القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 10:08 م
? ?ولد الكاتب والناقد الانجليزي جون بيرجر عام? ?1926،? ?وعاش حياة طويلة يحرص علي تأمل العالم،? ?واختار مكاناً? ?قصياً? ?فوق جبال الألب،? ?لا لكي يستمتع بالعزلة،? ?بل ليقف علي مسافة كافية من العالم،? ?تمكنه من فهمه?. ?ظل يكتب لعقود طويلة في السياسة والتاريخ والفن التشكيلي،? ?والنقد،? ?والمقال والسيرة الذاتية،? ?والرواية?. ?وتمزج أعماله بين عدة أشكال أدبية ومناطق معرفية معاً?. ?ومن أعماله? "?هنا حيث نلتقي?"?،? "?طرق الرؤية?"?،? "?طريقة أخري للحكي?"?،? ?ورواية? "?جي?" ?التي حصلت علي جائزة بوكر عام? ?1972
? ?بدأ حياته الفنية في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين،? ?بالاشتراك في عدة معارض فنية في لندن،? ?ثم اتجه للنقد الفني في الخمسينيات،? ?وأصدر روايته الأولي عام? ?1958? ?بعنوان? "?رسام من عصرنا?"?،? ?تحكي قصة حقيقية عن اختفاء رسام مجري?.?
? ?تأثر بيرجر بحياة وأعمال الفيلسوف? "?بنديكت سبينوزا?" ?الذي كان يعمل في صناعة العدسات في هولندا في القرن الثامن عشر،? ?وتناولها في رواية بعنوان? "?اسكتشات بينتو?" ?عام ?1102. ?يعشق الفن التشكيلي ويعتبر نفسه رساماً? ?أكثر منه كاتباً،? ?ويهوي سباقات الدراجات البخارية?. ?وهذه ترجمة لحوار معه في مدينة باريس?.?
نقرأ? ?في سيرتك الذاتية أنك تعيش في مجتمع ريفي في فرنسا،? ?أين تعيش علي وجه التحديد؟
أعيش في قرية صغيرة اسمها? "?كوينسي?" ?علي جبال الألب الفرنسية،? ?علي مسافة خمسين كيلو متراً? ?من? "?مونت بلانك?". ?لا يوجد في هذه القرية سوي مائة شخص فقط،? ?وأنا أعيش هناك منذ أربعة وثلاثين عاماً?. ?أعيش في منزل قروي قديم?. ?جميع المنازل هناك لها نفس الطراز،? ?لقد كانت منازل فلاحين فقراء في الماضي?.?
هل كانت تلك القرية مكاناً? ?مثالياً? ?بالنسبة لك كي تكتب،? ?وتراقب العالم من مسافة بعيدة؟
لا أفكر في الأمر علي هذا النحو،? ?لأن هذا يوحي بالانسحاب إلي داخل صومعة،? ?وهو أمر? ?غير صحيح?. ?في المقام الأول،? ?الحياة الاجتماعية تحضر بقوة في هذه القرية الصغيرة أكثر من المدينة،? ?وهي لا تتسم بالهدوء والسكينة كما تظن?. ?أظن أن سبب بقائي هناك كل هذه الفترة هو أنني تعلمت كثيراً?. ?لقد هربت من المدرسة عندما كنتُ? ?في السادسة عشرة من عمري،? ?وعندما وصلت إلي هنا،? ?شعرت أنني التحقت بالجامعة?. ?لقد تعلمت من الفلاحين كبار السن؛ الذين مات أغلبهم الآن?. ?لقد تعلمتُ? ?منهم الإصرار علي المُحاولة وهي السمة التي تجعل الفلاح يتحمل شظف العيش،? ?في كل مكان في العالم،? ?وليس هنا فحسب?. ?وما كتبت عنهم يمكن أن ينطبق علي الفلاحين في تركيا والمكسيك وكوريا?.?
حدثني عن شغفك بـ سبينوزا،? ?الذي اعتمدت علي تأملاته في الأخلاق والميتافيزيقا في كتاباتك؟
يرجع اهتمامي به إلي زمن بعيد?. ?حين كنتُ? ?شاباً،? ?قرأت الكثير من الكتب،? ?رغم أنني لم ألتحق بالجامعة?. ?وتصادف أن قرأت أعماله في وقت مُبكر من حياتي?. ?لقد لاحظت أن كتاباته تسحرني،? ?وتجعلني أفهم الحياة وأدرك طبيعتها?. ?ويمكنني تبسيط الأمر بالقول إن هذا السحر،? ?أو السر،? ?له علاقة برفضه الفصل بين الفيزيائي والروحاني،? ?وبين الجسد والروح?. ?ويرجع هذا لأنه يعتقد أنهما كلٌ? ?لا يتجزأ،? ?وأن الجسد ليس آلة كما يعتقد الديكارتيون?.?
تحرص علي إضافة الرسوم ومقولات سبينوزا إلي كتبك،? ?هل كنت تهوي الرسم قبل أن تصبح كاتباً؟
أجل،? ?لقد كنت رساماً? ?حتي بداية الثلاثينيات من عمري،? ?واعتبر نفسي رساما بالأساس?. ?لقد مارست الرسم وقمت بتدريسه في إحدي المدارس لفترة من الزمن أيضاً?.?
هناك من يقول إن سر اهتمامك بـ سبينوزا هو ما قيل عن اهتمامه بالفن التشكيلي،? ?وأنه رسم العديد من اللوحات التي فُقدت?. ?هل هناك كتاب آخرون تري فيهم الاهتمام بالكتابة والرسم معاً؟
لم أفكر في هذا الأمر كثيرا في الحقيقة?. ?هناك بالطبع العديد من الكتاب الذين يمتلكون موهبة الرسم مثل جونتر جراس?. ?وبالطبع هناك رسامون يكتبون علي نحو رائع مثل فان جوخ في خطاباته،? ?إلا أن من شغفت بهم كانوا في الحقيقة شعراء مثل نيرودا،? ?وناظم حكمت،? ?وويليام باتلر ييتس?.?
تتسم كتبك بالمزج بين الأنواع الأدبية والفنية،? ?فهي خليط من القصة القصيرة والمقال،? ?وشكل حميم من أشكال النقد الفني?.?
الحق أقول لك إنني لا أعتبر نفسي ناقداً? ?فنياً?. ?أعني أنني كتبت الكثير عن الفن،? ?خصوصاً? ?الفنون التشكيلية،? ?ولكن مقاربتي كانت?.. ?لا أستطيع صياغة الفكرة?. ?أقصد?.. ?لم يكن شاغلي الأساسي هو تحديد ما إذا كان العمل جيداً? ?أم رديئاً؛ ولكن أن أنظر وأحاول اكتشاف القصة التي ينطوي عليها العمل?. ?هناك علاقة قوية،? ?علي الدوام،? ?بين الفن التشكيلي وبين مجريات العالم علي تنوعها في الوقت الراهن،? ?ولها علاقة كبيرة بالواقع السياسي الذي نحياه?. ?ورغم أن كتابي? "?اسكتشات بينتو?" ?يتناول الرسومات والزهور،? ?إلا أنه كتاب سياسي في المقام الأول?. ?إنه مُحاولة للنظر إلي عالمنا المُعاصر،? ?ومحاولة فهم ما يعيش الناس به من يأس وأمل علي حد سواء?. ?لقد كان الكتاب محاولة شخصية وصغيرة من جانبي لفهم العالم?.?
تحتشد كتبك بالعديد من الشخصيات التاريخية،? ?وشخصيات من حياتك،? ?سواء كانوا إخوتك أو أصدقاءك،? ?هل اتخذت هذا القرار بوعي أثناء الكتابة؟
أعتقد أنه خيار أكثر منه قرارا،? ?إلا أنني لا أجلس وأقول لنفسي أود أن أكتب عن هذا الشخص أو ذاك?. ?يخطر أحدهم ببالي،? ?وأقول لنفسي لماذا لا أكتب عنه?. ?نعتقد أحياناً? ?أن الكُتاب يتخذون الكثير من القرارات،? ?إلا أن بعض ما يحدث أثناء الكتابة يأتي في سياق طبيعي?. ?القرارات الحقيقية التي يتخذها الكاتب تكون وقت المراجعة والتصحيح والحذف?.?
هناك فكرة تظهر كثيراً? ?في أعمالك،? ?وهي العلاقة بين الفن والزمن?.?
أجل،? ?هناك الكثير من الكتب والأعمال الفنية التي تشيخ ويصيبها القدم،? ?بينما هناك أعمال أخري تظل مُعاصرة علي الدوام?.. ?قد تتغير نظرة الناس لها،? ?أو يفهمها الجمهور بطريقة مُختلفة،? ?إلا أنها لا تظل حاضرة أبداً?. ?وهناك مثال قوي عن لوحتين من مصر؛ تم رسمهما في القرن الثاني الميلادي،? ?وتضمنتهما روايتي? "?من إيه إلي زد?". ?حين تنظر إلي اللوحتين،? ?تعتقد أنهما مُعاصرتان تماماً?. ?ينتابك شعور أن الرجل والمرأة المرسومان في اللوحتين يعيشان بيننا الآن،? ?إلا أنهما كانا يعيشان منذ ألفي عام أو أكثر?.?
هناك موضوع آخر في أعمالك علي قدر كبير من الأهمية،? ?هو تحول أوروبا الحديثة،? ?وهو ما تناولته في ثلاثيتك الروائية عن الفلاحين? "?من أجل كدحهم?"?،? ?وتناولته أيضاً? ?في مجموعة مقالات حديثة بعنوان? "?أمسك بكل شيء يا عزيزي?".?
لا تقتصر عملية التحول علي أوروبا فقط،? ?بل تشمل العالم أجمع?. ?وإلي جانب كافة أنواع التغيرات التاريخية التي وقعت،? ?هناك تغير آخر في طريقة تخيلنا للمستقبل،? ?ويُخيل لي عندما أكتب ولا يقتصر الأمر عليّ? ?وحدي،? ?بل يشاركني فيه العديد من الكتاب?- ?أننا نكتب من أجل المُستقبل?. ?ليس هذا من باب التفاخر،? ?أو أن ما نكتبه سوف يحظي بالخلود،? ?ولكن من منطلق أننا نخاطب المُستقبل،? ?ونحاول تناول سؤال الأمل الإنساني?.?
تحتاج تجربة ركوب دراجة بخارية ذوهي متكررة في كتاباتك?- ?إلي تركيز شديد،? ?ووعي يُلخص مفهومك عن? "?طرق رؤية?" ?العالم?.?
أجل،? ?هذا صحيح،? ?ودقيق?. ?هناك أمران يتعلقان بركوب دراجة بخارية يمكن أن يُفسرا شغفي بها?. ?الأول هو العلاقة الوثيقة بين اتخاذ القرار وبين عواقبه?. ?ولأنك ضعيف،? ?فأنت تحتاج إلي ميزة قوة المُلاحظة?. ?ولا تقتصر قوة الملاحظة علي ما يحدث الآن فقط،? ?بل وتمتد إلي ما يمكن أن يحدث في اللحظة التالية?. ?معظم من يركبون الدراجات البخارية لديهم قوة ملاحظة تفوق قادة السيارات بعشر مرات،? ?لأن حياتهم تعتمد علي قدرتهم علي الملاحظة?. ?يجب أن تري العالم جيداً،? ?لكي تنجو?.?