القاهرة 26 ابريل 2016 الساعة 02:14 م
تقع المؤسسة الاجتماعية في شارع ضيق متفرع من شارع الرصافة،? ?مبني كبير? ?يقولون إنه كان قصرا لأحد بشوات ما قبل ثورة? ?يوليو? ?52،? ?فحولته الحكومة إلي مؤسسة لرعاية الأطفال?. ?يودعون به الذين? ?يخالفون القانون وهم في سن لا? ?يسمح لهم بالإيداع في إصلاحية القاهرة?.?
المبني محاط بسياج نصفه من الطوب ونصفه الأعلي من الحديد المدبب،? ?مغطي بصاج مدهون باللون الأسود،? ?ليصعب علي الأطفال المعاقبين القفز منه?.?
سلم الشرطي عوض وعلي الألدغ? ?إلي موظف متأنق،? ?يلبس نظارة زرقاء اللون،? ?وقع علي الأوراق ثم صاح مناديا عاملا? ?يشبه المخبرين،? ?بطوله الباسق وعرضه ومعطفه الأصفر المفتوح?: ?خذهما? ?يا حامد إلي الحلاق?.?
أزال الحلاق شعر رأسيهما?. ?صاح علي،? ?ودفع? ?يد الحلاق،? ?فضربه في قسوة علي ظهره الممتلئ،? ?وظل علي? ?يتململ في جلسته حتي جرحت ماكينة الحلاقة رقبته،? ?فسال الدم منها فوق ملابسه?.?
تأفف الحلاق من الحشرات الكثيرة التي نزلت من رأسه،? ?ثم دفعه بعيدا عنه?.?
ارتديا شورتين أزرقين وقميصين رصاصيين بدون أكمام?.?
نظر علي إلي عوض وضحك طويلا? ?غير مبالٍ? ?بحامد الذي? ?يقف كالعملاق بجانبهما?.?
شكلك مضحك جدا?.?
صرخ حامد فيهما،? ?ودفعهما إلي جمع كبير من الأولاد? ?يجلسون وسط الحوش الكبير?. ?وأمرهما بأن? ?يسرعا إليهم?. ?نظر الأطفال إليهما دون اهتمام?. ?كانوا مشغولين بأشياء أهم،? ?فلم? ?يتحرك أحد ليفسح لهما مكانا،? ?فجلسا في المؤخرة خارج الدائرة?.?
تململ الولد علي الألدغ،? ?فجسده الممتلئ? ?يعوقه عن الجلوس مقرفصا?. ?
مر الوقت الطويل وأحس عوض بالجوع،? ?فالطعام الذي أتت به أمه،? ?أخذه حامد مع الأشياء الأخري التي تخصهما?. ?كما أن الجلوس? ?هكذا? ?في الشمس? ?يزيد من الرغبة في الارتواء?.?
أحس عوض بالخوف،? ?يخاف أن? ?يسمعوا صوت تنفسه؛ فيضربونه?.?
لا شيء? ?يتحرك فيه بحرية? ?غير عينيه،? ?يرسلهما إلي كل مكان في المبني?. ?يتابع الشاب الطويل العريض الذي? ?يزيد عمره علي السابعة عشرة،? ?ملابسه لا تدل علي إنه موظف ضمن الموظفين?. ?وامرأة تشبه الخواجات اسمها إنجيل تنادي الشاب من بعيد?:?
رشاد،? ?رشاد?. ?
والموظفون عندما? ?يأتون من بيوتهم،? ?ينادونه?: ?رشاد،? ?رشاد?.?
ينظر الأطفال الجالسون إليه في رهبة?. ?فهو المسئول الفعلي عنهم?. ?الكل في المؤسسة? ?يترك له أمر تربيتهم?. ?فهم منشغلون بأشياء أخري?. ?يأتون إلي المؤسسة للتسلية ولزيادة دخولهم،? ?دون أن? ?يفعلوا شيئا?.?
جاء الموظف المسئول عن الأولاد الجدد بعد العصر بقليل?. ?قال لرشاد?:?
أريد الولدين الجديدين?.?
أسرع رشاد بهما،? ?دفعهما بساقه?: ?أسرعا إلي الأستاذ أحمد عبد العال?.?
تفحصهما الموظف بعينه الحولاء،? ?وسأل عوض أولا?:?
كنت تسرق؟
لا،? ?كنت أجمع الحديد والنحاس?.?
تسرقه،? ?أم تجمعه؟
أصحاب الورش والمسابك? ?يعطونه لي عن طيب خاطر?.?
قال الموظف لرشاد?: ?قربه مني?.?
شده رشاد في عنف،? ?رفع الموظف الغطاء عن صدره بحثا عن علامة مميزة? ?يوصم بها الضباط من? ?يسرقون لتسهيل التعرف عليهم،? ?ثم قال لرشاد?:?
أنت المسئول عنه? ?يا رشاد،? ?إياك أن? ?يهرب?.?
أومأ رشاد فقد كان قليل الكلام خاصة مع الموظفين?.?
أسرع عوض ليجلس ثانية بجوار الأولاد في الحوش?. ?ودفع رشاد بعلي ناحية الموظف الذي سأله?:?
كنت تجمع الحديد والنحاس مثل زميلك؟
لا،? ?كنت أسرق أغطية البالوعات من الشوارع?. ?
ضحك الموظف لصراحته? ?غير المتوقعة?.?
كان رشاد نزيلا في المؤسسة وهو صغير،? ?ثم وصل إلي السن الذي? ?يتحتم فيها اتخاذ قرار معه?. ?إما أن? ?يترك المؤسسة،? ?أو ترحيله إلي الإصلاحية بالقاهرة إذا لزم الأمر?.?
لكن رشاد لم? ?يترك المؤسسة،? ?فقد اعتادها،? ?فطلب من المدير أن? ?يعتبره عاملا بها?.?
أحس المدير أن تركه بها سيفيده كثيرا?. ?فهو? ?يعتمد عليه في تأديب الأولاد الذين لا? ?يستجيبون للنظام وأوامر المؤسسة?. ?ويعتمد عليه? ?أيضا? ?في إعادة الهاربين،? ?ويعهد الموظفون إليه برعاية الأولاد وشراء لوازم المؤسسة من خضار وفاكهة?. ?وينام آخر الليل في المؤسسة كما كان صغيراً?. ?
الأولاد? ?يخافونه،? ?فهو? ?يضربهم ويعاقبهم بطوابير الذنب وإجراء التمرينات الرياضية القاسية ويحبسهم أحيانا في البدروم?. ?
حاول المدير أن? ?يعين رشاد في المؤسسة لكنه لم? ?يستطع?. ?ورشاد لم? ?يعط لهذا الأمر اهتماما?. ?فهو? ?يكسب كثيرا من الأولاد والموظفين?. ?ويسمسر في شراء الأشياء?. ?وتعيينه رسميا لن? ?يعطيه المبلغ? ?الذي? ?يحصل عليه?.?
في الصباح تكون المؤسسة بلا موظفين?. ?فالذين? ?يعملون عملا آخر? ?في? ?غير المؤسسة? ?مشغولون بأعمالهم الأخري?. ?وحتي الذين ليس لديهم سوي عمل المؤسسة؛? ?يأتون قرب العصر ورشاد هو الحاكم الآمر طوال الوقت?. ?فالعمال الموجودون مشغولون بأعمالهم،? ?حامد بأعمال النظافة،? ?فيختار لها مجموعة من الأولاد،? ?يغيرهم كل عدة أيام?. ?والطباخ ومساعدوه عليهم إعداد ثلاث وجبات? ?يوميا،? ?فليس لديهم الوقت لمتابعة الأولاد وما? ?يفعله رشاد بهم،? ?كما أن هذا ليس عملهم?.?
يجلس الأولاد وسط الحوش الترابي،? ?ويجلس رشاد في ظل المبني القريب من الحوش،? ?وهو ممسك بعصاه الطويلة التي? ?يهدد الأولاد بها?. ?ثم? ?يقف ولد اسمه بدر،? ?يعرفه عوض وعلي من قبل أن? ?يأتيا إلي المؤسسة،? ?فأبوه? ?يبيع البطاطا الساخنة علي ناصية شارع الملك الأشرف بسوق عقداية،? ?ضبطته الشرطة وهو? ?يبيع الحشيش علي قارعة الطريق،? ?رغم عمره الذي لا? ?يتعدي الثالثة عشرة?.?
يدفع أهل الولد نقودا لرشاد،? ?ومن? ?يزوره من أصدقاء الأسرة؛? ?يدفعون لبدر للإنفاق داخل المؤسسة،? ?فيعطي الولد النقود لرشاد?. ?أهل الولد تجار مخدرات أغنياء?. ?لذا? ?يقف الولد ممسكا بعصا ويمر بين الأولاد،? ?يضربهم جميعا دون استثناء?. ?من? ?يمد? ?يده،? ?يضربه عليها،? ?ومن لا? ?يمدها،? ?يضربه فوق ظهره أو كتفه أو رأسه إذا لزم الأمر?.?
يسير بدر هكذا والأولاد لا? ?يتحركون كأن الأمر لا? ?يعنيهم في شيء?. ?أو كأن الأجساد التي تُضرب،? ?ليست أجسادهم?. ?ورشاد خارج المؤسسة? ?يشاهد المارة من فوق مقعده?.?
قال علي لعوض بصوت خافت?:?
? ?سأضرب هذا الولد?.?
سيضربك رشاد?.?
صمت علي،? ?وتحمل ضربات بدر فوق ظهره في ضيق?.?
في المساء بحث? "?علي?" ?عن بدر في كل مكان?. ?
يخرج رشاد في المساء بضع ساعات،? ?يذهب إلي السينما التي? ?يعشقها،? ?وتظل المؤسسة بلا حاكم،? ?فيفعل بدر في الأولاد ما? ?يشاء?.?
ابتسم علي لبدر?:?
إنني أعرف أبوك الذي? ?يبيع البطاطا بجوار مدرسة نسيم?.?
لم? ?يجبه بدر ونظر إليه نظرة متعالية?.?
يعرف عوض ما سيحدث،? ?لذلك ابتعد،? ?فهو ليس في قدرة رشاد?. ?لقد رآه? ?يضرب ولدا حتي أسال الدم من فمه ورأسه?. ?كان الولد? ?يلهث،? ?ويزحف ليقبل قدمه ليتركه?.?
ابتعد? "?علي?" ?بالولد بدر خلف المباني البعيدة والعالية،? ?ووسط الظلام?. ?كان علي? ?يبتسم طوال الوقت لكي? ?يطمئن بدر?. ?ثم صفعه في عنف بيده القوية والكبيرة?. ?والولد بدر ضامر ونحيف،? ?وأي ولد في المؤسسة،? ?قادر علي ضربه،? ?لكنهم? ?يخافون رشاد وبطشه?.?
حمله علي ورماه علي الأرض،? ?ركله بجنون وتوحش في كل مكان من جسمه حتي أفقده الوعي،? ?ثم تركه وذهب إلي عوض وهو مازال? ?يلهث?:?
ضربته وارتحت?.?
ورشاد؟?!?
لن? ?يراني ثانية?.?
عندما أفاق بدر،? ?صرخ بأعلي صوته،? ?فأسرع العاملون إليه?. ?كان وجهه متورما والكدمات تحت عينيه وفي جسده كله?.?
بحثوا عن علي في كل ركن من المؤسسة? ?فلم? ?يجدوا له أثرا?.?
أخبار الأدب