القاهرة 10 مايو 2016 الساعة 01:13 م
ربما كانت تلك الإشارة واجبة للتوضيح مع السطور الأولى . وهي : أن الذين صاغوا تعبير السلطة الرابعة للصحافة، كانوا يعرفون ما يقصدون، عن فهم واستيعاب .. يقصدون قوة الرأي العام .. التأثير فيه ، والتعبير عنه ، وفي الحالتين التأثير والتعبير، كان الهدف خلق قوة ضغط على السلطات الدستورية الثلاث ، لكي تفتح عينيها على مصالح لم تكن تراها، أو كانت تتجاهلها لأسباب أو أهواء أو ظروف ، أو لكي تنسحم سياسات السلطات الثلاث مع المزاج العام للجماهير .. وهذه مهام السلطة الرابعة.
والصحافة كسلطة رابعة ، أصبحت " موضوعا يثير جدلا واسعا " لايزال مطروحا بشدة في مصر هذه الأيام .. وأضيف إلى المسألة جدلا دستوريا ، حول وضع له قوة الحقيقة ، وقوة الواقع ، وصحيح أن السلطات لا تخترع من الهواء ، وصحيح أيضا أن الفقه الدستوري في العالم كله لا يعرف غير سلطات ثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية .. ولكن السلطة الرابعة هنا ، جاءت لتراقب السلطات الدستورية الثلاث بتفويض من الرأي العام ، كقوة غير منظورة ، قوة ضغط ، وخاصة في بلدان العالم الثالث كله والتي لا تعرف ــ باستثناءات قليلة جدا ــ غير سلطة فعلية واحدة ، سلطة الحاكم وهو ( ثلاثة في واحد ) السلطة الواحدة الأولى ، فكيف تقبل أن يكون هناك مجال لسلطة رابعة .. وهذه هي القضية المحورية في كل الجدل المثار !! بعضهم أصبح ( أربعة في واحد ) حين أضاف إلى سلطانه "صناعة صحافة " تكتب
ما يريد، وتمنع مالا يحب ، وتوجه الرأي العام حيثما يشاء .. أي مجرد محاولة للتحوط ضد حركة السلطة الرابعة !!
عموما .. فإن تعبير " السلطة الرابعة " شاع وذاع في أواخر القرن الثامن عشر ، في بريطانيا العظمى وفرنسا بالذات ، وكان ذلك عصر فوران وثورة .. كانت بريطانيا ــ وقتئذ ــ في أعقاب سلسلة من الثورات تبحث عن نظام جديد ، وكانت فرنسا ــ أيضا ــ تعيش بالفعل حالة
ثورة عارمة تسقط نظاما قديما دون أن تعرف ماذا بعده ؟! وكانت السلطات في ذلك الوقت ثلاثا ( الملك والكنيسة والبرلمان ).
والحاصل .. أن الملك كان يقول أنه الثلاثة في واحد ، وبينما الكنيسة تعتبر نفسها مكلفة من السماء بالقانون ، وفي نفس الوقت كان البرلمان ــ وهو لا يزال فكرة وليدة في التطور التاريخي الهائل ــ يحاول أن يؤكد لنفسه ولغيره أنه الممثل الشرعي الوحيد والمباشر للشعب ومصالحه وحرياته وحقوقه .. وفي مواجهة تنافس الثلاث سلطات ، كانت الجماهير ــ أو الرعاع ــ كما كانوا يسمونها في ذلك الزمان ، موجودة معظم الوقت في الشوارع تفجر مشاعرها الثورية في كل اتجاه .. كانت ضد الملك ، وضد الكنيسة ، وأحيانا ضد البرلمان .. وهكذا لأول مرة ظهرت عبارة " السلطة الرابعة " التي تستطيع أن تفرض على الملك والكنيسة والبرلمان ، ما تريد ، تفرض عليها جميعا مشيئتها، بقوة الشعور العام ، أو بقوة الغضب العام ، حتى ولو لم تكن
هذه المشيئة واضحة أو محددة .
وفي أواخر القرن الثامن عشر، ربط الكاتب والمفكر السياسي البريطاني، وليام هازليت، هذه العبارة "السلطة الرابعة" بالصحافة ، أثناء تواجده داخل البرلمان، يتابع المناقشات ، والتفت فلمح مندوب جريدة ، وكانت الجرائد يومها في نظر السلطات الثلاث التقليدية ـ الملك والكنيسة والبرلمان ـ أوراق تهييج وإثارة ..والتفت " وليام هازليت " إلى صديق يجلس إلى جواره ، وقال مشيرا إلى مندوب الجريدة " هذا هو ممثل السلطة الرابعة " .. وكان " وليام هازليت " يقصد بالطبع تأثير ماتكتبه جرائد الرأي على حركة الجماهير .
ثم شاع وصف الصحافة بـ السلطة الرابعة" في القرن التاسع عشر، عندما تكرر في كتابات "أدموند بيرك " و " توماس كارليل " وبمعنى الوسيلة
القادرة علي تحريك مجموع الجماهير، وعلي اثارتهم، وتحويل طاقتهم إلى قوة ضغط علي السلطات التقليدية الثلاث .
والصحافة "السلطة الرابعة" ، هي سلطة بمعنى مجازي ، قيمته أنه يستطيع توجيه ضغط غير منظور في غالب الأحيان ، ليس ضروريا أن يحرك في الشارع ، ولكنه قادر على الضغط ، ويوجه هذا الضغط إلى السلطات الدستورية الثلاث ، حينما يجد أن حركة هذه السلطات ، عاجزة ، أو فاسدة، أو مترهلة، أو تتصادم مع وعي ومزاج الجماهير.
أي أن الصحافة كسلطة رابعة ( بالمعنى المجازي وليس الدستوري ) ، هي القوة المباشرة للرأي العام الذي يرى في الصحافة أنها أقرب إلى التعبير عن نفسه عند الضرورة من كل
الذين أنابهم عنه وأناط بهم مسؤولية السلطات الدستورية لنظام الدولة .. والسلطة الرابعة، بمعنى حركة الرأي العام، هي التي تستطيع أن تفرض على كل السلطات الدستورية الثلاث ما تريد وما تشاء عند الضرورة .
والتصاق هذا الوصف بالصحافة ، جاء من حقيقة أنها كانت الوحيدة القادرة على أن تلعب في حركة الجماهير، دور المحرك أو العامل المساعد على الأقل .. على فرض أن الظروف المحيطة بها تمكنها من ممارسة هذه المسؤولية .
وحتى مع تعدد وسائل التعبير عن نبض الرأي العام ( الإذاعة، ثم فيما بعد التليفزيون، ووسائط التواصل الاجتماعي، والمواقع الاخبارية) فهي كلها في نطاق توصيف واحد "الصحافة" المكتوبة أو المرئية أو الاليكترونية .. وربما نجد في القرن الحادي والعشرين من يطلق عليها "السلطة الأولى" لأنها هي التي تراقب السلطات الثلاث، وترصد الأخطاء والتجاوزات ، وتوجه للمسار الصحيح وفقا لنبض الجماهير ومطالبها .