القاهرة 05 اغسطس 2015 الساعة 11:28 م
.قراءة فى مائة عمل .......( الحلقة الثانية )
......عماد إبراهيم .....( رائعة التبريزى )..زيت على توال - مقاس ( 94*68 سم ) ... انتاج 2015
........
يأتى عمل الفنان / عماد إبراهيم (التبريزى ) واحدا من الأعمال التى أعتبرها طرحا فى غاية النضج لواحد من فنانى جيل التسعينيات . يتفوق من خلاله / عماد إبراهيم على نفسه ويعكس مدى تطور تجربته فى مجال التصوير . بل ويبشر بما هو آت فى منتجه من تلك الجرأة والعنفوان فى التعامل مع تقنيته من خلال مدد مفهومه . ذلك التعامل الذى يرقى لمستوى الكبار من حيث تلك الدراية بما يفعل . والتمكن من تجسيد ما ينتج عن تفاعله بمثير يسبب نضح موهبته وما تفرزه من منتج. ويتضح من خلاله مدى الربط بين ما يصقل ثقافته وما تنتجه موهبته . بل وأخذه فى قفزة نحو تلك المستويات الإستثنائة الموهوبة . والتى تتسم بمنتج ينم عن نضج التجربة .ذلك النضج الذى لا تعرف الرتابة والملل طريقهما إلى إفساد طزاجته . كما أن مثل ذلك العمل يعكس ثراء ما لصنفه من المصورين المصريين من منتج يعبر عن قيم حقيقية فى منتج التصوير المصرى المعاصر .والذى أعتقد أنه سيشهد طفرة بوجود أمثاله من أبناء جيله ومعاصريه وإن كانوا قلة .
وقد جاء العمل بمثابة إستراحة المحارب فى مشوار تجربته الذى إقترب من ربع قرن . كما أنه أتى عقب تجربته ا?خيرة والتى تقترب فى مفهومها منه . وهى تجربة ( المولد ) والتى أتى عرضها بمثابة وجهة نظر أقرب ما تكون إلى التسجيل والتوثيق لمثل تلك الممارسات والطقوس الصوفية التى تميز مجتمعنا المصرى .
ولكن أكثر ما جذبنى نحو ذلك العمل هو ما لمسته فيه من ذلك ا?ختلاف فى أسلوب التعامل مع التقنية وحلول التجسيد التى شعرت معها بأننى أقف أمام عمل يحمل معايير ذات فخامة من نوع مختلف . وكذلك أحسست بأننى أمام إحدى أنشودات الحرية التى كانت عليها ملكات / عماد إبراهيم أثناء تنفيذ العمل . والتى تركت آثارها على ملامس سطح العمل . وقد ساهمت تلك اللوحة كثيرا فى تحريك مخيلتى تجاه تلك الشخصية ا?سطورية . والتى نجح من خلالها / عماد إبراهيم فى أن يجسد لنا من خلال ما وقع فى عقله من إنعكاس لسيرة الرجل وشخصيته وما كانت عليه هيئته . فكثيرا ما ألهبت سيرة الرجل ملكات شعراء أو أدباء أومؤرخين أو أصحاب سرد السيرة وغيرهم . إلا أننى لم أجد من صورها بمثل تلك التعبيرية العميقة والتى تختزل كل تلك الروايات التى نسجت حول ( التبريزى ) المعلم وا?ستاذ للقطب المولاوى ( جلال الدين الرومى ) . فصار المتلقى لعمل / عماد إبراهيم فى حالة لقاء مع همزة وصله بين ما قرأه ونما إلى محصلة علمه عن ذلك الدرويش الهائم . وما بين مشهد / عماد إبراهيم المجسد له . حيث أجد تلك المحاولة الناجحة لتجسيد صورة الرجل فى مشهد درامى عميق التعبير. يختزل تلك الرحلة الطويلة التى بدأت مع ميلاد التبريزى عام 1185م فى تبريز .
والتبريزى لمن لا يعرفه : هو ذلك الصبى أبن الإمام علاء الدين أحد أئمة تبريز من أعمال بلاد فارس ( إيران ) . ذلك الصبى الذى فتحت له بعض المغاليق . فأدعى بأنه رأى الله ورأى الملائكة . تلك الرؤى التى لم تصادف التصديق لدى من حوله بما فيهم أباه ا?مام / علاء الدين ..وكان يظن بأن الجميع قد رأوا ما رأى . ولكن مع تكذيبهم جميعا أدرك فى تلك السن المبكرة والتى لا تتعدى فى بعض الروايات الإحدى عشرة سنة . أدرك أنهم لم يروا ما رأه . فخرج من بيته ذات يوم مبتدءا رحلة الهيام على وجهه فى البلاد فزار ما زار منها . وكان يتكسب قوته من تفسير الأحلام وقراءة الكفوف . وقضى أيام حياته فى ترحال دائم فى رحلة بحثه عن ضالته المنشودة . متبعا صوتا يهمس فى آذان قلبه . مؤتنسا بما يراه من ملكوت ربه دون غيره من العوام .زاهدا دنياه ومتطلعا إلى ربه مالك الملك والملكوت ..وفى رحلة بحثه نضجت كلماته وأتسعت مداركه وباتت غايته يقصر عن فهمها العامة . إلى أن كان ما كان من لقاء نديم روحه إمام ( قونية ) ومفتى ديارها وعالم علمائها وقاضى قضاتها . وكان يلقب ( مولانا جلال الدين الرومى ) . وصار ما بين النديمان ما صار من قصة الإقتران وصحبة ا?خلاء ومن علاقة وثيقة ذات إتساق . ومن إجتماع ذا أنس دون إهتراء . فأسر (التبريزى ) لنديمه ( الرومى ) بخلاصة ما حصله فى الدروب . وأوقفه على أبواب العشق التى أقتصرت على الصفوة من أصحاب الألباب . وحجبت عن الغافلين من العباد . فأتمنه على رسائل عشقه الأربعين والتى تحوى خارطة الطريق إلى إدراك وجود الله . ونقل إليه ما فى جراب علمه من علوم الماورائيات . فكان ما كان من خلوتهم من إيغار صدر أتباع الرومى ومريديه وتلامذته . الذين أجمعوا على قتل ذلك الدرويش شمس . سارق بهجتهم والحائل بينهم وبين حبرهم ( مولانا جلال الدين الرومى ) . رغبة منهم لإسترداد شيخهم الذى هام فى ملازمة التبريزى ونتج عنها ذلك ا?نقطاع عنهم . وتعددت الأخبار والأقاويل . فمنها ما يجزم بأنهم قتلوا ( شمس التبريزى ) بقونية . ومنها ما يقول بأن ( التبريزى ) قد أدرك غايتهم ومكرهم فى قتله . فواصل الهيام على وجهه وأختفى دون أثر يشفى الغلة عن ما آل إليه مصيره . ومنها ما يقول بأنه حط الرحال فى مدينة ( خوى ) ودفن بها ويقف شاهدا يحمل أسمه ليومنا هذا بتلك المدينة .
.....وبالعودة إلى عمل / عماد إبراهيم والذى يبدو أنه جاء معبرا عن رواية إختفائه . ومجسدا لحظة رحيله بعد أن أطمئن على ترك أمانته لدى ( مولانا جلال ) المؤتمن على كنز ( التبريزى ) الذى جمعه خلال سنوات ترحاله وهيامه فى ملكوت ربه والذى تمثل فى رسائله عن مفهوم عشق الخالق . وكيفية إدراك وجود الله . والتى أحصها ( مولانا جلال الدين الرومى ) فوصلت إلى ا?ربعين رسالة فى صنف العشق الأكبر . تلك الرواية التى فضلها كثيرا من عشاق الصوفية وجمهورها العريض . إذ إعتبروا ( التبريزى ) واحدا من هؤلاء الذين طمحت نفوسهم إلى الإستقواء بأن تتوحد فى تلك الهالة النورانية النابعة من ذات الله والتى تقع فيما بين الله وبين عباده الذين أصطفى . والتى تلاشى فيها ( التبريزى ) . وذاب من حلاوة ما ذاق من عشق . وقد عبر عنها الرائع / عماد إبراهيم بتلك الخلفية البديعة والرائعة والتى أتت فيروزية اللون محملة بدرجة بين الزرقة والإخضرار فى لون هو اقرب لذلك الفلسبار الأخضر الشفاف . ( الفلسبار هو تلك المادة التى تمنح حجر الجرانيت النارى ميزة اللون ) . وأجد أن / عماد إبراهيم يدفع فى عمله المتلقى دفعا نحو العودة إلى سيرة ( التبريزى ) ليكمل إستمتاعه بمشهد لوحته بعمق معرفته بذلك القطب الصوفى الشهير . وقد يعاود من يعرفه قراءة ما كان من سيرة الرجل وما خلفه من رسائل نقلت لنا على لسان الرومى فى قواعد العشق الأربعين .
لقد نجح / عماد إبراهيم فى ذلك العمل بإيجاد أيقونة من أيقونات التصوير . والتى تحمل مفهوما يجذب ذلك النوع من الجمهور الذى يجد فى تناول التراث وأحداث ما كان من التاريخ والسيرة وما كان من أخبار مشاهير أهل الزمان . نوعا من اللذة التى تحصل لهؤلاء الذين يشركون قلوبهم فى تحصيل المعرفة
مع عقولهم .
وبا?قتراب أكثر من العمل فنجد أن تقنية / عماد إبراهيم لأسلوب العمل با?لوان الزيتية قد فاق كل تلك المستويات التى قد وصل إليها سابقا . فقد أتى بجملته التقنية فى غاية البلاغة . وأقتنصها من أقصر المسافات . فضربات فرشاته صارت تحمل عرضا يتعدى البوصتان . وقد ننخدع للوهلة ا?ولى فنشعر بعشوائية فى ضرباته . إلا أن ا?قتراب من العمل . يجعلنا ندرك مدى نظامية تلك العشوائية . ومدى تأثير حسه فيها . ذلك الحس الذى كان بمثابة المعيار الدقيق لمناطق الدسامة والخفة . ويتبقى لنا فى ذلك العمل ثلاثة نقاط هم فى غاية ا?همية .
........الأولى : وهو لون البشرة . والذى من المفترض أن يأتى محاكيا لبشرة رجل من اهل فارس . يتميز ببشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة . إلا أن العمل أظهر بشرة ( التبريزى ) بلون أسمر ينم عن حالة من ا?جهاد . فربما أراد /عماد أبراهيم أن يحدث من خلال ذلك اللون القاتم المجهد إستعارته المكنية على غرار أهل النصوص وا?شعار وا?دب . فى أن يصف ما مر به الرجل من أصناف الأحوال التى عليها أهل الدنيا من كبد ومكابدة وعناء وما قابله من صدود وأحقاد وكراهية وصفات ومواصفات تعج بها نفوس البشر . وربما قصد بها إقتراب الأجل بعد إيداع الأمانة لدى الرومى . وإنسحاب الحياة من جسده بعد تلك الرحلة المضنية . إلا أنه حافظ بإستماتة على لون فمه الوردى الذى ينم عن حالة من حالات الحياة . فقد أراد أن يبرز أن سر الرجل يكمن فى لسانه القابع فى فمه . والذى ينطق بالحياة . وترفض روحه مغادرته لحلاوة ما ينطق به من تعاليم وإرشادات تنير الطريق وتتحدث عن أوصاف الطريق إلى ذات الله . لقد عزف / عماد إبراهيم من خلال حلوله للون البشرة . مقطوعة لونية على غرار تلك المعزوفات المنفردة والتى ينتزع شجنها تلك الآهات من مستمعيها .
.........الثانية :وهى التى تتمثل فى ذلك اللون البرتقالى الذى يصبغ رداء الرجل كما يتكرر فى غطاء رأسه والذى أتى ليحدث ذلك التوازن اللونى فى جسد الرجل ومجمل مشهد العمل . وكأنه أراد أن يقول بان قطبى الإرادة المحركيين لفعل البشر وهما العقل والقلب يتدثران بنفس ذلك الرداء . وكأنه يصف بأن ذلك الرداء البرتقالى اللون هو مفهوم الرجل وقد سيطر على مضغتيه وهما القلب والعقل فباتت شهواته ورغباته وآفات البشر فيه تحمل عقلانية المدرك . وأن منطقية التفكير لديه باتت تحمل رهافة الحس ورقة القلب . وبات حله للون موفقا بصورة خادمة لجملة مفهومه عن الرجل . وكذلك لجملته اللونية والتشكيلية فى موازنة بصرية غاية فى التوفيق .
....... أما الثالثة : فهى تلك الحالة التى تحمل ذلك الربط بين (التبريزى ) كشخصية مجسدة . وبين مفهومه وغايته متمثلة فى تلك الهالة النوارانية التى مثلتها خلفية المشهد والعمل والتى أتت بلون الفلسبار التركوازى والذى يحمل مزيجا بين الزرقة وا?خضرار . وتأتى تلك المساحات فى جسد الرجل والتى تظهر بعضا من مراحل التلاشى والذوبان لجسد (التبريزى ) فى فكر مفهومه متمثلا فى خلفيته النوارانية وأكثر ما جاء من تعبير ظاهر فى تلك النقطة هو ما صوره / عماد إبراهيم . من تلاشى واضح فى جانب وجهة التبريزى الأيمن وما بدأ فى التلاشى فى بقية أجزاء جسده .
وتبقى تلك النظرة الضاربة فى عمق التعبيرية هى حسن الختام فى قراءة هذا العمل البديع والنادر الحس والمصادفة والذى يضع / عماد إبراهيم نفسه فى تحد صريح فى كل عمل قادم له . تلك النظرة التى لخصت مجمل جملة (التبريزى ) . وهو أن الله موجود فينا . وأن صدقنا مع أنفسنا فى القول والفعل والعمل هو ما يجعلنا ندرك الطريق إليه . ويفتح لنا المغاليق من أمور قد نسلم بإستحالة عبورنا من خلالها . ولا يتبقى لى سوى أن أتوجه لهذا الفنان الكبير بخالص التقدير والإمتنان على ما أمتعنا به من حالة صدق نادرة ومستوى إبداع يدفعه إلى مصاف الكبار . ويبقى عمل / عماد إبراهيم ( التبريزى ) نموذجا معبرا عن تجربته الجديدة والتى يعكف عليها حاليا . محدثا ثورة على نفسه ومتخذا خطوة جديدة فى مشواره الإبداعى فى تجربة أعدها فى حالة نضج وطزاجة . ويبقى ( التبريزى ) واحدا من الأعمال الجيدة التى أردت مشاركتكم فى مشاهدتها واتمنى أن أكون قد وفقت فى محاولتى لقرائتها
.......ياسر جاد - أغسطس 2015 .