القاهرة 10 ابريل 2016 الساعة 02:50 م
كتب : د.أحمد منصور
الأدب بالمطلق نشاط إنساني يدور حول حياة الإنسان ، صراعاته مع الطبيعة القاسية أو مع بني جنسه الآخرين، وكيف تمضي تلك الحياة ، عبر الأفراح والأتراح والانكسارات التي تترك جروحاً لاتندمل .
إن السيرة لإنسان هي جنس من هذا الأدب، قد يكتبها صاحبها متحدثاً عن نفسه أو بضمير الغائب ، كما فعل طه حسين في "الأيام" أو يكتبها كاتب عن إنسان آخر كما فعل عباس محمود العقاد في "عبقرية عمر" و "عبقرية خالد" وهي سير ذاتية عن شخص معين واحد ..
هنالك جنس آخر من السير تدعى السير الشعبية وهي سير بطولية تحكي حياة وأعمال شخصيات قاموا بأعمال عظيمة لقومهم وقدموا تضحيات للذود عن القبيلة أو الأمة ضد الغزاة الغرباء والمعتدين ويكون النصر حليف البطل في ختام السيرة .
أما الملحمة فهي فن شعري يقوم على مجموعة من الأساطير والأعمال الخارقة والأجواء الغرائبية .. أبطالها يمارسون بطولات تتداخل فيها عوالم البشر بعوالم الجن وتدور أحداث الملحمة في فضاءات خيالية وأعمال جبارة، يتزعمها بطل يقاوم الشر والظلم والطغيان من أجل أن ينتصر الخير والعدل والسلام .
إن البطل في الملحمة لايبحث عن أمجاد شخصية ذاتية وإنما يدافع عن العائلة أو الأمة ..
لقد عرفت الشعوب القديمة أدب الملاحم :
ففي الهند لديهم أعمال ملحمية مثل : "المهابهراتا" و"الراميانا" وفي فارس لديهم ملحمة : "الشاهنامة" وعند الإغريق لديهم ملحمتا : "الإلياذة" و"الاوديسة" وعند المصريين القدماء نعثر في أوراق البردي على ملحمتي " "إيزيس واوزوريس" و "سنوحي" كذلك فقد عرف الآشوريون والبابليون والرومان الملاحم في آدابهم .
وهنا يتجلى سؤال وماذا عن العرب ..؟ لماذا لانجد في الآداب العربية جنس الملاحم وقد كانت حياتهم مليئة بصراعات فيما بينهم وصراعات مع دخلاء غرباء أرادوا السيطرة عليهم واستغلالهم من أجل مصالحهم .
لقد بحث الكثير من النقاد والمهتمين بالأدب العربي حول سبب غياب أدب الملحمة وعدم الاهتمام بكتابتها وتاريخهم سجل حافل بالحروب التحريرية التي قادها أبطال لم يعرف العالم مثيلاً لهم .
وكانت الإجابات متضاربة تختلف باختلاف ثقافة الباحث ونهجه في دراسته ومستويات حياديته .. إن الأدب العربي ، أدب عريق والإبحار في متونه يتطلب دقة بالغة وأمانة في إصدار الأحكام ..
لقد بحث عدد من الدارسين عن إغفال العرب لفن الملحمة في آدابهم فوجد د . إبراهيم شعلان ، أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة ، أن العرب ، لم يعرفوا فن الملاحم، لأنهم في العصر الجاهلي كانوا يعتّدون بتراثهم الشعري ويرون أنه أرقى من جميع الأجناس الأدبية عند الشعوب الأخرى .. أو ربما لم يطلعوا على آداب الأمم الأخرى ولو افترضنا جدلاً أن أحدهم اطلع على أدب الملحمة فإن هذا الاطلاع سيكون محدوداً ولن يكون له تأثير فعال بسبب حياتهم القبلية وعيشهم في أجواء صحراوية بالغة القساوة .
ويمضي الباحث إبراهيم شعلان في دراسته فيقول : في العصر العباسي ورغم انفتاح العرب على آداب الأمم الأخرى نتيجة لأعمال الترجمة التي جرت في بيت الحكمة في العاصمة بغداد، ولكن القائمين على هذه الأعمال ، توقفوا ملياً عند اطلاعهم على الملاحم والدراما المسرحية ورفضوا مقاربتها لما فيها من قيم وثنية وصراعات بين البشر والآلهة مما يتنافى مع قيم العرب التوحيدية .
وهنالك باحث آخر هو د . أحمد عثمان المتخصص باللغة اليونانية واللاتينية له رأي مخالف ، إذ يرى أن الأدب العربي يحفل بالعديد من الأجناس الأدبية والتي يمكن أن نقارنها بالملاحم الأخرى مع الانتباه ، أن لكل أمة ولكل حضارة ، طابعها الخاص وقيمها الخاصة فعند العرب ، العديد من السير الشعبية التي يمكن مقارنتها بالملاحم ، وعدد من هذه السير قد تتفوق على الملاحم الأخرى بقيمها الأخلاقية والاجتماعية وفيها الشعر والنثر والبطولات وهناك العديد من السير في أدبنا العربي لعل أهمها :
1 - سيرة عنترة بن شداد : وهي من أقدم هذه الأعمال وقد اقترنت حياة هذا البطل بالفروسية والشعر وهما قمة خصال العرب وتتحدث عن عبد حرر نفسه فحرر قبيلته ثم حرر أمة العرب جمعاء .
2 - سيرة ذات الهمة : وتدور حوادثها بين العرب والروم .
3 - سيرة الظاهر بيبرس : وتتحدث عن بطولات الظاهر بيبرس في تحرير الأرض العربية من المحتلين الفرنج .
4 - سيرة سيف بن ذي يزن : وتدور حوادثها بين بطولات ملك اليمن سيف وبين جيوش الأحباش المعتدية .
5 - سيرة حمزة البهلوان : وفيها نضال ومقاومة للظلم وغزو الغرباء لأرض العرب .
6 - سيرة علي الزيبق : وتتجلى فيها بطولات علي الزيبق المقاومة للظلم والطغيان .
ويرى الباحث أحمد عثمان في هذه السير الرائعة أنها ملاحم ارتدت ثياباً عربية وهو يأسف من أخطاء البعض وتعاليهم عن هذه السير واعتبارها أدباً شعبياً لايستحق الدراسة ،منهم لم يتعمقوا في دراستها بل كرروا أقوال الغرب عن هذه السير وأعادوا تهميش كل انجاز لحضارتنا ويجب أن نعرف أنه ليس كل قول يصدر عن الغرب هو حقيقة فلكل أمة تراثها الخاص ومقاييسها الخاصة بها .
ويتفق الشاعر والباحث مسعود شومان المتخصص في الأدب الشعبي العربي مع أحمد عثمان ، بأن السير هي ملاحم وان الباحثين والنقاد الذين تأثروا بالنظريات الغربية واستوردوا القوالب النقدية الغربية التي تلائمهم وحاولوا تطبيقها على سيرنا الأدبية فما توافق معها أخذ شهادة الاعتراف وما لم يتوافق مع هذه القوالب استبعد .. ووفقاً لهذه النظريات والقوالب، اعتبرت ملاحمهم أعمالاً فنية راقية ، في حين اعتبرت سيرنا الأدبية أعمالاً سردية غير أدبية أي أنها أقل منزلة وقيمة ولاتطبق عليها عبارة ملاحم ..؟
إن الرأي الموضوعي في هذه الاشكالية يرى أن تطبيق القوالب النقدية الغربية على انتاجنا السردي، أدى إلى خلط في المصطلحات فتداخلت السيرة مع الملحمة والأسطورة وأيضاً مع الحكاية الشعبية وهذا ما أكد عليه د . إبراهيم عبد الحافظ أستاذ الأدب الشعبي في أكاديمية الفنون في القاهرة ، كما رفض بشكل قاطع مقارنة ملاحم الغرب بسير العرب مستنداً في ذلك إلى أن الفن الشعبي ينتج من التجربة الشعبية ولايخضع لمسميات جامدة ولاالقوالب مسبقة الصنع .. لأن لكل مجتمع تجربته التي ينتج من خلالها فنه الخاص : فالمجتمع اليوناني ومن بعده المجتمع الأوروبي انتج الملاحم وهو فن قائم بذاته، يوازيه في الأدب العربي فن السير الذي قد لايشابهه ، لكنه يعبر عن المجتمع العربي وعاداته وقيمه ومتطلبات عصره الذي أنتج فيه .
ونخلص إلى القول : أنه من الخطأ أن ندحض السير العربية تحت تسمية أدب الملاحم لأنهما نوعان من الفنون الأدبية يعبران عن حاجات خاصة وتطلعات محددة لكل مجتمع ولكل أمة ، لكنهما مختلفان في الأدوات وفي المنهج ، ويتم التعامل مع كل منهما في إطار منفصل يميز السيرة عن الملحمة .. والسيرة العربية ، تاريخ مقاوم للعدوان الذي تعرض له الوطن العربي حتى تحرر وانتصر .
"الجماهير"