القاهرة 11 فبراير 2016 الساعة 12:25 م
* هل يمكننا توقع ردود أفعال الجمهور العادي علي فيلم مختلف؟ وهل يمكن أن نأخذ الجمهور المصري الذي ألف نوعيات متكررة من الأفلام تعرضها دور العرض السينمائي في مصر وتعرض ليل نار علي قنوات التليفزيون المخصصة للسينما؟
وماذا عن جمهور الصعيد والجنوب كله الذي أصبح يفتقد دور العرض السينمائي وتكاد العروض القادمة إليه تبحث عن منافذ بمشقة كبيرة فلا تجد إلا قصور الثقافة و"قاعات المؤتمرات" أقول هذا بمناسبة ليلة افتتاح مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية والتي أقيمت بقصر ثقافة الأقصر وكان
فيلم الافتتاح عربيا لأول مرة في دورة المهرجان الرابعة بمناسبة دخول السينما العربية إلي أنشطة المهرجان مع السينما الأوروبية..
في القاعة احتشد جمهور غفير من أهل الأقصر إلي جانب ضيوف المهرجان وكان الاختبار الأهم هو استمرار هذا الجمهور في مشاهدة فيلم مختلف يحكي عن نساء فلسطين في سجون إسرائيل.. الفيلم هو "3000 ليلة" ومخرجته مي المصري هي أيضا كاتبته وهذا هو فيلمها الروائي الطويل الأول بعد عدة أفلام قصيرة عرضت كلها في مصر في مهرجان القاهرة والإسماعيلية ومنها فيلم بعنوان "أطفال في المنفي" عن أطفال فلسطين بلدها وقد حصل في
إحدي المرات علي أربع جوائز.
أما هذا الفيلم الجديد فقد كتبته من خلال بحث عن القصص الحقيقية للأطفال الفلسطينيين الذين ولدوا في السجون الإسرائيلية والفتيات الفلسطينيات اللواتي كبرن خلف القضبان ونضجن والنساء الكبيرات في هذه السجون اللواتي قدن معارك الصمود والتمسك بالهوية في أحلك ساعات السجن.. الفيلم يقدم لنا نماذج متعددة من النساء لكنه يغلفها بقصة واحدة منهن أنجبت طفلها وهي محبوسة في أحد السجون الإسرائيلية وهي قصة حقيقية دفعت المخرجة إلي تغيير مسيرتها من مخرجة للأفلام القصيرة إلي الطويلة لتقدم دراما المرأة في ظل سجون الاحتلال وكيف تضع طفلها وهي مقيدة بالسلاسل وتربيه في زنزانة صغيرة رطبة وتتلقي مساعدات الأسيرات الأخريات وتضامنهن حتي تنجو به من رطوبة الزنزانة وقسوة السجانات لينتهي الأمر بانتزاعه منها وفصلها عنه بعد عامين وفقا لقواعد السجون الإسرائيلية ليصبح الخطر أكبر بالنسبة إليها..
فهو في رعاية السجانين.. في الفيلم كل النساء الأسيرات لهن قصصهن الخاصة تجمعها في النهاية القصة الأكبر التي تخص الوطن ورفض الاحتلال وممارساته في مواجهة سجانات لهن وجوه بغيضة لشدة قسوتها وقدرتها علي ممارسة أفعال القهر والعنف المشروعة والقذرة فهناك السجانة التي تمارس العنف القانوني وتلك التي تغتصب المسجونات وغيرها من النماذج التي أضفت علي الفيلم واقعية ومصداقية ووضعت المشاهد له في موقف مختلف خاصة وكلنا يري من خلال قنوات التليفزيون ماذا تفعل إسرائيل إزاء الأراضي الفلسطينية المتبقية وكيف تستولي عليها ببناء المستوطنات وكيف تحاصر المسجد الأقصي. كل هذا نعرفه جيدا ويصلنا من مصادر متعددة ليأتي الفيلم ويقدم لنا الوجه الآخر لهذا الاحتلال البغيض. الأسري من النساء وفق بعض المشاهد القليلة رأينا الأسري الرجال يحتجون علي سوء المعاملة ويواجهون بقمع وقسوة في إطار مكان التصوير الذي كان سجنا حقيقيا ذات يوم شمال العاصة الأردنية عمان عثرت عليه المخرجة وفريق عملها وقام مصمم ديكور الفيلم "حسين بيضون" وفريقه بإعداده وفقا لما كانت عليه السجون الإسرائيلية وهو ما أحال موقع التصوير إلي عبء نفسي علي ممثلات الفيلم وأشعرهن بأنهن في سجن حقيقي غير أن رد الفعل هنا هو الأهم وهو الرسالة التي تصل إلي العالم ويصعب محوها.. وقد بدأت رسالة "3000 ليلة" منذ اختياره للعرض في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي أعرق مهرجانات أوروبا والعالم ثم مهرجان دبي حيث وصل إلي مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية وإلي جمهور الأقصر الذي لم يغادر أحد منه القاعة وظل متفاعلا معه حتي كلمة النهاية ليقف ليحييه بعاصفة من التصفيق. جمهور عادي يمتلك القدرة علي تذوق فن حقيقي ورسالة مؤثرة علي مدي ساعتين إلا الربع تقريبا.. وهذه هي رسالة الثقافة والفن والمهرجانات وهي أن تذهب بالأعمال الكبيرة والمختلفة والراقية إلي جمهور محروم منها برغم انه مؤهل لاستقبالها وتذوقها. انه فيلم عربي ولكننا لا نري الأفلام العربية في دور العرض بمصر كلها وأهمية رؤيتها الآن هو وضع أنفسنا في حالة مقارنة مع غيرنا وهل تطورنا أم بقينا محلك سر وهو ما قدمه هذا المهرجان الذي جمع بين السينما العربية والأوروبية بعد أن كان يجمع بين السينما المصرية والأوروبية فقط. وبعد أن كان يبحث عن أفلام مصرية فيجد عددها القليل مقيدا بشروط التمويل.. لكن هذه الدورة الرابعة التي أضافت إلي السنين الأوروبية المختارة بأفلامها الثمانية في المسابقة..
أربعة أفلام عربية متميزة من لبنان "شيء يوم راح فل" وتونس "علي حلة عيني" وهذا الفيلم الفلسطيني "3000 ليلة" والفيلم المغربي "مسافة ميل في حذائي" والذي حصل علي الجائزة الذهبية وبذلك أصبحت الرسالة واضحة لمن يحب السينما في مصر أننا لا نتقدم. وهو ما عبر عنه المخرج الكبير محمد عبدالعزيز رئيس لجنة التحكيم التي شكلتها نقابة السينمائيين المصريين مع اتحاد الفنانين العرب لتدعم الفيلم العربي في المهرجان.. انه فوجئ بتقدم مستوي السينما العربية علي كافة المستويات.. وهي كلمات مهمة من فنان كبير لابد أن نتوقف عندها وعند ما يضيفه الواقع إلينا في مصر ومهرجاناتها وأحداثها السينمائية التي تكشف عن خلل كبير في دعم الدولة للسينما والأجيال القديمة والجديدة من العاملين بها وعن شبه اختفاء دور العرض من عدد كبير من المحافظات بها.. وأيضا التفاوت في وجهات نظر المسئولين حول قضايا الثقافة والسينما فهناك من يرفضها تماما وهناك من يدرك قيمتها ويسعي لدعمها وهو ما فعله وزير الثقافة الأستاذ حلمي النمنم والعاملون معه ومحافظ الأقصر الدكتور محمد بدر وفريق عمله ووزارة السياحة والآثار والصوت والضوء.. فالأقصر لن تضيء وحدها ولن يري شعبها السينما بدون جهد كل هؤلاء مهما كانت النوايا حسنة.