القاهرة 28 سبتمبر 2015 الساعة 02:02 م
قد أكون مبالغا في تصوري .. أن المشكلة التي تواجه البعض حتى الآن ـ داخل مصر وخارجها ـ أن الرجل الكبير ( ناصر الأول ) لا يعرف الموت ، ولا يزال حيا بما أنجز ، وبما أعطى ، وحتى بما ترك بعد رحيله من فراغ سياسي يعصف بأحوال الأمة .
لا أحد ينكر أن الرجل الكبير، وخلال تجربة تاريخية عظيمة ومتفردة في زمنها وتاريخها، كان معرضا للصواب والخطأ، النصر والهزيمة ، وأن معيار الحكم على الرجل لابد أن يكون بحسابات وماذا حدث بعد الهزيمة ؟ وماذا حدث تجاه الأخطاء في التنفيذ والتطبيق ؟ .
معيار الحكم على الرجل الكبير يجب أن يرتكز أولا على ثلاثة محاور، وبدونها يصبح الكلام مجرد هواية تجريح وتطاول على الرمز في حياة الأمم .. وهذه المحاور الثلاثة هي : الزمن، والفعل، والإنجاز .
• الزمن : بتوقيت المرحلة التاريخية وأوضاعها وظروفها وأحداثها .
• والفعل : بمفهوم الحركة التاريخية لدور مصر والمتغيرات التي هبت على الساحة العربية .
• والإنجاز : بحقائق المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية داخل مصر.
ثم نقيس بحجم هذه التجربة حجم الأخطاء والسلبيات ..
علينا أن نسترجع بالبحث والرصد، وبموضوعية تامة، سنوات طوال من عمر التاريخ وقبل عام 1952 حتى ندرك أن الرجل الكبير كان أولا "حلم أمة " ـ أي مجموع في حاجة إليه وتنتظر قدومه ـ ثم استوعب الرجل حلم الأمة ، ثم بالفعل جسد إرادة هذه الأمة وحرك هممها .. وبالطبع كانت الأمة العربية ولاتزال أكثر وفاء وتقديرا لدور الرجل، ثم كل يوم تكتشف أن هذا الوفاء والتقدير يكتسب المزيد من الأسباب والمسببات .
وقد يفسر هذه الحالة الفريدة في تاريخ الأمة : أننا وجدنا أنفسنا بعد الرحيل نفك رموز وألغاز كلمة " لو " وليس غريبا أن يكون عمر ( لو ) من عمر الرحيل !؟ لو كان عبد الناصر بيننا .. فهل كان في حدود الممكن والمتاح أن تجرى أحداث الأمة مربوطة بالعجز وتساق بالتبعية؟! لو كان عبد الناصر بيننا .. هل كان ممكنا أن تتحول العروبة إلى لعنة ، والوحدة العربية إلى شعار مثير للحساسية ويستخدم كثيرا دليل إدانة ! وأن القول، مثلا، بوحدة المصير، مجرد محاولة جشعة لربط مصير الأغنياء بمصير أهل الحاجة !
ولا أعتقد أن هناك من ينكر، ولو في لحظة صدق مع النفس .. ولو في لحظة مباغتة لاسترجاع زمن الحدث الذي مضى .. إن الرجل الكبير وهو في رحاب الله ـ لايزال يمثل رمزا لشموخ وكبرياء هذه الأمة، بعد أن أعاد تقويم مسيرة التاريخ العربي بعد سنوات طوال من الضياع والاحتلال، وكانت الأمة ملقاة على "رصيف" الاهتمام العالمي باستثناء متابعة القوى الاستعمارية لمناطق نفوذها باعتبارها مغنما وإرثا استعماريا متوارثا ! كانت الصورة مجسدة بشكل أو بآخر، في كلمات الدكتور عصام حبش، أطال الله عمره ــ طبيب أردني فلسطيني الأصل، درس في ألمانيا مع بداية الخمسينيات ــ كان الزملاء في الكلية ومنهم الأصدقاء يقولون جادين أو مازحين " فين ذيلك يا عربي " وبعد 1954 كانوا يشيرون إلينا قائلين " ناصر .. ناصر ".
ومع ذكرى رحيل الرجل الكبير، نسترجع "مرارة" شواهد أحوال الأمة، التي كانت يوما قريبا "الوطن الأكبر" ثم ترهلت ومرضت وانكسرت، وهزمت نفسها قبل أن تفرض عليها الوصاية الأمريكية "سرا وعلانية" .. بعد 45 عاما من رحيل الرجل الكبير، لا تزال الأمة تلعق جراحها، وتستجدي رضا القوى الكبرى، وتقدم فروض الطاعة حتى لو كانت في صورة مشاركة في تنفيذ مخططات الغرب على شعوبها ومقدراتها !!
ولذلك ليس غريبا أن ترى مراكز الدراسات الأمريكية والأوروبية ـ وفي صيغة تساؤل ـ أن هناك شيئا غامضا في مسيرة عبد الناصر يدفع الشباب العربي لحمل صورته حتى الآن ، كما شهدت ميادين الحرية في العواصم العربية التي انتفضت بثوراتها ضد الأنظمة الحاكمة، أو كلما خرجوا في مظاهرة تدافع عن المسجد الأقصى، أو تعلن رفضها لما يجري في اليمن وسوريا والعراق .. وفيما أظن أن التفسير الصحيح لهذه الحالة قد ورد في تقرير بصحيفة الأيكونوميست البريطانية ، في محاولة لتشخيص الأوضاع القلقة التي تواجهها بلداننا العربية، ووجدت أن أحد التفسيرات المقنعة : أن العربافتقدوا القائد الملهم .
وقالت الصحيفة في تقرير لها تحت عنوان " العرب بين الفتنة والفوضى والبحر العميق " إن العرب يفتقدون اليوم إلى ( مشروع الملهم ) أو الزعيم الملهم ، وأن النظم القائمة في معظم البلدان العربية تحكم بموجب التقاليد أو من خلال التحركات العسكرية المدعومة، ولذلك فإن الشعوب العربية تفضل الشيطان الذي تعرفه بدلا من الفوضى والفتنة التي تنتج عن التغيير !!
وأتصور أن التقرير يقترب كثيرا من حدود أزمة الوضع العربي الراهن ، ومن صورة الحركة في المنطقة العربية، وهي صورة غريبة، وقد تكون أقرب إلى العبثية واللا معقول، وقد قيل حولها الكثير والكثير دون فائدة، وكلما طال التفكير فيما حدث ويحدث كلما زاد العجب !! و"الإيكونوميست " ترى أن النقطة الجوهرية في محنة العالم العربي هي غياب القائد أو الزعيم .. وهي رؤية تستحق التأمل ، أو الوقوف عندها طويلا ـ وإن لم تكن غائبة عن كثيرين داخل ساحتنا العربية أو خارجها ـ وبمقدار ما تشير إليه رؤية الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان" بأن العالم العربي مختلف الآن عما كان عليه سنة 1970 لقد اختفى " ناصر " الذي كان في القاهرة يأمر الآخرين في العالم العربي أن يجيئوا إليه ، فلا يكون أمامهم خيار غير أن يجيئوا " !! ولكن السلطة هنا لم تكن سلطة أوامر كما يعتقد " فريد مان " ولكنها سلطة تحققت بالقبول الطوعي من الآخرين .. وهي سلطة التأثير النافذ للزعامة .
وعموما .. ما كان لم يعد حيث كان ، ولم يعد كما كان !!
وشواهد الأحوال تقول إن الأمة العربية تفتقد لدور رجل تاريخي يعطيها يقينا متجددا بأنها موجودة !