القاهرة 03 ابريل 2016 الساعة 02:11 م
مشاهدة يوم بولنده في نيويورك .. بعض التأملات والدروس والعبر
في هذا اليوم المشمس الجميل في نيويورك بعد يومين من البرد القارس والرياح الشديدة مما جعل كثيرا من الناس يتطلعون ليوم مشمس. جري في منهاتن المدينة النيويوركية المزدحمة بالحياة والمليئة بالنشاط خاصة في فترة تواجد قادة الدول والحكومات والوزراء الكثيرون من 193 دولة عبر الكرة الارضية أتيحت لي فرصة جديدة للاستمتاع بيوم بولنده وما تم فيه من استعراض في شوارع منهاتن ولكن هذه المرة كانت لها دلالة خاصة بالنسبة لمشاهداتي لهذه الاستعراضات في الماضي عندما كنت عضوا بوفد مصر لدي الامم المتحدة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين .ولذلك تأثرت بذلك بدرجة كبيرة لتغير الظروف ما بين القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إذ لم يكن قد ظهر إلي الوجود ما أطلق عليه الربيع العربي وتداعياته وما أطلق عليه اسم تظاهرات ديموقراطية من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهي شعارات جميلة أطلقت في مصر وأقتبسها متظاهرون في دول أخري مع تغيير في بعض الشعارات ولكن كان الهدف واحد وهو الاطاحة بالحكومات القائمة التي أعتبرت غير ديموقراطية ولا تهتم بمصالح شعوبها وخاصة طبقاته الفقيرة وأطيافه الاجتماعية والدينية والعرقية وركزت إهتمامها علي مصالح النخبة الاقتصادية أو النخبة الحاكمة.أو هكذا ظهرت تلك الشعارات ورفعها أصحابها .
ومن خلال اللاشعور الانساني وعمق الانتماء الوطني لا يملك اي فرد أوتي بعضا من العقلانية والعقل والحس الوطني الا ان يقارن بين ما سمي استعرض أو عرض يوم بولنده وبين كل التظاهرات في بلادنا العربية ودور الشرطة ودور المواطنين وسلوكهم وأهدافهم
ومنهجهم في التظاهر وبين رد فعل بعض المواطنين أو المقيمين في نيويورك. وهم يشاهدون بسلام وبلا أدني تعليق ولا حتي التملل لتعطل سيرهم نتيجة غغلاق بعض الشوارع . ويهمني في هذا المقام أن أشير إلي عدد من الملاحظات تواردت علي خاطري وأنا أشاهد العرض البولندي والتقط عدة صور ولو كان المقال الموجز هذا يتيح نشر تلك الصور لضمنتها إياه ولكن إذا أرد صحفي أو أي شخص أن يعرفها يمكن أن يحصل عليها من جوجل المرجعية شبه
المحايدة للاحداث. وأما الدروس والعبر استعارة من أستاذنا إبن خلدون الذي عنون كتابه المقدمة بعبارة طويلة تشير الي "المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر":
العبرة الاولي إن الامم تقوم وتبني علي سواعد أبنائها وبناتها وهذا ما عبر عنه الاستعراض باسم بولندا في شوارع نيويورك حيث النساء والرجال يرفعون أعلام وطنهم ويلوحون بها ويبتهجون ويرقصون جنبا إلي جنب مع صخب الموسيقي غير المعتاد إلا في مثل تلك الحالات.
العبرة الثانية إن الاوطان تبني بالرضا والراحة النفسية والعمل وليس بالصراع والصراخ والغضب والتكشيرة كما لو كانت سمة من يتدينون أن يظهرون الغضب والعبوس رغم أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام قال عن المؤمن إنه هاش باش وطالبهم بان يلاقوا بعضهم بعضا بوجه بشوش وليس وجه عبوس كما نراه في هذه الايام.
العبرة الثالثة ترتبط بالعمل فلم يبن الرسول وأصحابه دولتهم أو تبن أية دولة علي التكشير الذي يحدث الانقباض النفسي أو علي الكسل وعدم الاهتمام بالعمل الذي هو واجب ديني وأخلاقي وإنساني فبدون العمل لا يكون هناك إنتاج وبدون الانتاج لا تتوافر مقومات العيش الكريم وبدون الاستقرار لا تتوافر فرص للعمل والانتاج وبدون الامن لا يتوافر الاستقرار وهكذا حلقات يفضي بعضها لبعض..
العبرة الرابعةهي وجود محبة واحترام بين المواطن ورجال الامن الذين ينظمون المسيرة وعلي الجميع أن يسمع لهم دون نقاش وقد كنا نسير بسيارة في الشارع فقال الشرطي توجهوا إلي شارع 57 وعندما ذهبنا إليه وجدنا الشرطي الاخر يقول إذهبوا إلي شارع 59 ولا يوافق علي ما قاله الشرطي الأول لانه في موقعه يري الشارع مزدحم ومتوقف وهو يقول نصيحة
وعلي الجميع أن يسمع هذه النصيحة التي هي تعليمات في حقيقة الامر ، ولا يضيع أي أنسان وقته في مناقشة الشرطي فكلامه أمر رسمي وعلي الكل الانصياع له. وهذا الشرطي لا يحمل سلاحا وإنما مسدسا صغيرا يكاد لا يري بالعين العادية.
العبرة الخامسة إن الجهة المنظمة للتظاهرة أو الاستعراض أبلغت الشرطة قبل الموعد بعدة أيام، والتي بدورها تعرف الموعد قبله بسنة لانه موعد احتفال سنوي للبولنديين في نيويورك. وحشدت شرطة المدينة رجالها بكثرة وأوضحت لهم عملهم وهو تنظيم العرض البولندي وإغلاق الشوراع التي يمرون فيها وهي شوارع منتقاة ومحددة بدقة ومعلنة في الصحف والاماكن العامة لان التظاهرة معروفة كما ذكرت وليست عفوية وهي مصرح بها ومعروف شروطها وسلوك أصحابها وهدفهم.
العبرة السادسة إن المتظاهرين ينظرون للشرطة بأدب وإحترام ويسمعون توجياتهم وينفذونها بدقة وفي نفس الوقت البوليس يتعامل مع المتظاهرين باحترام شديد ورأيت إحدي المتظاهرات تتناقش مع رجل المرور علي ما يبدو أنه رغبة منها في المرور بشارع غير مصرح بالمرور فيه في للتظاهر وبعد أقل من دقيقة من النقاش انصاعت السيدة المحترمة لتعليمات الشرطي. هذا الاحترام المتبادل هو رمز التظاهر وإساسه وفلسفته . فالشرطي يضطلع بمهمة تنظيم حركة الشارع وهو سيد الموقف وعلي الجميع الانصياع لأوامره وهو في نفس الوقت يحترم المواطن الذي يحترمه أي أن الاحترام متبادل بين الطرفين. وقلت في نفسي أين هذا السلوك الحضاري من الطرفين في مصر الحبيبة التي يرفض فيها المواطن الانصياع لأوامر الشرطة والأخر بدوره يصر علي التعليمات ثم يدخلون في صراع بالقاء القنابل من هذا الطرف ،والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه من الطرف الاخر .
وتساءلت في نفسي قائلا إن هذه هي الحرية الحقيقية والتظاهر الحقيقي وليس الفوضي التي تحدث في بلادنا العربية فالمواطن يعتبر نفسه فوق القانون وينظر للشرطي كعدو له ، والاخر ينظر لنفسه بأنه سيد الموقف ويتوجس خيفة من المواطن الذي بدوره يتوجس من الشرطي .إن المسؤلية متبادلة وكذلك حالة ابلخوف والتوجس خاصة بعد قتل كثير من رجال الشرطة من المتظاهرين في بلادنا، فالاحترام يولد الاحترام والعنف يولد العنف وياليت أبناء وطني العربي يعرفون !.
العبرة السابعة إن الديموقراطية تبني لبنة لبنة وطوبة طوبة ولا يمكن بناء الدور السادس قبل الاساس أو قبل الدور الاول وهذا يستغرق وقتا للعلم والتعلم والعمل بينما الهدم والخراب يتم في لحظات . وبناء الثقة بين النظام والشعب يستغرق وقتا طويلا والجهد ، أما نزع هذه الثقة فقط يحتاج لقنبلة من هنا أو شمروخ من الشماريخ التي تطلق وتتوهج نارا في الجو وإذا أصابت شخصا أوقعت به الخوف والرعب إن لم يكن الاذي بدرجة من الدرجات وفقا لطبيعة الاصابة وقوة الشمروخ وياليت هذا الشمروح من إنتاج وطني ولكنه مستورد من بلاد ما وراء البحار ونفس الشيء بالنسبة للقنابل والمتفجرات وأيضا نفس الامر مع الغاز المسيل للدموع ونحو ذلك
وقلت في نفسي إن هذه العبرة هي أبلغ العبر لأن المتظاهرين والشرطة لا ينتجون شيئا ، والجميع يعتمد علي الاستيراد من الخارج وتبديد اموال المواطن في جميع الاحوال من اجل سلوكيات غير طبيعية ورد فعل احيانا مبالغ فيها.وقلت في نفسي لابد أن نرسل عددا من المتظاهرين في شوارعنا ومن رجال الامن إلي مدينة نيويورك ليشاهدوا تظاهرة بولنده السنوية وهناك تظاهرات عديدة لاغراض مختلفة في هذه المدينة التي يمكن أن نطلق عليها مدينة الاستعراضا ت وهذه لها يوم محدد هو يوم الاحد وليس أي يوم اوإختيار يوم العطلة الاسبوعية الرئيسية هدفه إيجاد وسيلة للسماح للافراد بالتظاهر أو الاستعراض للتعبير عن أرائهم دون تعطيل للعمل لانه مقدس ومن لا يعمل لا يأكل وليس مثل الغرائب عندنا أن يتظاهر الشخص ويتغيب عن العمل عدة أيام فاذا عوقب طالب برد حقه وأي حق إذا خالفت قواعد الانضباط في العمل والانتاج لعمري إن هذا من العجب العجاب.
كما وجدت أن المدينة أكثر إزدحاما من الايام العادية ما عدا الاستثناءات فقيل لي لأن هذا اليوم يمكن أن تجد السيارات مكانا للوقوف فيه ومجانا ومن ثم يتسابق المواطنون من سكان الضواحي أو حتي الولايات الاخري لزيارة نيويورك في هذا اليوم لانه لو توقف وترك سيارته في مكان غير مصرح به فالعقوبة أكثر من رادعة ومسجلة علي أعمدة النور في الشوراع وهي 350 دولار للمخالفةإي أكثر من مرتب المواطن في بلادنا من ابناء الطبقة الفقيرة أو المتوسطة وبالطبع الاغنياء حريصون علي المال ليسوا مثل الاغنياء في بلادنا الذين ينفقون بلا حدود خاصة في الملاهي أما الغني الامريكي فهو مواطن يدفع الضرائب الكبيرة
ولا يستطيع التهرب منها فاعقوبة اكثر من قاسية و هو يحصل علي دخله بالعمل المستمر المضني ولذا فلا ينفقه الا بقدر محدد ومحدود.
وتساءلت كيف يمكن أن نتعلم من أمريكا العمل والنظام والانضباط والانتاج والتظاهر وإحترام المواطن للشرطي وإحترام الشرطي للمواطن. إنها حلقة متكاملة طيبة ، ولكن عندنا هي حلقة خبيثة كما وصف رجال الاقتصاد بعض حالات التخلف إنه يعاني من حلقة خبيثة يصعب كثرها. وتمنيت أن تكسر هذه الحلقة الخبيثة ولو جزئيا في إحدي حلقاتها حتي نستنق الهواء النقي ونتنفس الصعداء. إتمني أن اكون ساعدت ابناء وكني مصر وابناء العروبة ان يتفهموا كيف يتصرف المواطنون ورجال الامن في الدول الاخري.