القاهرة 15 مارس 2016 الساعة 03:47 م
ستمرت تناوشني، تارة تداعبني فأضحك،و تارة تتشاجر معي، تقسم نفسها لنصفين متساويين وتقف لتنعتني بالمشتتة الضائعة لحظتها أضحك كما لم أضحك قبلا
تعرفني ككف يدها، حتى انحناءات جسدي تعرفها، خطوط الزمن على وجهي تحفظها
كنت أحب أن أجلس إليها وفي يدي كتاب أقرأ وتسمع، تواصل الإنصات، ذاكرتها كطفل تستوعب كل شيء، عدستها تلتقط الصور في ذاكرة لا حدود لسعتها، أتعجب، تنهرني، تستزيدني، لا أبخل
اليوم وأنا أجلس وحدي في ركن بعيد عنها، تشير لي ولا ألبي طلبها، تقترب مني، تعبث بأصابعها الطرية أسفل صدري، تحت إبطي مدغدغة إياي دون أن أبدي أية حركة ، من قبل ما إن كانت تفعل ذلك حتى أجدني أنفلت من بين يديها، كالهلام الذي لا شكل له حتى أستعيد توازني وشكلي، أضحك وأضحك وهي تواصل دغدغاتها وحركاتها المدربة وهي تقول ( أركب الهوا ) كنت حقا أركب الهواء، لا يد تلمسني؛ لا يتحمل جسدي لمسات غريبة عنه
كانت تسمع كلمة غريبة فتحزن، أقبل وجهها وأقول لها هو لا يعرفك لكني أحفظك
دخيلة علينا تلك اللحظة التي أغوص فيها بوحدتي
تحاول أن تستميلني لكني أعجز عن أن أكون لها، حتى هو يحاول معي، أسمع صوته الحزين لأجلي، أسمع همس الــ آه التي تخرج في تنهيدة عظيمة من صدره، أود لو أخذتها لجوفي مرة واحدة أحتويها في داخلي وأحتويه، وحدي أغوص بي ولا فائدة.
أخبرتني مؤخرا أني بت أسرف في المقدمات، عَليِّ أن أجد سبيلا آخر وإلا خسرت ما كان وما حققت، كان لديها حق، فكل ما ذكرت الآن كان مقدمة لشيء لا أعرفه، تائهة كهؤلاء الذين خرجوا ذات يوم يصرخون بالحرية ثم تاهوا في دروب من يسربلون حولهم سرابيل الاستبداد والقهر.
لا شيء بعد عادت له قيمة، حتى الكلمات فقدت مغزاها.
القصص لم تعد تحوي سوى هموم جديدة، دماء سالت على أرصفة الطرقات، حكايات آباء أسرهم الهم وهم يودعون بعضا منهم، كلما رأيت أحدهم يقف في هدوء حاملا صورة لولده الفقيد، أجدني أبحث في وجهه عن تلك الليلة التي كانت سببا في هذا الولد، عن تلك اللحظة التي أعقبتها بتسعة أشهر حين حمل بين يديه الولد، أجدني أعدو نحو سنينه الست ورحلة أول مرة للمدرسة، وفرحة أول نجاح، وأول شهادة وألملم حبات دمعي التي ليست بأغلى من دمع الأب المكلوم.
القصص لم تعد تحوي سوى أنين المعتقلين، وآلام المصابين، القصص ما عادت تنقل عن الأشجار النائمة في حضن الحقول القلوب المحفورة في سيقانها، لم تعد تتحدث عن ذلك السهم الذي يخترقها وحرفي اسمين على كل ناحية، وزهرة قرنفل في يد مرتعشة بعد اللمسة الأولى.
القصص ما عادت تشكو أنين الوحدة والهجر وظلم المحبوب، القصص خرجت لعالم الرايات التي شقت عنان السماء، للحناجر التي هتفت بالعيش، للغاز الذي أعمى العيون وجرح الصدور، للبنت الجميلة ــــ ليست واحدة هن كثر ـــــ التي وقفت أمام الرصاص واستنشقت الغاز، وصرخت في قلب الميدان وفي الجامعة وفي الشارع، البنت التي مدت يدها فالتقطها الحبيب الهائم يدثرها في صدره يمسح عنها سيل الدماء، تستند إليه ويواصلا الهتاف.
لم تعد لدغدغتي، هزتني بعنف، استفقت، تركت أفكاري المبعثرة، كلماتي الضائعة، أخرجت من جعبتي كتاب لم أكن بعد قد عرفت عنوانه، سحبته من بين صف الكتب وخرجت، لم أجب عن أي من تساؤلاتها الكثر، قرأت بصوت عالٍ، قرأت وهي تستمع، رنين الهاتف أزعجها، أبتسم لها ولاسم محدثي، تفهم.
أسمعها من بعيد تقول: لازالت القصص تعرف الحب