القاهرة 03 ابريل 2016 الساعة 01:10 م
كتبت:تسنيم فهيد
“فرانكنشتاين نموذج للروايات القوطية، وهو طراز الروايات الذي شاع عامي 1760 و1820، والمقومات الأساسية للرواية القوطيّة هي الغموض والرعب والأشياء الخارقة للطبيعة، حيث تشير كلمة “قوطيّ” إلى الأعمال الأدبية ذات الجو الكئيب الذي يُحيط به المجهول ويولد فيه الخوف، والتي تدور بشكل عام في أماكن ضبابية منعزلة كالقلاع المسكونة أو المستنقعات القديمة، وتتناول حبكاتها أحداثًا عنيفة غامضة؛ وبينما جوّ “فرانكنشتاين” هو جوّ كابوسي، فالرواية أكثر من مجرّد رواية رعب
يعتقد البعض أن تسجيل الكوابيس والكتابة عنها أمر جيد، ويُعد نوعًا من أنواع التحرر أو العلاج الذي قد يساعد الشخص الذي يُعاني منها، لكن “ماري شيلي” بكتابتها لهذه الرواية قد أوضحت بما لا يحتمل الشك، أن الكتابة عن الكوابيس درب من دروب الجحيم، وأن الكتابة عن تلك الكوابيس الناتجة في الأصل من تفاصيل حياتية مؤلمة، تُخلّدها للأبد.
ماري شيلي
“هل رجوتك يا خالقي
أن –من الطين- تصنعني؟
هل استجديتُكَ
أن –من الظلمات- ترفعني؟” – من الفردوس المفقود لجون ميلتون
سنكتب قصة أشباح
“لا بد لكل شيءٍ من بداية“.. ثربانتس.
في صيف عام 1816، أو “عام الفقر” الذي لا يذكره أي أحد بخير، بسبب الانخفاض غير المسبوق في درجات الحرارة والذي أحدث تقلّبات مناخية شديدة القسوة، تسببت في إتلاف معظم محاصيل نصف الكرة الأرضية الشمالي، فنتج عنه مجاعة استمرّت طوال العام، وراح ضحيتها أكثر من مئتي ألف شخص، تبعه فصل شتاء بركاني وقع نتيجة لانفجار بركاني شديد العنف في إندونيسيا، زارت “ماري شيلي” الفتاة اليافعة مع زوجها الشاعر الشهير “بيرسي شيلي” سويسرا، وصارا جيرانًا للورد بايرون، وبسبب التقلبات الجوية العنيفة، والأمطار التي لم تتوقف لأيام، مكث ثلاثتهم بالإضافة للطبيب “بوليدوري” صديق اللورد، والذي كتب في هذه الأثناء قصته التي ذاع صيتها فيما بعد “مصاصة الدماء”، حينها وقعت في أيديهم بعض قصص الأشباح المترجمة من الألمانية للفرنسية، فقال اللورد بايرون: “سيكتب كلٌ منّا قصة أشباح“
تقول “شيلي”: “شغلت نفسي بالتفكير في قصة تُنافس القصص التي أثارت فينا رغبة التأليف. قصة تتحدث عن مخاوف طبيعتنا الغامضة، وتوقظ فينا رُعبًا مُثيرًا، قصة تجعل القارئ يخاف التلّفُّت حوله، تُجّمد الدماء في العروق، وتجعل القلب ينبض بسرعة، فكّرت وتأملت لكن عبثًا، شعرت بنضوب الأفكار
كانت ليلة موحشة في نوفمبر
“لقد خلق الله الأشياء خَيرّة، لكن الإنسان عبث بها وأفسدها.”- جان جاك روسو
تعترف “ماري شيلي” في المقدمة التي أضافتها للرواية في الطبعة الصادرة عام 1831 من أن المحادثات الفلسفية بين “لورد بايرون” و”بيرسي شيلي” والطبيب “بوليدوري”، ومناقشة منشأ الحياة، وتجارب “داروين” وذِكر تجربة “بنيامين فرانكلين” لتمرير التيار الكهربائي في جثة آدمية، كانت قبل أن تخلد للنوم في تلك الليلة التي رأت فيها بعينين مغمضتين وعقل يقظ، تلميذًا للفنون السوداء الملعونة يركع بجوار الشيء الذي جمع أجزاءه، حيث رأيت الصورة البشعة لرجلٍ ممدد، تدب فيه الحياة ويتحرك حركة متشنجة، ليفر ذلك التلميذ من عمل يديه البشع على أمل أن تنطفئ شرارة الحياة التي أشعلها في الجثة التي اعتبرها مهد الحياة، وينام على أمل أن يموت الشيء الذي تحرّك، لكنه يستيقظ ليجد المسخ واقفًا بجوار فراشه، ناظرًا إليه بعينين صفراوين دامعتين يبدو فيهما توسل ما
وبسبب الرعب الذي تسرّب لقلبها في تلك الليلة، قررت “شيلي” أن تصف ذلك الوحش المشوّه الذي سكن وسادتها في منتصف الليل في قصة، لأن ما أرعبها لهذه الدرجة، لا بد وأنه سيُرعب الآخرين
الأمر الذي قد يوحي لنا من أي جحيم كابوسي استقت “ماري شيلي” فكرة روايتها الشهيرة جدًا، لكن بالتطرق لحياتها الشخصية واكتشاف أن حياتها في هذه الفترة كانت مليئة بأحداث تراجيدية مُحزِنة تدور حول الحياة والولادة ومن ثمّ الموت، بسبب فقدانها لثلاثة أطفال من أصل أربعة وهم بعدُ رُضّع، سندرك أن كابوس “شيلي” تشكّل في عقلها اللاواعي، بسبب ما مرّت به من مخاوف الأمومة وخاصة بعد فقدان طفلتها الأولى في أثناء نومها، بعدما استيقظت في منصف الليل لتُرضعها فوجدتها هادئة بصورة مُريبة، لتكتشف أنها ميتة
حيث يرى العديد من النقاد أن رواية “فرانكنشتاين” إذا ما فرّغناها مما فيها من رعب، فإنها تناقش فكرة مولد طفل بدون امرأة/أم، حيث ظل “فرانكنشتاين” يُجري تجاربه طوال تسعة أشهر، ليظهر لنا معمله وكأنه رحمًا حاول أن يخلق فيه طفل/حياة، فالرواية تناقش أقصى مخاوف الأبوة والأمومة: هل يتسبب طفلي بموتي في أثناء ولادته؟ وهل إذا أنجبت طفلًا مشوهًا سأحُبّه وأتقبّله؟
الوحش الضحيّة
بالرغم من أن تيمة الضحية والجلاد موجودة منذ قديم الأزل، إلا أن قراءة هذه الرواية وإخراجها بعيدًا عن إطار الرعب الذي وُضِعت فيه، يُرغم القارئ على التوقف لحظات للتساؤل: “هل أكره حقًا ذلك الوحش المشوه عديم الاسم، أم يُمكن أتعاطف معه؟”، وهل كانت الفظائع البشعة التي ارتكبها، مجرد أعمال وحشية أم ثأر من هذا العالم الذي أراد أن يُحاكي الرب فجاء به إلى الحياة ومن ثم نبذه وهجره وحكم عليه بالعيش وحيدًا مطاردًا دون إثم اقترفه؟
“إنني حقود لأنني بائس، وكيف لا والبشر جميعًا يكرهونني ويتجنَّبونني؟ أنت يا صانعي ترغب في تمزيقي إلى أشلاء وتحتفل بالنصر، تذكّر ذلك وقل لي: لماذا أرفق بالإنسان أكثر مما يرفق بي؟ لماذا أرحمه وأنا لم أرَ منه رحمة؟، إذا منحني بشري لفتة طيبة واحدة، فسأُردّها إليه مضاعفة مائة مرة، بل مئات المرات، من أجل هذا البشري سأعقد معاهدة سلام مع البشر كلهم، لكنني مغموسًا في أحلام لا يمكن أن تتحقق“
قراءة الرواية تُثير تساؤلات عن الخير والشر وتُسلط الضوء عن ذلك الخيط الرفيع الذي يصل بينهما، فالمنطقة الرمادية موجودة بالرغم من إيمان البعض في الأبيض المطلق والأسود الواضح، بل وتدفع القراء نحو فكرة التعاطف مع أي وحش شرير منتقم إذا عُرِفَت دوافعه، وتترك لنا –أيضًا- مراجعة موقف الدكتور فرانكنشتاين الذي يبدو وكأنه ضحيّة برغم أن كل ما حدث كان من صنيع يديه، لكن الحال هكذا دائمًا؛ “الملاك الساقط لا بد وأن يصير شيطانًا خبيثًا“
الرواية المُلهمة
نُشرت هذه الرواية في المرة الأولى عام 1818، دون أن يتصدّرها اسم “ماري شيلي”، ولاقت قبولًا ورواجًا منقطع النظير، جعل بعض النقاد يرون فيها “بروميثيوس” هذا العصر وتُرجمت للغات عدة، وطُبع منها ما يزيد عن 1000 طبعة باعت مئات الآلاف من النسخ، وتم تحويلها لأفلام سينمائية شاهدها الملايين حول العالم، وألهمت كُتّاب أفلام الرعب في شتى أنحاء العالم لاختلاق شخصيات خارجة من عباءة مسخ فرانكنشتاين، و كانت المُلهم الرئيس للأديب العراقي أحمد سعداوي لكتابة روايته الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” عام 2014 ، “فرانكشتاين في بغداد“، والتي تدور حول “هادي العتاك” بائع العاديات في أحد أحياء بغداد، والذي كان يجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية خلال شتاء 2005، ثم يقوم بلصق هذه الأجزاء ليُنتج كائنًا بشريًا غريبًا، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من المجرمين الذي قتلوا أجزاءه التي يتكوّن منها.
"التقرير"