القاهرة 16 فبراير 2016 الساعة 04:05 م
فيمنتصف أكتوبر 1981 حصلت على دورة صحفية من وزارة الإعلام العمانية إلى دار الهلالبالقاهرة، قبل انتقالي إلى جريدة عمان، وكنت في ذلك العام، سأتقدم لشهادة دبلومالتعليم العام، وأخذت معي بعض المواد الدراسة احتياطاً، مع أنني لم أقرأ شيئاًيفيدني في هذه المواد، في الثلاثة الأشهر بالدورة الصحفية، وعندما وصلت القاهرةكانت الأوضاع متوترة، بعد حادث المنصة الشهير الذي اغتيل فيها الرئيس الراحل أنورالسادات، ونشاهد نقاط الجيش والشرطة في أماكن كثيرة بوسط القاهرة وخارجها، وتفتشالسيارات في الأوقات المتأخرة من الليل، لملاحقة بعض الهاربين بعد هذا الحادث، حتىأن الملحقية الثقافية العمانية بالقاهرة، أصدرت لي بطاقة طالب، حتى لا أتعرضللاستجواب وغيرها بسبب الظروف الاستثنائية، مع أن دار الهلال أعطتني بطاقة صحفيمتدرب خلال تلك الأشهر، وتمت الدورة الصحفية أولا في مجلة المصور، ثم تنقلت بينأقسام المجلة ودار الهلال بأقسامها المختلفة، وكان رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحريرمجلة المصور، مكرم محمد أحمد، وفكرت أن وجودي بالقاهرة فرصة مواتية، لإجراء أحاديثصحفية مع بعض المفكرين والكتاب، فأجريت لقاءات مع الكاتب المعروف صبري أبو المجدبدار الهلال، ومكرم محمد أحمد، وحاولت أن أقابل الصحفي والروائي المعروف إحسان عبدالقدوس، لكن ظروف سفره للخارج للعلاج حالت دون اللقاء معه، وكذلك لم استطع مقابلةالكاتب والإعلامي المعروف د/ مصطفى محمود، لعدم حصولي على رقم منزله، وأيضاًرغبتي الشديدة في مقابلة المفكر وشيخ الفلاسفة العرب كما يلقّب في ذلك الوقت،فكلّمت أحد الصحفيين المصريين بمجلة المصور، عن رغبتي في مقابلة زكي نجيب محمود،وهي رغبة شخصية قبل أن تكون حديثا صحفياً معه، وهو الذي أثرى المكتبة العربيةبعشرات الكتب الفكرية والفلسفية، فقال لي أحدهم صعب أن تقابله، ولن يوافق على طلبكبمقابلته بحكم ظروفه العملية، وهو قليل الأحاديث الصحفية بطبيعته، وأيضاً بسببظروفه الصحية، فحصلت على رقمه من أحد الزملاء في مجلة المصور، واتصلت به هاتفيابمنزله الذي يقع على كوبري جامعة القاهرة، بشارع أنس بن مالك، فرد على الهاتف،وقلت: أنا صحفي عماني موجود بالقاهرة، وأريد أن أجري معك حديثا صحفيا، وعلى الفوررحب بطلبي دون تردد، وحدد لي موعدا في صباح ذلك اليوم في ديسمبر 1981، وعرفّني علىعنوان بيته واسم الشارع، طلبت سيارة أجرة من منطقة بعابدين بالقاهرة، القريبة مندار الهلال، مكان الدورة الصحفية، وعندما وصلت شقته، فتح لي الباب، مرحبا بيوابتسامته تعلو وجهه رحمه الله تعالى، وهو يرتدي الروب، مع اللباس الشتوي المعتاد،لم يكن معه أحد في الشقة، وزوجته د/ منيرة حلمي لم تكن موجودة، لأنها أستاذةجامعية بجامعة القاهرة في الفلسفة أيضاً.
قبل الحديث تناولت معه بعض المرطبات، مع سماع الموسيقى الكلاسيكيةفي تلك الشقة الكبيرة التي هي عبارة عن شقتين مع بعض في العمارة نفسها، وعندمابدأت الحديث معه، فتحت قبلها آلة التسجيل التي كانت بحوزتي، فرفض الدكتور زكياستخدامي آلة التسجيل في الحديث، وقال لي: سوف أرد على الأسئلة بكل هدوء، وأمشيمعك عندما تكتب الإجابات، ولا أعرف سبب هذا الرفض، لكن اعتقد أن بعض المفكرينوالسياسيين، يرفضون تسجيل أحاديثهم الصحفية، لربما تخرج منهم كلمات، قد تسبب لهمإحراجا مع الآخرين،
فأول أسئلتي كانت عن حياته الشخصية، وأسئلةكثيرة تعلقت بسيرته الفكرية، ومنها عن حياته العلمية عموماً
فأجاب : تخرجت عام 1930، واشتغلت بالتدريس فيمدارس التعليم العالمي المصرية بضع سنوات، ثم سافرت في بعثة دراسية إلى انجلترا،حيث حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن في الفلسفة، وعدت للقاهرة لأكون عضواً فيهيئة التدريس بجامعة القاهرة، وتدرجت بالقسم الفلسفي مدرساً، فأستاذا مساعداً،فأستاذا، وحتى بعد التقاعد في عام 1965، عينت أستاذا غير متفرغ بجامعة القاهرة حتىإلى هذه الساعة(كان في عام 1981). خلال هذه المدة كنت في الوقت نفسه أسيرا في خطثقافي إلى جانب خط التعليم، فقد صدرت في يناير 1933، مجلة الرسالة التي يرأسالمرحوم تحريرها أحمد حسن الزيات، فأخذت أمد المجلة بالمقالات المتوالية، إلى أنجاءت سنة 1934، حيث زرت الأستاذ الزيات في مقر المجلة مرة من المرات، وكانت تستأجرغرفة في الشقة التي بها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي لجنة تأسست في عام1914، ولا تزال قائمة إلى الآن (في عام لقائي معه)، وكانت تضم ألمع نجوم الثقافةوالفكر في مصر، في ذلك الوقت يرأس تحريرها المرحوم أحمد أمين، فتصادفت أن وجدته معالزيات في غرفته عند زيارتي، فوجدته يستقبلني استقبالا كريماً، وقد ابلغني تقديرهللمقالات التي اكتبها في مجلة الرسالة، عرض علي أن أكون عضوا في لجنة التأليفوالترجمة والنشر، ولم يمض وقت طويل حتى اتفقنا الأستاذ أحمد أمين وأنا على إخراجسلسلة كتب توضح الفلسفة بأسلوب مقبول عند القارئ، فما أن جاءت 1935، إلا وقد صدرلنا كتاب قصة الفلسفة اليونانية، وفي العام التالي أعقبه كتاب قصة الفلسفةالحديثة، فكان أول اشتغالي بالتأليف العلمي، وأخذت الكتب تتوالى بعد ذلك إلى أنأصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1937، مجلتها الخاصة الثقافة، فوجهت نشاطينحو هذه المجلة وحتى بعد أن سافرت إلى انجلترا كنت أرسل مقالاً إلى مجلة الثقافةمن هناك. وتستطيع أن تقسم إنتاجي العلمي والأدبي الذي بلغ 47 كتاباً، (صدرت له كتبعديدة أخرى حتى وفاته عام 1993)، ثلاثة أقسام رئيسية القسم الأول: الكتب الفلسفيةالجامعية، وكان من أهمها كتاب المنطق الوضعي، ونحو فلسفة علمية، القسم الثاني: يشتملعلى مجموعات من المقالات الأدبية، التي تدور كلها نحو نقد القيم في حياة الأمةالعربية، منها كتاب(جنة العبيط) وكتاب(شروق من الغرب)، القسم الثالث: في النقدالأدبي، من ذلك كتاب في فلسفة النقد، تضاف إلى هذا كله الكتب المترجمة منالانجليزية إلى العربية، أهمها بعض أجزاء (قصة الحضارة الغربية)، و(الفلسفةالغربية لبرتراندراسل)، وكتاب (المنطق الوضعي لجون ديوي)، كما ترأست مجلة الفكرالمعاصر من ظهورها حتى عام 1960، وقبل ذلك قضيت في أمريكا سنتين من 53 ـ 1955،أستاذا زائراً في السنة الأولى، ومستشاراً ثقافياً في السفارة المصرية بواشنطن،وفي 64 انتدبت للتدريس في جامعة بيروت العربية، وفي خريف 1968، انتدبت لجامعةالكويت ومنذ عودتي إلى مصر 1973، أصبحت كاتباً بجريدة الأهرام المصرية، وعناهتمامه بالتراث العربي، في السنوات الأخيرة من حياته قال: ابتداءً من 1975، جعلتاهتمامي منصبا بالدرجة الأولى في دراسة تراثنا المجيد، والنظر في كيفية إدماجه فيحياتنا المعاصرة، وكان أول كتاب في السلسلة الطويلة من الكتب التي نشرتها في هذاالطريق كتاب (تجديد الفكر العربي) وكتاب (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري)وكتاب (ثقافتنا في مواجهة العصر)، وهكذا تتوالى الكتب في هذا المجال.
هل يوجد فلاسفة في عالمناالعربي؟
:د/ زكي نجيب محمود: إن الأمريتوقف على المعنى الذي نريد أن نفهمه من كلمة فيلسوف، فإذا المراد بهذه الكلمة، أنكل من تخصص في الفلسفة يكون فيلسوفاً، إذن في الأمة العربية فلاسفة، وإذا المعنىالمراد بكلمة فلسفة، هو أن يكون للرجل بناء فكري كامل، فيه وجهة نظر بكل نتائجهاوفروعها، كما نجد مثلاً في عصرنا الحاضر، عند وايت هد، وبرتراند راسل، وجان بولسارتر، فبهذا المعنى ليس فيلسوفاً. وفي تراثنا العربي نماذج لفلاسفة كبار من أمثالالغزالي، وابن سينا، والفارابي وابن رشد، فهؤلاء فلاسفة بالمعنى الكبير الذي اشرناإليه، وليس في الأمة العربية الآن فيلسوفاً يمثل هذه القامات العملاقة.. وعن عدمظهور جيل يمثل طاقة إبداعية مثل الجيل السابق قال: ربما يكون السبب في عدم ظهورأدباء كبار في أبناء هذا الجيل يتساوى ممن ظهروا في الجيل الماضي من أمثال عباسمحمود العقاد وطه حسين وأحمد شوقي وغيرهم، أنهم أولاً لظروف اجتماعية جديدة طرأتعلى حياة الأمة العربية لم يعد الشباب يستطيع قراءة التراث من جهة الصادرة،والتراث من بلاد الغرب من جهة أخرى، وما دام هذان المصدران قد أغلقا فكأنما أغلقتأسباب الإبداع والجدية، ثانياً لا بد أن نتذكر أن أبناء هذا الجيل قد نقلواالإبداع الأدبي من مجال المقالة الأدبية والنقدية والفكرية إلى مجال القصةوالمسرحية فأصبحت المقارنة بين الجيلين عسيرة، وربما كان بعضهم في مجال القصةوالمسرحية يتوالى من حيث الإبداع بأمثال الجيل الماضي من أدباء المقالة، وكل ما فيالأمر اختلاف الوسيلة بينهما لا يمكننا من رؤية المقارنة. على الرغم من اختلاففاعلية العقل في مجال الفلسفة، وفاعليته في مجال الأدب فمن الجائز أن يجمعها معاًرجل واحد فمثلاً ابن سينا عند نظم قصيدته العينية مطلعها:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاء ذَات تَعَزّزٍ وَتَمَنّـــعِ
وهذهالقصيدة قالها في النفس البشرية، وقد نسج أحمد شوقي قصيدة في المعنى نفسه ومطلعها:
ضمِّيقِنَاعَكِ يَا سعاَد أَوِ ارْفَع
هَذِي المحَاسِن مَا خلِقْنَ لِبرْقعِ
أقولعندما نظم ابن سينا قصيدته تلك، كان ابن سينا أديباً وفيلسوفاً معاً، وعندما كتبالفارابي آراء المدينة الفاضلة، فقد كان بمثابة ممن أقام بناء أدبياً يشبه القصةليضع من خلاله الفكرة التي أراد الفيلسوف أن يقدمها عن شكل الدولة فهو إذاً فيلسوفوأديب معاً وهكذا. وعن العصر الذهبي الذي يتمنى أن يعيش فيه قال: من الجائز أن مثلهذا السؤال يجد عندي إجابات مختلفة، عندما كنت أصغر سناً، لكنني في هذا السن، وفيحالتي الصحية، فإنني لو كنت عشت العصور الأولى بكل بساطتها، فلا زحمة ولا تنافسولا طموح مبالغ فيه، وإنما حياة بسيطة وقناعة بالقليل وسعادة غامرة.. وفي نهايةاللقاء قال لي وهو يودعني عند باب شقته: إنني آسف أشد الأسف لأنني تلقيت برقيةدعوة في العام المنصرم (1980) من وزارة التراث القومي والثقافة، لحضور الموسمالثقافي العماني، لكن لظروفي الصحية اعتذرت عن المجيء لعمان، وكانت أمنيتيزيارتها.. لكن هل تغيّر د/ زكي نجيب محمود فكريا؟ وهل لا يزال متأثراً بفكرالغرب دون النظر والمراجعة لفكرنا العربي؟ وماذا عن الوضعية المنطقية الذي تبناهافترة طويلة من حياته؟
واجه الدكتور زكي نجيب محمود،حملة نقد واتهام من بعض الأقلام الفكرية والأكاديمية في مصر، بسبب موقفه من التراثوالفكر العربي عموما، بعد تراجعه عن أفكاره الفلسفية، لاسيما فلسفة (الوضعيةالمنطقية)، التي تبناها فكرياً فترة طويلة من الزمن، ودافع عنها في بعض مؤلفاتهالعديدة وأبحاثه وحواراته -وسيأتي الحديث عنها- ويذكر الدكتور زكي نجيب محمود أنهأثناء انتدابه لجامعة الكويت في عام 1968، تفرّغ لقراءة كتب التراث العربي،خاصةالكتب الفكرية والفلسفية،وقال في بعض أحاديثه أنه اخطأ في إهماله لقراءة هذاالتراث العربي لشطر كبير من حياته، بعد أن كان كل قراءاته لمؤلفات من العالمالغربي، ترجمة لفكرهم وانبهارا بفلاسفتهم،خلال ما يزيد على خمسين عاما، وقد عاش فيالغرب فترة ليست بالقصيرة، أستاذا زائرا في الجامعات الأمريكية،ومستشاراً ثقافياًفي السفارة المصرية بواشنطن لعدة سنوات، وبعد عودته لكتب التراث العربي صدرت لهمؤلفات» تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا فيمواجهة العصر»، ووصفته بعض هذه الأقلام بالمراوغة والتناقض الذاتي والهزيمةالفكرية..ومن هؤلاء الباحثين والكتاب د/ فؤاد زكريا،وغالي شكري،ونصر حامد أبوزيد.
وفؤاد زكريا انتدب كأستاذ للفلسفة بجامعة الكويت بعد عودة د/ زكينجيب إلى مصر.بعدما قضى بها خمس سنوات أستاذاً للفلسفة.. وفي مقالة بمجلة العربيالكويتية عام 1988م للدكتور فؤاد زكريا ـ في مشيراً للدكتور زكي نجيب محمود ـ: «فيالماضي كان مجرد الاحتكاك بحضارة الغرب لفترة ما كافياً لأن يحول شخصية نشأت نشأةتقليدية تراثية خالصة مثل رفاعة الطهطاوي في اتجاه الانبهار الشديد بالغرب.. أمااليوم فإن مجموعة من المثقفين العرب البارزين الذين عاشوا في الغرب حياة طويلةواختار بعضهم الاستيطان فيه أو الهجرة الدائمة إليه يقودون -الحملة ضد الثقافةالغربية ويتفق موقعهم- كما يقول- في هذه الناحية اتفاقاً موضوعياً مع موقفالتراثيين الذين رفضوا الغرب منذ البدء والذين لم يعرف معظمهم عن الثقافة الغربيةإلا قشوراً سطحية.. لكن اللافت للنظر بحق هو هذا التحول الحاد الذي جعل أشدالمفكرين العرب تشبعاً بالثقافة الغربية يرى من علامات نضجه مهاجمة تلك الثقافةالتي نشر بها واستمد محتوى تفكيره منها وعاش بين ظهرانيها ردحاً طويلاً منالزمان.. فهؤلاء في تكوينهم الثقافي هم ورثة سلامة موسى وشبلي شميل ولطفي السيدومظهر سعيد ومع ذلك فقد دار بهم الزمن دورة كاملة وأصبحوا يقفون في الطرف المضادبقوة لأسلافهم الروحيين ؟؟» – ويقصد بأسلافهم الروحيين المفكر الكبير عباس العقاد-أيضاً الناقد غالي شكري كان أشد عنفاً وإساءة إلى هذا المفكر العربي الكبير فيمقالته تلك التي كتبها بمجلة الناقد في نوفمبر 1990م بعنوان ( زكي نجيب محمودالعقل المراوغ ) ومن ضمن ما قاله غالي شكري: «كان زكي نجيب محمود أهم وأكفأ صياغةتوفيقية للمشروع الوضعي لأنه أثبت قدرة هائلة على التكيف مع المتغيرات وبرهن علىأن العقل الوضعي يستطيع الإيهام بأنه قد ( تطور) من الانسحاق المطلق أمام العلمالتقني للغرب لدرجة الاعتراف بالعبودية والطغيان في تكويننا منذ نشأتنا على الأرضإلى التباهي بالعروبة والتمايز بالإسلام.. إنه الإيهام لكنه ينسجم مع العقلالمراوغ ؟؟ فالعصر هو (العلوم الطبيعية) والأصالة هي (مرفأ الحياة الآخرة التي هيغاية منشودة خلال كل نشاط تشط به في هذه الحياة الدنيا «. كما الدكتور نصر أبو زيدانتقد أيضا زكي نجيب محمود بسبب اهتمامه بالتراث العربي، وتراجعه عن بعض الرؤىالفلسفية، خاصة الوضعية المنطقية التي كانت محطة اهتمامه الكبير بها لفترة منحباته. وظلت هذه الحملة الشرسة على د/ زكي نجيب محمود،لسنوات متواصلة سواءًبالتصريح أو الرمز – لكنها اشتدت بعد ظهور كتبه الأخيرة التي أظهر اهتمامه بالتراثالعربي الإسلامي وخاصة كتبه: (ثقافتنا في مواجهة العصر)و (تجديد الفكر العربي)(أفكار ومواقف) و(قيم من التراث) و(مجتمع جديد أو الكارثة)..
فما الذي ناقضه الدكتور زكي نجيب محمود في آرائهوأثارت غضب هؤلاء لحد اتهامهم له بالمراوغة والتراجع والهزيمة الفكرية ؟
يقول د/ زكي نجيب محمود فيكتابه (أفكار ومواقف) «مضيت أقلب أوراقي أقرأ سطراً هنا وفقرة هناك وصفحة كاملةحيناً بعد حين، لكني هذه المرة أخذت طريقي مع الأيام متجهاً بها من ماض إلى حاضر،فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة وبالتساؤل يعلو صوتاًليقول: وماذا تكون قد صنعت يا أخانا إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبياً معالأوروبيين؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت من نفسك واحداً يضاف إلى كذامليوناً من أهل أوروبا ؟ نعم، رأيت في أوراقي شكوكاً تتقد جمراتها بين الأسطر كلمااقتربت مع تلك الأوراق من يومي هذا، ووجدتني في موضع ما اتجه إلى نفسي بلائمة كأنيأعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسي في أمسك على رأي، ثم تصبحين في يومك على رأي آخر؟ألم تريدي بالأمس ألا تختلط مصريتك بشيء من عروبة؟ ولكني وجدت تلك النفس المتشككةتسارع إلى الجواب بنفسها فتقول: وماذا في أن ازداد تفكيراً فأتغير ؟ إن إيمانالمرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق ؟ لقد قيل للشاعر الأمريكيالعظيم (وتمان) وكان قد ناقض نفسه: لقد نقضت نفسك في الرأي، وقلت بالأمس ما نسختهاليوم؟ فأجاب: نعم إنني أنقض برأي اليوم رأي الأمس، فماذا في ذلك؟ ومع ذلك فلاأظنني في وقفتي الجديدة قد نقضت وقفتي الأولى، لأنني في الحقيقة لم أنسخها، بلأضفت إليها، فبعد أن كنت مخموراً بشيء اسمه ثقافة الغرب، جاءت صفحتي الجديدةلتقول: ثقافة الغرب مصقولة مع أصول الثقافة العربية، لقد تمنيت لأمتي فيما سبق أنتكون قطعة من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي. وماذا هي أمتياستدلالاً من تاريخها؟ إنها أمة لبثت طول تاريخها يقضي لما يدور حولها، لا لتقفمنه موقف الرفض، بل موقف يأخذ ليقتضي، ولم يكن عجباً أن تأفل شمس أثينا من بعدهاالإسكندرية، وأن يبدأ المد العربي قديماً في المدينة والبصرة والكوفة وبغداد، ثمتنهض القاهرة لتستقطب كل هذا ويمسك بالزمام في دنيا الثقافة بين جنبات الأزهرالشريف».
ويضيف زكي نجيب في فقرة أخرى «إن تاريخنا الثقافي أشبه شيء فيصورته بالعمارة الإسلامية، حين يقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود حتىإذا ما صعد إلى الطابق الثاني، برز بجوانبه، ليجيء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة منالطابق الأدنى وكذلك يحدث في الطابق الثالث حين يرتكز على ما هو أدنى، ثم يبرزبجوانبه ليصبح أرحب.. وهكذا فعلنا في مراحلنا الثقافية، فنحن إذا انخرطنا فيالثقافة العربية، لم نمح جذورنا الماضية، بل بنينا فوقها طابقاً يرتكز على ذلكالماضي ثم يتسع.
لا، ليس المطلوب للعربي إذا أراد الترقي، ألا يكون عربياً، بلالمطلوب أن يكون عربياً جديداً، المطلوب هو أن يظهر فينا (سندباد عصري) ليستأنفسيرة القديم بصورة جديدة، وقل ذلك في الطب والهندسة والفلسفة وفي كل فرع من فروعالأدب والفن والعلم والصناعة.. أخذت أقلب أكداس الورق التي تراكمت عندي حتى ضقتبها، لكنني خرجت من هذا كله بأن رأيت القلم الذي شطح ذات يوم في تطرفه نحو الغرب،قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هي الثقافة التيتصب جديداً في وعاء قديم، أو تصب قديماً في وعاء جديد». (قلم يتوب 171)..
لم يكن هذا الرأي هو الوحيد فيما قاله د/ زكي نجيب محمود فيثقافة الغرب حيث راجع هذا المفكر الكبير آراءه السابقة ونقدها، وأثارت حفيظةالعديد من المنبهرين بفكر الغرب وثقافته.. بل هناك آراء كثيرة ناقدة للغربواعتزازا بالذات يقول د/ زكي:» اجتاحت أوروبا وما تزال تجتاحها موجة تعلى منالجوانب اللامعقولة من الإنسان ولعلها موجة خلقتها هناك ظروف، من أهمها أنهم شبعوا«عقلاً» حتى اتخموا،فللعلوم الطبيعية هناك سلطان أي سلطان! والعلوم كلها عقل صرف،ولو اقتصر أمرها على الطبيعة الجامدة لما ضاقت النفوس، لكت محاولات كثيرة تأخذ فيالانتشار، تبتغي إخضاع الإنسان نفسه لتلك العلوم؟ وقد لا يكون ذلك خطأ لكنه على كلحال مما يضايق الناس في عواطفهم ولهذا كله ثار الثائرون هناك يهتفون بسقوط «الفكر»وبحياة «العاطفة» ـ العاطفة لا معقولة، إذن فعلينا بما يحقق للعاطفة نشوتها،وللفرد وجوده(:) لكنني أعتقد أن جزءاً كبيراً من هذا الاتجاه مرجعه لليأس من العقلأن يحقق لهم السعادة، إنه كلام ما أظنه يقال لو أن حضارتهم في مثل الأمل الذيكانوا يحسونه في عصر التنوير ـ مثلاً ـ أو النصف الثاني من القرن الماضي.. إنالأسباب نفسها التي جعلت فلاسفة الحضارة عندهم ( مثل شبنجلر وتوينبي) يقولون أنحضارة الغرب في طريقها إلى الأفول هي الأسباب نفسها التي تدفع الأدباء إلى الانتكاسإلى كهوف اللامعقول فراراً من العقل، وأعتقد كذلك أننا لسنا في مثل هذه الظروفنفسها فهناك نسبة عكسية بين خيبة لرجائهم وازدهار الرجاء عندنا، لأن ما خيب رجاءهمهو بعينه الذي أفسح أمامنا الأمل.. هم يفقدون ما يملكون ونحن نملك ما كنا نفقده ؟»(دفاع عن المعقول ص331).
والافتراضالعقلاني والرؤية الثاقبة، يقتضيان التقدير والاحترام لمثل هذه المراجعات التيأبداها دكتور/ زكي نجيب محمود، والتي هي بمثابة عودة واعية للذات بعد طول عناءوانكباب على المعارف والعلوم، وهذا حق للشخص في طرح الرؤى الفكرية ويراجعها بحسبما يراه صحيحا، وهذه العودة جاءت بعد سنين طويلة من القراءة الفلسفية والفكرية،ولا تعد هذه المراجعة انتكاساً في الفكر أو تناقضاً أو هزيمة في الرؤية المعرفية..بل على العكس أن الرؤية الجامدة هي الأكثر تخلفاً وارتباكاً في الفكر، دون أنينتقدوا مسارهم، أو أن يجاروا سنن التطور في المراجعة الواعية، كالتي يقوم بهافلاسفة الغرب أنفسهم في نقدهم لعقلانيات عصر الأنوار وما بعدها..لكن ما هي فلسفةالوضعية المنطقية التي آمن بها زكي نجيب محمود، إيماناً قوياً؟ وهل اعتبرها طريقاًللمنهج الصحيح ؟ وهل تراجع عن هذه الفلسفة بعد ؟ وماذا رد على الذين هاجموا هذهالرؤية الفلسفية للوضعية المنطقية،خاصة الأستاذ عباس العقاد بعد صدور كتابه(المنطق الوضعي)
جريدة عمان"ملحق شرفات"