القاهرة 10 ابريل 2016 الساعة 02:05 م
كتنبت : سلمى هشام فتحي
ربما كان أكثر ما يميز فيلم “المخدوعون” (1972) عن رواية “رجال في الشمس” (1962) لغسان كنفاني هو النهاية، ومقولة يبدأ بها الفيلم وينتهي لتضع الأحداث في دائرة لا تنتهي، تقول:
وأبي قال مرة:
الذي ليس له وطن
ماله في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر
الفيلم اختير ضمن أفضل 100 فيلم عربي، وحصد عددًا من الجوائز العالمية، منها جائزة مهرجان قرطاج 1972 ومهرجان ستراسبورج لأفلام حقوق الإنسان 1973، وهو إنتاج سوري من إخراج المصري توفيق صالح، أحد رواد الواقعية في السينما، والذي قدم في 1968 فيلمًا مأخوذًا عن عمل أدبي أيضًا هو “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم.
لكن غسان كنفاني (1936- 1972)، الروائي والصحافي والسياسي الفلسطيني، الذي لم يكن ليهدأ أبدًا عن مناصرة قضية بلاده أنهى روايته الأولى بقتامة تزيد عما ظهر في نهاية الفيلم، ربما لأن نكبة فلسطين كان جرحها لم يزل طريًا حين كتابة الرواية بعد أقل من 15 عامًا على ضياع الأرض، بينما جاء الفيلم بعد نكسة 67 حين كان العرب يحاولون إيجاد ثغرة من أمل أو حتى مقاومة يائسة قبل الموت.
أنجز كنفاني سبع روايات (ترك اثنتين منهما غير مكتملتين)، وخمس مجموعات قصصية، ومسرحيتين، وعدد من الدراسات والمقالات السياسية والأدبية (من أهمها بحث “في الأدب الصهيوني”) قبل أن يبلغ عمر الـ 36 ويقوم الموساد باغتياله في تفجير سيارة مفخخة.
ويبدو أن كون كنفاني عضوًا بالمكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (حزب يساري فلسطيني) وناطقًا رسميًا باسمها، ومؤسسًا لمجلتها “الهدف” قد أضفي مزيدًا من الأهمية على أعماله من حيث استعماله للرمزية للإشارة إلى القيادة الفلسطينية، نظرًا لتعامله اللصيق معها، وهو ما يجعل من شخصية “أبو الخيزران”، قائد الرحلة في “رجال في الشمس”، وجبة دسمة للجدل والتكهنات
شخصيات اللاجئين الثلاثة الذين يتكبدون مشقة السفر إلى العراق ومنها إلى الكويت بحثًا عن لقمة العيش تتكرر حتى يومنا هذا، فمن تهريب السودانيين إلى ليبيا، إلى غرق المصريين والجزائريين أثناء عبورهم البحر المتوسط في قوارب مكتظة بائسة إلى أوروبا، يخرج الشباب والرجال مؤمنين بمقولة “يأكلني الحوت فالبحر وما يكلنيش الدود في بلادي”، إلا أن الفلسطيني بلده محتل.
أبو قيس، أكبر اللاجئين الثلاثة، يرى الأستاذ سليم مدرس المدرسة محظوظًا لأنه قُتل وهو يدافع عن القرية الفلسطينية التي لم تصمد أمام اليهود –بعد وفاته- إلا يومًا واحدًا، يقول “أبو قيس” في مناجاة بينه وبين نفسه:
“وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم .. ترى لو عشت.. لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟“
أما “أسعد” الشاب و”مروان” المراهق فيبحثان عن الخبز أيضًا لعائلتيهما، لكن يبدو أن الرجال الثلاثة وحتى قبل بداية رحلة الحياة والموت عبر الصحراء مع “أبو الخيزران” قد أيقنوا بفنائهم، وأكد لهم حدسهم نُذُر الطيور السوداء التي تحلق فوق رؤوسهم، ولكن هل من مفر؟ هل أدى يأسهم من إمكانية الحياة خارج أرضهم إلى عدم قرعهم للخزان الذي كانوا يختبئون بداخله من السلطات؟ يتردد صدى صوت “أبو الخيزران” في نهاية الرواية متسائلًا
“لما لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا“
“أبو الخيزران” الذي سرق أموال الرجال الثلاثة في الرواية ولم يفعل ذلك في الفيلم يبدو كشخص شرير جشع لا يسعى إلا إلى المال، وقد يمثل القادة العرب أو الفلسطينيين أنفسهم ممن أوهموا الشعب بالخلاص وخدروه بالأحلام الوردية، لكن “أبو الخيزران” ضحية أيضًا فبعدما سُلبت رجولته وسُلب الوطن يكفر بكل شيء إلا مصلحته، ويصبح نفعيًا لا يرى معنى للنقود بجيوب الأموات، لكنه مع ذلك كان يسعى قبل المأساة لإنهاء أوراق سفره في أسرع وقت حتى لا يختنق من يحاول تهريبهم في خزان شاحنته إلى الكويت، وكأن “أبو الخيزران” يحتوي بداخله شر الإنسان وطيبته معًا.
حمل “أبو الخيزران” كل ما لديه وانتقل للعمل في الكويت التي هاجر إليها من وصل عددهم إلى حوالي 400.000 فلسطيني عام 1991، حيث بدأت الهجرة في ثلاثينيات القرن العشرين، وازدادت مع نكبة 1948 ثم نكسة 1967، حينها كانت الكويت لا تزال منطقة نامية، وكان عمل الفلسطينيين بها يتركز في قطاع التعليم والصحة والخدمات والاقتصاد، لكن الغزو العراقي للكويت 1990 قلّص كثيرًا من الوجود الفلسطيني بها، بعدما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية موقفها بالإجماع ضد الحرب على العراق.
هكذا وباستخدام تقنيات سينمائية مع تكثيف متميز استطاع غسان كنفاني سبك روايته “رجال في الشمس” كطلقة تعبر عن مأساة فلسطين، ولم يسترسل فيها كما فعل في قصة “الأفق وراء البوابة” من مجموعته الثانية “أرض البرتقال الحزين”، وهو ما أعطى للعمل قوة وتماسكًا، ونجح كذلك من خلال الحوار المُقتضب المُوجه.
“لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة، هل تعرفون ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترًا، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترًا ستصعدون إلى فوق، وفي المطلاع على حدود الكويت ستتكرر المسرحية خمس دقائق أخرى، ثم هوب ستجدون أنفسكم في الكويت”.
تبدو الكثير من أوصاف الصحراء الموحشة جلية في الرواية، وهو ما يذكّرنا برواية أخرى تناولت الصحراء هي “فساد الأمكنة” لصبري موسى، ويلعب كنفاني بفكرة الصحراء والشمس والظل والحرارة فيسمى أحد الفصول “الشمس والظل“.
أما الظلال الساخرة في الرواية فتظهر في اتهام رجال الحدود الكويتية “أبو الخيزران” بإقامة علاقة مع راقصة رغم أنه في الحقيقة لا يستطيع حتى النوم بجانب امرأة نتيجة الحادث الذي تعرض له وأفقده رجولته، كما تبدو السخرية في تعبير زكريا شقيق مروان عن ضرورة أن “يغوص (مروان) في المقلاة” كمثل غيره، ورغم أن هذا التعبير دارج إلا أن بعض ما يغوص في المقلاة يحترق أيضًا، وكأنه يتنبأ بشكل ما بقدره.
ترجمت هيلاري كيركباترك “رجال في الشمس” إلى الانجليزية عام 1999 وخرجت في كتاب يضم عددًا من قصص غسان كنفاني القصيرة أيضًا، كما أعدت جامعة ويسترن ميتشيجان الأمريكية بحثًا مطولًا عن الرواية بعد ترجمتها، وقارنت بينها وبين رواية “رجل الشعب” للكاتب النيجيري الكبير شينوا أشيبي من حيث تناولها علاقة الإنسان بأرضه، والتي كُتبت أيضًا في حقبة الستينيات.