو ارتحلوا إليها، وهو ما يعترض عليه الفخراني الذي يرى أنه في "ألف جناح للعالم"، الخصوصية الثقافية للشخصيات هى "إنسانيتهم"، البيئة: عالم تم اختراعه لهم".
وتدور أحداث الرواية دارميًا حول رحلة لباحثين جيولوجيين يسعيان لكشف غموض/سحر بعض المناطق الكونية، وفي حين أن بناء الرواية يختلف عن بناء الواقعة السحرية التي تتكئ في أساسها على الخبرات الثقافية المحلية ومحاكاة ما فيها من أسطرة للعادي والمدهش على السواء، فإن الفخراني يرى أن "لا شيء في الرواية يجعلها ضمن أدب الخيال العلمي"، باعتبارها ليست ضمن أدب الواقعية السحرية.
غير أن اختيار الكاتب لأسماء أبطاله الرئيسين "سيميو أكسلينور، وبينورا، ودوفو"، إضافة إلى البنية الحوارية للغة الأشخاص تحيل إلى تأثر ما بسينما الخيال العلمي، وهو ما يفسره صاحب "قصص تلعب مع العالم" على أنها" مجرد أسماء"، وأما "الجمل القصيرة هي أسلوب أدبي معروف وشائع".
يمر العالم حاليًا بالعديد من الكوارث التي تسعى إلى إفنائه، فبالإضافة إلى الحروب والاضطرابات السياسية التي تعم الكرة الأرضية، هناك خطر التغييرات المناخية الذي يهدد الكوكب بأكمله، غير أن المستقبل في "ألف جناح للعالم"، يحمل تصورًا حميمًا عن علاقة الإنسان بالبيئة، وتصالحًا بين التطور التكنولوجي والكون. وفي الوقت الذي تنفصل فيه الطاقة عن أحد العوالم الموازية داخل الرواية، لا يسع سكانها إلا الخروج لاكتشاف العالم البري وكأنهم يطاردون حلمًا جميلًا؛ العودة إلى البرية الأولى قبل خلق الكون، وهو ما يوضحه صاحب "قبل أن يعرف البحر اسمه": "لم أقصد الحياة البرية فى الرواية، ما قصدته هنا هو التواصل مع روح العالم، نهاية العالم؟ لا تشغلني، ما يهمني أن العالم ما يزال موجودًا ومليئا بالجمال والمتعة والدهشة".
خلق عالم جديد من العدم يحتاج إلى جهد كبير من الكاتب لابتكار تفاصيل جديدة لذلك العالم، يسعى لإبرازاها سرديًا بين الحين والآخر ليهيء القارئ كي يتخيل صورة تلك الحياة المبتكرة، غير أن السارد بدا أنه يتوقف كثيرًا -إلى جانب استغراقه المنطقي في وصف البيئة- ليرصد كافة المظاهر الحياتية لكل من بطلتيه سيمويا وبينورا، وإن تكررت أداءات هاتين البطلتين، ما يوحي برغبة ما لدى الكاتب لصياغة رواية نسوية من حيث اهتمامها بالتفاصيل، لكن الفخراني يوجز رده قائلا: "أنت أمام نافذة مفتوحة على بحر".
وعن التفاصيل أيضًا، تولي الرواية عناية خاصة لإبراز عشق بطلاتها كلهن للشوكولاتة، ورغم ما رسمه السرد من صور لإبراز تلك القدسية حيث تستأذن الشيكولاتة أولا قبل الشروع في آكلها، أو صناعة مدن للشيكولاتة، أو نحو ما جاء على لسان "سيمويا" من وصف: "عندما آكل الشيكولاتة تتسرب إلى روحي، تدخلني، أسلم نفسي لها، أتلاشى فيها، أذوب في اللذة، وأشعر أحيانًا ببل خفيف في سروالي الداخلي"، رغم ذلك كله تبدو العناية بإبراز تلك العلاقة محاكية –نوعًا ما- لمادة الإعلانات الدعائية عن الشيكولاته، وهو ما قد يتعارض نوعًا مع جماليات الفن باعتبار أن إحدى وظائفه هي تقديم صورة أكثر خصوصية عن الشائع، وفي الأخيرة يعترض الفخراني، قائلا: "الفن ليس موظفًا، ولا يعمل بأيّة وظيفة، ولو حتى على سبيل المجاز، سيختنق لو فعل هذا لساعة واحدة، الفن فى أحد تجلياته: متشرد يكتشف العالم".
"اكتشاف العالم" ربما هو غاية الرواية التي تحرض قارئها بدءًا من صفحتها الأولى: "الإجابات أسئلة متنكرة.. لا تفقد شغفك" مرورًا بلغة الأبطال أنفسهم، وفي حين أن أبطالها ينطلقون في مهمة هدفها الكشف عن حقيقة العالم المدهشة، إلا أنهم لا يعيرون اهتمامًا لتفسير سر تلك الأماكن ولا ربط أسرارها بعضها ببعض، وفي الوقت نفسه لم يتح النص للقارئ ما يمكنه شخصيًا من حل تلك الأحجية، ويعترض صاحب "طرق سرية للجموح" على تلك الفرضية، ففي رأيه: "ليس مطلوبًا أن يجد القارئ إجابة، لأنها ليست موجودة، لأنها ليست الهدف، كتبتُ فى الصفحة الأولى من الرواية "الإجابات أسئلة متنكرة"، اللعبة واضحة من البداية".
حققت رواية الفخراني الأولى رواجًا مقبولًا لدى قطاع عريض من القراء، انتهى بحصولها على الجائزة المقدمة من مؤسسة "لاغاردير" الفرنسية ومعهد العالم العربي في باريس للرواية العربية العام 2014، وربما يكون العالم الصاخب الذي تصدت لرصده الرواية أحد أهم عوامل جذب انتباه القارئ إليها. غير أن "ألف جناح للعالم" هي رواية خالية من الصخب لا ملحمة فيها أو صراعات أزلية. هي رواية كتبتها نَفس هادئة محبة للجمال متفائلة بالعالم رغم كل شيء. سألتُ صاحبها: هل يمكن أن تحقق روايتك الثانية رواج روايتك الأولى نفسه، أم أن الأمر يخضع كليًا لتفضيلات القارئ التي تصب في صالح ماذكرته سابقا، فقال: "الرواج؟ أبحث عن شيء أكثر عمقًا وأهمية، عمومًا: أنا أكتب، وأُطلق كتابي ليحقق ما يستطيع تحقيقه لنفسه، من دون حتى دعم حقيقي مني، فقط أراقبه من بعيد مثل أب يراقب ابنه الذى يثق به، في الوقت الذى أكون مشغولاً فيه بتحضير ابن جديد".
ليست "فاصل للدهشة" العمل الوحيد من بين أعمال الفخراني التي حصدت الجوائز، حيث سبق لمجموعته القصصية "قصص تلعب مع العالم" الحصول على "جائزة يوسف إدريس" العام 2012، وكذلك مجموعته القصصية "قبل أن يعرف البحر اسمه" على جائزة الدولة التشجيعية العام 2013. وبالرغم من ذلك، لا تبدو روايته الأحدث "ألف جناح للعالم" بعيدة من تفضيلات الجمهور من حيث حجمها (480 صفحة من القطع المتوسط)، حيث لم تخلُ الاتهامات الموجهة للقارئ الحالي أو لجان تحكيم الجوائز العربية الكبرى من ادعاءات بتفضيلهم للرواية كبيرة الحجم عن تلك الصغيرة، وهو ما يجيب عليه الفخراني، بقوله: "بشكل عام: الحقيقة نفسها أحيانًا يكون فيها شيء من الادعاء، والادعاء أحيانًا يكون فيه شيء من الحقيقة".
"المدن"