القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 10:21 م
كرسى فى ميكروباص
1 على مسافة امتداد الرؤية فى الصباح الباكر يظهر ميكروباص يتهادى على الطريق، فتبدأ مسابقة الركض اليومى والصراع الدامى من أجل الوصول إلى كرسى فيه قبل الآخرين، لا نعرف إن كان السائق يتوقف بسيارته شفقة بالمهرولين أم أن الزحام يجبره على ذلك، وفى الوقت الذى ينفتح فيه الباب ليقفز منه عشرة أو عشرون، يكون الذين كانوا بالداخل قد حبسوا ولا يستطيعون النزول، فسرعان ما يقفز من النوافذ آخرون ليحتلوا الكراسى، ويبدأ الشجار بين من يريدون الصعود ومن يريدون النزول، ثم من صعدوا ومن قفزوا وحجزوا الكراسى لأصدقائهم، وترتفع درجة حرارة الصباح إلى حد السباب والعراك، ولا ينتهى الأمر إلا بأن يعلن السائق أنه لن يعمل، حينها يتحول الموج من الجمهور وبعضه إلى السائق كى يقنعوه بضرورة الخروج والعمل، ومع تزايد الإقناع له يأخذ فى إملاء شروطه "العربية أربعات"، أى إن كل ثلاثة عليهم أن يخلقوا مساحة لراكب رابع بجوارهم، بغض النظر عن كونهم شبابا أو عجائز أو سيدات، بغض النظر عن النضال والقتال والذين سقطوا أو الذين نجوا، بالطبع تستجيب الأغلبية وترفض الأقلية، ونكاية فى مشاعر هذه الأقلية يصب يجىء الشرط الثانى "الأجرة زيادة"، ينضم إلى الأقلية أقلية أخرى تجعل السائق يهدد بالعودة إلى الموقف وعدم الخروج، حينها يبدأ الصراع بين الأغلبية والأقلية ملفين الأجواء ومدافعين عن السائق وما يعانيه من المرور أو الزحام، فيدفع الجميع فى صمت وهو يبتهل إلى الله أن ينسف عجلات الميكروباص أو يسحب المرور رخص السائق. 2 لا يختلف المشهد فى العمل كثيرًا عما حدث فى الميكروباص، فالجميع يهرول على الإسفلت كشذرات انفلتت من أسطوانة كهربائية، وحين يصل إلى دفتر الحضور يشعر أنه أنجز ما عليه من مهام، فيعود ليلحق بمن سبقوه على المقهى أو عربة الفول، فهذه هى الجنة المبتغاة، وما يدور عليها من صراع لا يقل عن الصراع على كرسى فى ميكروباص، وحين تنتهى حصة التموين العظمى يبدأ الصعود إلى العمل. لنجد كل إدارة لا تزيد عن شقة سبعين مترًا، بها نحو ثلاثين موظفًا ، ونحو خمسة عشر كرسيًا، وعشرة مكاتب، ويجيئها من الجمهور والأصدقاء والأقارب العاملين بالهيئة نحو المئات، وكل يسعى لحجز كرسى، فإن لم يستطع فسطح المكتب يتسع للجميع، ومع الهمس والضحك واجترار ما قيل فى برامج التوك شو وما حدث من تسريبات وما لدى كل منهم من انحيازات وقناعات، تصبح الإدارة بمثابة عربة ميكروباص، المدهش أن العمل يكون آخر ما ينجزه المواطن الذى ناضل على جثة غيره فى الطريق إليه، وحين يحدث تحكمه بالطبع ثقافة وعشوائية وقوة الغابة وكأننا فى بلد بحجم ميكروباص. 3 من أجل هذا قررنا ألا نرتدى هذه المرة القفاز الحريرى ونحن نناقش واحدًا من أهم ملافاتنا الثقافية، وهو ثقافتنا العامة كمواطنين، وما يملأها من قيم تزداد سلبية يومًا بعد يوم، ليس سعيًا لإدانة أحد أو التقليل من شأن أو دور أحد فى مجتمع باحث عن النهوض السريع، ولكن لتقليل كم المهدر من الطاقة فى حياتنا وفكرنا وإنسانيتنا، موقنين أنه قد آن لهذه المرحلة أن تنتهى من حياتنا، آن للعشوائية والصخب ومنطق القوة والابتزاز والمؤامرة والفوز ولو بكرسى فى ميكروباص أن تنتهى. لأن الذين علموا العالم الفلسفة والطب والفلك والفنون والآداب ما عاد لأحفادهم أن يعيشوا الحياة وكأنهم يتصارعون على كرسى فى ميكروباص
|