القاهرة 01 فبراير 2016 الساعة 11:43 ص
تتوخى هذه الإطلالة الوقوف على تفاصيل ومنمنمات العلاقة بين الحرف التقليدية والمعتقدات الشعبية، وانجذاب كل منهما للآخر، وانعكاسهما على بعضهما، حيث أن كثيرا من المنتجات التقليدية تُصنع بدافع إشباع بعض المعتقدات، و سلوكيات بعض الحرفيين التقليديين وتقاليدهم لا يمكن فهمها إلا ضمن كوامن النفس وما يحركها من معتقد. وهذان الملمحان يشكلان معا مسار هذه الإطلالة وإطارها.
المسار الأول:
يستهل الحرفي يومه – غالباً- بقراءة آيات من القرآن الكريم، أو الاستماع إليه عبر الإذاعة أوالمسجلات، وأحيانا يظل المذياع مثبتاً على إذاعة القرآن الكريم طيلة اليوم للاستئناس والتبرك بآيات الله، واللياذ بحراسته وأمنه. إضافة لترديد الأحاديث النبوية، والأدعية الدينية، خصوصا التي تتعلق بالوقاية من أعين الحاسدين وأفعال الساحرين، فيما يعرف شعبيا بالمحصنات. وهو سلوك بقدر ما يعكس إيمان الحرفي بأن العمل شكل من أشكال العبادة، وأن السعي للرزق من موجبات رضا الله تعالى عن العبد ووقوفه إلى جواره؛ فإنه يعكس في الآن ذاته الاعتقاد بالحسد والسحر، وتدخل القوى غير المنظورة في حياة الإنسان.
الأمر ذاته يتكرر في نهاية اليوم؛ حيث يحرص صاحب المحل على قراءة آية الكرسي والمعوذتين أثناء قيامه بغلق محله، وخصوصا لحظة وضع الأقفال في الأبواب، اعتقادا بأن هذا يحمي المحل من السرقة، أو حلول القوى الشريرة به، أوالتعرض للكوارث أثناء فترة الليل، بجانب ترك المذياع بالطبع مفتوحا على محطة القرآن طيلة الليل.
وفيما بين مشهدي الافتتاح والختام، تمتد ممارسات مؤكدة لهذه التصورات.
فبعد أن يفتح الحرفي محله يحرص على رشّ الماء أمامه، لاعتقاده أن الماء يزيح الشياطين عن المكان، تلك المخلوقات النارية التي لا يطفئها سوى الماء.
ثم يقوم بتبخير المحل بنفسه، أو يستعين بالمبخراتى، وهو رجل معروف فى الأسواق وبين المحال التجارية، اعتقادا من الجماعة الشعبية بأن البخور يمنع الشياطين، ويشيع رائحة زكية تجذب الأرواح الطيبة، وتمنح المكان قابلية وارتياح المترددين عليه.
والبخور من العناصر المستخدمة بوفرة فى الصلوات والطقوس الدينية، ويرتبط بالكنائس والمساجد والحضرات الصوفية، واحتفالية سبوع المواليد. كما يستخدم على نطاق واسع لطرد الأرواح الشريرة عن البيوت والوقاية من نفثات الشياطين، حيث تحرص الأسر المصرية على تبخير بيوتها يوم الجمعة، خصوصاً فى الللحظات الفاصلة بين آذان الجمعة وإقامة الصلاة.
ويتصل بتبخير المحال؛ طقس آخر يشي بتأثيرات الجغرافيا في المعتقد، حيث يعتقد «السكندريون» أن مياه البحر تمنع الحسد وتجلب الرزق. فيحرص الناس على رش محالهم صباحاً بماء البحر، والبعض يحرص على تعليق كيس ملآناً بماء البحر أعلى مدخل المحل.
وفي سياق مشابه؛ يحرص كثير من تجار وأصحاب المحال على دفن عملة معدنية تحت عتبات محالهم أثناء الإنشاء، خصوصا العملات الفضية، لاعتقادهم أن الفضة مباركة وتجلب الرزق، وبنفس المنطق يدق البعض عملات معدنية على حواف (البنك) في مقدمة المحل.
ويعلق أغلبية الناس مصحفا داخل جراب من الجلد أعلى مدخل المحل تيمناً به وجلباً للبركة، والبعض يذبحون فدية على عتبة المحل أثناء افتتاحه، استرضاء لقوى خفية يعتقدون أنها تسكن باطن الأرض.
وتنتشر بعض العادات والمعتقدات بين المشتغلين بصناعة المراكب في مدينة السويس، فوفقاً لحسن الإمام فى دراسته عن «الحرف الشعبية فى السويس»: يقوم صاحب المركب الجديد بذبح فدية علي (الترابل) بقصد حمد الله على تمام العمل وجلب الرزق. و(الترابل) هو الدعامة الخشبية الأساسية في أسفل المركب. وهذه الدعامة تقوم بدور آخر في معتقد يتعلق بالزواج والخصوبة، حيث يسود اعتقاد بأن العاقر إذا مرت من تحت ترابل مركب جديد فإنها تحمل وتُنجب، والعانس تتزوج، ويحرص صانع المركب على جعل (الترابل) قريباً من الأرض بما لا يسمح بمرور أحد، لأنه يُظن أن المرأة إذا مرت من تحتها فإن رزق المركب يكون قليلا وحظها يكون عثراً في البحر.
ويحرص أصحاب المراكب الجديدة ــ كذلك ــ على وضع قطعة من الفضة في الجزء الأمامي للمركب، حيث يعتقدون أنها تجلب الرزق.
ويحرص كثيرون من أصحاب المحال على عدم الاستجابة لاستبدال الأوراق النقدية الصحيحة ذات الفئات الكبرى بفئات أقل في بداية يومهم، اعتقادا بأن هذا يجلب الفقر ووقف الحال، ويصل الأمر أحيانا لدى النفوس الخبيثة من أصحاب المحال الذين يتجاورون في نفس المهنة أن يرسلوا بعض الناس لجيرانهم من أصحاب المحال ليستبدلوا هذه الأوراق اعتقادا بأن هذا يقلل من رزق يومه ويوقف حاله، إذ إن (الفكّه) النقود ذات الوحدات الصغيرة، تشير إلى وفرة الرزق وانهماره، أما العملات ذات الفئات الكبيرة فربما تعني تجمد الوضع ومن ثمّ وقف الحال.
ولذلك فإن أول نقود يتقاضاها الحرفي أو صاحب المحل تحظى بمكانة متميزة، حيث يحرص البعض على التيمن واستلامها باليد اليمنى، وتقبيلها، ومس الجبين بها ثلاث مرات، وكذا تقبيل باطن وظهر الكف ثلاث مرات حمداً لله. بل ويحرص البعض على وضع هذه النقود في جيب خاص ولايقربها طيلة اليوم، كأنها تميمة.
العمل والطهارة:
ويحرص بعض الحرفيين على مباشرة عمله وهو متوضئ، تكريسا لمفهوم الطهارة، وتجليا للاعتقاد بأنها تضئ الوجه والنفس فتجعلها مشرقة ومقبلة على العمل ويكتب لها التوفيق في العمل، وترتبط بعض الحرف بمفاهيم مقدسة تفرض عليها هذا المسلك، مثل «القفَّاصين» الذين يتعاملون مع أجزاء مختلفة من النخلة، وفي وعيهم قدسية للشجر الذي آوت إليه «السيدة العذراء» حين آتاها المخاض، ولحديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ): «أكرموا عمتكم النخلة». وكذلك «الفخرانية» الذين تلتبس مهنتهم بفكرة الخلق. و«الخيَّامية» الذين يستندون إلى مزاولة سيدنا «إدريس» مهنة «الحياكة»، فهو أول من خاط، وخط. ولذلك يحيط الخطاطين مهنتهم (الخط العربي) بقدسية بالغة بوصفه «فناً مقدساً»، وكثير منهم لا يشرعون في مزاولة أعمالهم إلا «على وضوء»، خاصة إذا كانوا بإزاء كتابة آيات قرآنية أو أحاديث نبوية.
ونلاحظ أن الحرف التقليدية يجمعها نظام خاص بالشعائر والطقوس الدينية تعكس مضامينها هذه الممارسات أو تلك، بشكل يوحي بمتانة الوشائج بين الدين والعمل، أو انعكاس الثقافة الدينية على نظام العمل وتأثيرها عليه. حيث يصبح العمل نفسه إشباعاً لاحتياجات العامل الوجدانية وتطلعاته الروحية، أو فيما يمكن أن يوصف بتجادل المادي والروحي.
وتعكس مضامين الزخارف الإسلامية الهندسية فلسفة الفنان وموقفه العقيدى، فهي ليست مجرد حِليَات شكلانية لحشو الفراغات، بل تعكس رؤية فلسفية يمكن تبيُنها فى موتيفات، «العاشق والمعشوق»، أو «الجزء والكل»، أو «الأصل والفروع». كما كان لمنع الدين الإسلامى التشخيص والتجسيد تأثير كبير فى لجوء الفنان المسلم إلى توظيف عناصر الطبيعة فى إبداعاته وتعظيم استخدامها وتجويدها، وتقديم نماذج فريدة فى إطارها. ورغم ما تحويه بعض هذه الاعتقادات من نواح فلسفية ودينية عميقة، إلا أن جانبها الآخر يسهم في استكانة عقلية الحرفي وخفوت قدرته على التطوير والإضافة ويعيق تقدمه، حيث ينفذ أثره السلبى في همته ونشاطه أحياناً، وهو ما يفسر لنا ــ ربما ــ ثبات آليات العمل اليدوي ونمطية أشكاله وتناقلها أو توارثها دون إضافة، وتأبِّيها على التحديث، فالاعتقاد بأن للرزق مسببات أخرى غير محسوسة وقوى غير منظورة، خارجة عن إرادة الإنسان، تسم ممارسات الحرفي بالتواكل والدعة، وتجعله منجذبا بقوة لمحاولة استرضاء هذه العناصر أو استمالتها إلى جانبه بمجرد تبخير المكان أو رش الماء أو تعليق كيس ماء مالح في مدخل المحل أو دفن عملة فضية تحت عتبة المحل، أو في مقدمة المركب.
المسار الثانى:
يلاحظ أن كثيرا من المنتجات التقليدية لا تنتج إلا لإشباع بعض المعتقدات، وهي ممارسات تعكس جدلية العلاقة بين المادي واللامادي وتغذيتهما لبعضهما البعض، وتعبير كل منهما عن الآخر.
فالمجتمع الشعبي مثلا، ينظر إلى الحداد بنوع من الاحترام والتقدير، لأنه يزاول مهنة مارسها نبي الله «داود». وشغل الحديد جانبً مهما من تصورات الناس وأفكارهم وارتبط ببعض معتقداتهم، وهذا الارتباط قدَّم لنا بعض المنتجات التي لا تقوم بوظيفة سوى تغذية هذا المعتقد أو ذاك، خصوصا ما يتعلق بالإنجاب والإخصاب ووفرة النسل، فالحداد يصنع للراغبات في الإنجاب أو علاج أطفالهن «الماسكة» و «الحزاقة»، ويصنعها غالباً بلا مقابل مادي، إسهاما منه في تحقيق السعادة لإنسان، ورغبة في الفوز برضا الرحمن. كما يصنع خُلخَالاً لمولود السيدة التي يموت أولادها عقب الولادة، ويوضع فى قدم المولود وقت ولادته، أو في السبوع، ويستمر الخلخال في قدم الطفل إلى أن يبدأ المشي، ويتم خلعه ليستخدم مع المولود التالي، وقد يتم صنع خُلخال لكل مولود من هذه السيدة على حدة. ويصحب صناعة ذلك الخلخال طقس مفاده استجداء أجر الحداد من الناس.
ويصنعون «المسمار الغشيم» للرجل العقيم. ويسمى المسمار هكذا لأنه بدون رأس، وأحيانا يتم دفنه مع كسرة خبز وقليل من الملح في عتبة المنزل الجديد، ليقي أهل المنزل وخصوصاً الأطفال الصغار من العين الشريرة، فإذا وقع أحدهم علي عتبة المنزل لا يمسه ضرر، والشائع أن عتبات المنازل مأوى للأرواح الشريرة.
و«الفُخاري» الأمين يخشى ترك إحدى مشغولاته الطينية دون حرقها فى الفرن حتى لا يتم استغلالها فى الكتابة عليها وهى طرية بغرض السحر الضار، موقنا بأن هذا لو حدث سيحل عليه الخراب.
وبالقدر ذاته؛ تُكِّن المجتمعات الشعبية للنخلة الكثير من الاحترام والتقديس، وتتعامل مع جريد النخل بوصفه رمزا للخير والنماء والبركة، وبخاصة الأخضر منه. بل إن كل عنصر من عناصر النخلة لا يخلو من نفع؛ فمن طرحها يأكل الإنسان، ومن مخلفاتها (الجريد والخوص والليف) تصنع الأدوات المنزلية المختلفة، وحين تجتث النخلة يستفاد من جذعها الجاف في تسقيف البيوت وإقامتها كأعمدة، وحتى نواة البلح يستفاد بها كوقود.ومازال بعض الناس في قرى مصرية يحرصون على وضع الجريد اِلأخضر على قبر المتوفي طلباً للرحمة، كما تُصنع (مقشة البلح) المصنوعة من عراجين النخيل بعد إفراغ التمر منها، لإبعاد «العِرَسْ» عن البيوت ولحماية الطيور. إضافة لاستخدام الجريد الأخضر في تزيين أقواس الأفراح المعروفة شعبياً بالكوشة، حتى تكون الحياة الزوجية ميمونة وسعيدة.
وفي قرى المنيا تلجأ السيدات «المشاهرات» أو «المكبوسات» لصناعة تميمة من الجريد لصناعة يطلق عليها «المشاهرة» اعتقاداً فى قدرتها على شفائهن مما أصابهن أو بهدف الوقاية من الأضرار المحتملة فى حالات الزواج والوضع والاختتان.
من خلال هذه الإطلالة، يلاحظ أن الناس لا يلجأون إلا إلى أصحاب الحرف التي تكتسب أعمالهم «دلالة الخلق» أو تشكيل كتلة من الفراغ، كالفخاري، أو مهن زاولها أنبياء الله مثل «الحياكة والحدادة»، أو مهن تتصل بعناصر مقدسة كالنخلة، ما يشي بأن نظرة المجتمع الشعبي إلى هؤلاء الحرفيين تتسم بالتعظيم واحترام صنع أياديهم والاعتقاد في قدرتها على اختراق العالم غير المنظور والتأثير فيه. ومن جانب ثان يكتسب الحرفي مكانة اجتماعية راقية من خلال ما يقوم به من أعمال تصل بين المادي واللامادي، أوالظاهر والباطن
الأهرام