القاهرة 10 مايو 2016 الساعة 01:31 م
لا أحديفتقر ، وفي أيّ وقت ، إلىسبب وجيه للانتحار. تشيزاره بافيزه
رافقه اثنان . أحدهما هادئ ، والثاني ذو أعصاب بائخة ، فحركاته تكشف عن توتر داخلي لايطاق. مضى معهما . وطوال الطريق سعى كل واحد منهما بطريقته الى إقناعه بأن من الأفضل أن يعود موته إلى نفع ما على عائلته . كانا يتكلمان منذ أسبوع عن موته. و يتذكر أن الهادئ قال بأن هناك حججا كثيرة كي لا يقدم على الموت لكن القرارقراره وليس لديه ما يقوله بهذا الشأن. وكان الثاني يتفق مع صاحبه على طول الخط. انتبه ، وهم في الطريق إلى الفندق الذي تكلما بأنه سيكون مقره في أثناء تواجده في هذه المدينة أن هذا الشارع يذكره بآخر بعيد، كل شيء فيه مرّتب ونظيف بل حتى الروائح المنبعثة من البشر والأشياء تصل إلى أنفه مثل ماء كولونيا لكنه ليس بالقوي. هز رأسه وكأنه أراد أن لا يصدق بكل شيء : الشارع والاثنين خاصة. تكلم الهادئ طويلا ، فالشارع بدا له بلا نهاية. في الحقيقة ليس هناك من جديد في كلامه ، بل هو يدور حول تلك الفكرة اللعينة : أن يطلق النارعلى رأسه في ملعب الشعب وقبل أن تبدأ تلك المباراة التي تقرر هل سيتقدم الفريق القطري في لائحة التصفيات الأسيوية النهائية لكرة القدم أم لا. كان ذلك الهادئ قد اعطاه مسّودة خطابه الأخير في الساحة. خطاب منفوخ انتزعه الهادئ من أرشيف تلك الخطابات الفارغة. لاشيء فيه عن محنته الشخصية بل كلام متواصل عن البلد والشعب والوطنية والله غلى آخره. فكر ، وهم في الطريق ، بكيف ستبدو الصيغة الجديدة للخطاب ، ومن الأنسب أن يخبر الجميع ، وكان الهادئ قد قال بأنه سيزوّده بمكبّر للصوت ، عن محنته الشخصية أيضا وكيف هو ضائع في هذه الدنيا وكم هو آسف لكونه لا يعرف غيرها ، فهذه رغم كل المظاهر الخداعة غير مفهومة ومعدومة الآمال. اقتنع بأن الكلام عن كل محنه ينبغي أن يكون مرّكزا ، ولتكن حصة الأسد للكلام عن البلد ومحنه. بالطبع هو يعرف الاثنين . الهادئ كاتب مقلّ لم يتخلص كثيرا من الكتابة التقليدية ، أما الثاني فغارق في السياسة وحتى منذ أن كان في المدرسة الابتدائية. أشار الهادئ بيده النحيفة إلى بناية الفندق وقال : بعد دقائق ستكون في غرفتك.
لم تكن من الغرف الكئيبة ، فهنا وهناك ما يدل على ذوق مقبول. أخبرهما بأن ينتظراه في بهو الفندق ، فلديه الآن رغبة قوية في قراءة الخطاب الأخير وإكماله بملاحظاته . ذو الأعصاب البايخة أخرج من جيب سترته الداخلي قنينة صغيرة مصفحة وقال له :
- أكيد أن هذه ستعينك في صياغة خطابك الأخير.
الكاتب المقل أيد الفكرة موضحا بأن ما تحويه هذه القنينة المعدنية الصغيرة سيحفّز، بلاشك، المخيلة. عدل عن إطلاق ضحكة ، فهو يريد أن يضحك حين يقف وسط الساحة وليس الآن. لايعرف كيف تحرّك في رأسه شريط لأحداث الضحك في حياته غلا أنه أوقفه حين توجه مع الاثنين إلى باب الغرفة كي يؤكد لهم من جديد بأنه لن يبقى في الغرفة طويلا. سألهم فجأة :
- هل فكرتما بالعشاء ؟
أجاب الهادئ وابتسامة باهتة على وجهه:
- لاتفكر بهذا الشيء وغيره ، فنحن نعمل وفق خطة.
في صباح اليوم التالي جاء الهادئ وحده إلى الفندق و سلمه مكبر الصوت. لم يبق طويلا فوفق الاتفاق كان على الثلاثة أن يلتقيا في بهو الفندق قبل ثلاث ساعات من بدء المباراة. الغريب أن ليلته الأخيرة كانت بالغة الهدوء وحتى إنه نام أكثر من ثمان ساعات ولم تداهمه الكوابيس ولا الأحلام. استيقظ جائعا ومفكرا بقدح من القهوة السادة أيضا. تناول فطوره في المطعم ثم عاد إلى الغرفة كي يعد نفسه للقاء الاثنين في البهو ثم التوجه بسيارة أجرة إلى الساحة. أخبره ذو الأعصاب البائخة بأن كل شيء يشير إلى أنه لن يبقي مكانا فارغا في الساحة ، فالميديات تلاحق بهستيريا ، ومنذ أسبوع ، التحضيرات للمباراة. اذن كل شيء يومئ إلى أن هناك مباريتين - قال الهادئ – تتباريان أيضا في شد الأعصاب، واحدة مع ذاك الفريق الأسيوي والثانية مع الموت ! لم يتمالك نفسه كي لا يقول :
- من أين حس الفكاهة هذا ، فقدر علمي حتى كتاباتك القليلة بالغة الجدّية .
سكت الهادئ ولم يرد. فهو يدرك بأن الوضع لا يتحمل أيّ مشادة ولا نرفزة . شربوا في البهو القهوة ، وطلب الهادئ بعض الحلويات مع القهوة. جلسوا في البهو حوالي الساعتين. والآن لابد من إيضاح نقطة مهمة في هذه القصة وهي كيف حصل هذا الاتفاق حول الموت في الساحة :
كان نعمان ، وهو اسم المرشح للانتحار ، قد التقى مع الهادئ وذي الأعصاب البائخة في بيت صديقهم القديم وهو مصوّر معروف هشمت السلطة السابقة أصابع يده اليسرى ، فهو أشول ، ومنذها تفرغ للنقد الفني والتدرب على التلوين والنحت باليمنى. ما جمع بينه ، واسمه أمير ، ونعمان أن أفكارهما بالغة الضراوة ، وهي في الواقع مزيج من أفكار معاصرة وأخرى بالغة القدم. وكانت قنينة كبيرة من الويسكي شاهدة على ما جرى في بيت أمير وبالضبط حين أعلن نعمان بعد بضعة أقداح كبيرة ، بأنه يفكر في الانتحار منذ أمد طويل ولأن مثل هذه الحياة ليست له فهي مخصصة للخدم والرعاع حسب. حينها سرح خياله مع تصور درامي عن هذا الانتحار. قال بأنه يريد الانتحار وسط الجموع التي يعرف جيدا بأنها لن تتخلى عن أفكارها عن الحياة ويوم الآخرة لكن ( قد تحدث هزّة ، وأنا أعرف بأنها سوف لن تكون كبيرة ولا مفزعة ولن تبدل شيئا في هذه الجماهير ). وكانت فكرة الهادئ استغلال الانتحار إن حدث. لكن كيف ؟ اقترح ذو الأعصاب البائخة والذي لايشكو من قحولة المخيلة وضعف الحس العملي ، على الهادئ الاتصال بمحطات فضائية تدفع جيدا وخاصة تلك الأميركية والأوربية ، وليكن قسم من ( الريع ) لعائلة نعمان. بعدها فاتحوه بالفكرة ووجدها لاتخلو من الابتكار والأصالة. الهادئ تكفل بالتعامل مع تلك المحطات وما على نعمان إلا التهيؤ لحياة أخرى. ..
نقلتهم سيارة أجرة إلى ساحة الشعب. دخلوا بسهولة إلى الملعب واحتلوا أماكن في الصف الأول . بقي على بدء المباراة حوالي ربع الساعة . إذن لا بد من التوجه إلى وسط الساحة والبدء بألقاء خطاب الوداع . حين وصل إلى منتصف الساحة خفتت ، لحد واضح ، الضجة هنا وهناك. تأكد نعمان من أن الوقت قد حان كي يرفع مكبّر الصوت إلى فمه ويبدأ الكلام. وفق قراره راح أولا مع قضاياه الشخصية. كان صوته مسموعا في كل أرجاء المكان ، ومع كلامه كان السكون ينتشرويتوسع. انتبه إلى أن صوته اكتسب صفاء لم يعرفه من قبل. انتبه إلى بضعة رجال أخذوا يتقدمون صوبه لكن المسافة لا زالت كبيرة بينه وبينهم . ها هو قد انتهى من القسم الشخصي من خطابه والآن حان الوقت لإنزال اللعنات على الجميع بدءا بالحاضرين وانتهاء بقاطن السماء. لاحظ هرولة الرجال صوبه وكانوا يلوحون بمسدساتهم فوق رؤوسهم. انتبه أيضا إلى أن صوته صار بالغ الضعف وحتى إنه أخذ يسمعه بالكاد. ماذا ؟ لم يتأكد الهادئ من صلاحية البطاريات ؟! هاهم الرجال يقفون أمامه و... ضاعت الفرصة كي يشهر سلاحه ويبدأ مسرحية الانتحار. فهم كبلوه بمهارة واحترافية أثارت ، رغم كل شيء ، إعجابه. وفي الطريق إلى بناية الملعب كانوا يدفعونه إلى الأمام بمثابرة عجيبة. لم يجد أمامه غير اطلاق تلك الضحكات التي كتمها منذ اللقاء الأول مع الهادئ وذي الأعصاب البائخة.
مجلة المحلاج