القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 02:26 م
لأول مرة بالعربية قصص غير منشورة
ل فرانز كافكا
ترجمة?: ?يوسف نبيل
أحدث الكاتب التشيكي فرانز كافكا تحولًا كبيرًا في عالم السرد، ويعتبر عمله "المسخ" واحدًا من أهم الأعمال في القرن العشرين. هنا نقدم قصصًا جديدة له لم يسبق نشرها بالعربية.
الرحيل
أمرت بأن يأتوا بجوادي من الاسطبل، ولم يفهم الخادم أوامري. لذا فقد ذهبت إلي الاسطبل بنفسي وأسرجت الجواد وامتطيته. سمعت صوت بوق من مسافة، فسألت الخادم عن معني هذا الصوت. لم يعرف شيئًا ولم يسمع شيئًا. وعند البوابة استوقفني وسألني: "إلي أين يذهب سيدي؟" فأجبته: "لا أعلم... فقط بعيدًا عن هنا.. بعيدًا عن هنا، ولا شيء آخر، فهذه هي الطريقة الوحيدة لأصل إلي هدفي."
فسأل:
إذن تعرف هدفك؟
فأجبته:
نعم.. لقد قلت لك بعيدًا عن هنا... هذا هو هدفي.
عن الحكايات الرمزية
يشتكي الكثيرون من أن كلمات الحكمة تقريبًا ما تكون حكايات رمزية وليس لها استخدام في الحياة اليومية، وهي الحياة الوحيدة التي لدينا. فعندما يقول الحكيم: "اذهب إلي هناك" فهو لا يقصد أنه يجب علينا أن نذهب إلي مكان حقيقي ما نستطيع الذهاب إليه علي أي حال إن كان الأمر يستحق، ولكنه يعني أمرًا مجازيًا أبعد من ذلك... أمرًا لا نعرفه.. أمرًا لا يمكنه أن يشير إليه بشكل أوضح من ذلك، ولذا لا يمكنه مساعدتنا هنا حيال الأمر بأي طريقة أكثر من ذلك. لقد تم إعداد كل تلك الحكايات الرمزية لتوضيح أن الأمر المبهم مبهم، ونحن نعلم ذلك بالفعل، أما عن الاهتمامات التي يتوجب علينا أن نكافح من أجلها كل يوم فهي أمر آخر.
وقد قال أحدهم ذات مرة عن ذلك: "لمَ تلك المقاومة؟ إن اتبعتم فقط تلك الحكايات الرمزية ستصبحون أنتم حكايات رمزية كذلك، وبذلك تتخلصون من كل الاهتمامات اليومية."
فرد أحدهم وقال:
أراهن أن ذلك ما هو إلا حكاية رمزية أخري.
فقال الأول:
لقد ربحت.
وقال رجل آخر:
ولكن فقط في الحكاية الرمزية.
فقال الأول:
لا.. لقد ربحت في الواقع، أما في الحكاية الرمزية فقد خسرت.
القمة
اعتاد أحد الفلاسفة أن يتسكع في أي مكان يلعب فيه الأطفال، وكلما شاهد طفلا يحمل غطاًء كان ينتظر. وبمجرد أن يبدأ الغطاء في الدوران يتعقبه الفيلسوف ويحاول أن يمسك به. ولا تبدو عليه إمارات القلق حينما يعترض الأطفال بانزعاج ويحاولون إبعاده عن لعبتهم، فطالما كان قادرًا علي الإمساك بالغطاء، وبينما يواصل الدوران يشعر بالسعادة، ولكن للحظة فقط، ثم يلقي به إلي الأرض ويذهب إلي حاله. وهذا لأنه كان يؤمن بأن تفهم التفاصيل - علي سبيل المثال غطاء يدور - كان كافيًا ليفهم كل شيء آخر. ولهذا السبب لم يزعج نفسه بالمشاكل العظيمة، فقد بدا له أن هذا الأمر لا يساعد علي التدبير. بمجرد ما يتم تفهم التفاصيل الصغيرة، يمكن تفهم كل شيء، ولهذا انشغل بالغطاء الدائر فقط. وكلما تبدأ الإعدادات من أجل الإلقاء بالغطاء يأمل دومًا أنه سينجح تلك المرة. وبمجرد أن يتم إلقاء الغطاء يبدأ في الركض منقطع الأنفاس خلفه ويتحول الأمل إلي يقين. ولكن عندما يمسك بقطعة الخشب السخيفة بين يده يشعر بالغثيان. صرخة الأطفال التي لم يسمعها حتي اليوم والتي اخترقت أذنه فجأة الآن طاردته بعيدًا وترنح كالغطاء إثر سوط أخرق.
الاختبار
أنا خادم، ولكني لا أجد ما أعمله. أنا جبان ولا أدفع نفسي إلي المقدمة حتي أنني في الواقع لا أدفع نفسي إلي الخط مع الآخرين، ولكن هذا مجرد سبب واحد من أسباب بطالتي، وربما من المحتمل أيضًا أنه لا شيء أستطيع فعله حيال بطالتي، وعلي أي الحال فالأمر الرئيسي هنا هو أنني لم أستدع لأخدم، واستدعوا آخرين ليقوموا بذلك العمل مع أنهم لم يحاولوا بقدر ما حاولت، وفي الواقع ربما لم يشعروا أصلا بالرغبة في أن يخدموا في حين أني أحيانًا قد شعرت بذلك بقوة.
لذلك أنا أتمدد علي فراش من القش في حجرة الخدم أحدق في عوارض السقف.. أنام وأستيقظ لأنام مرة أخري فورًا. ومن حين لآخر أذهب إلي الحانة لأشرب بيرة قوية وأحيانًا ما أسكب الكأس متقززًا، وأحيانًا أخري ما أشربه. أحب الجلوس هناك لأنني أستطيع أن أنظر عبر نوافذ منزلنا من خلف النافذة المغلقة الصغيرة دون احتمال أن يتم اكتشافي. ولا يستطيع المرء أن يري كثيرًا من خلف تلك النافذة، فللعلم فقط وحدها نوافذ الممر تطل علي الشارع، وعلاوة علي ذلك ليس حتي نوافذ تلك الممرات التي تؤدي إلي مقر أصحاب عملي. ولكن من المحتمل أيضًا أني علي خطأ، فقد قال أحدهم ذات مرة ذلك دون أن أسأله، ويؤكد ذلك أيضًا الانطباع العام عن واجهة ذلك الفندق. ونادرًا ما تُفتح النوافذ فحسب، وعندما يحدث ذلك يفتحها خادم ربما يتكيء قليلا علي الدرابزين لينظر إلي الأسفل لوهلة. والحق أني لا أعرف أيا من هؤلاء الخدم شخصياً، فهم يخدمون دائمًا في الأعلي وينامون في مكان آخر وليس في غرفتي.
وحدث مرة أن وصلت إلي الحانة وكان هناك زبون يجلس عند نقطة خدمتي، ولم أجرؤ حتي علي النظر إليه مقربًا، ومع ذلك فقد استدعاني وقد ثبت في النهاية أنه هو أيضًا خادم قد شاهدته من قبل في مكان ما من قبل دون أن أتحدث معه.
لماذا تود أن تهرب؟ اجلس واطلب مشروبًا. سوف أدفع.
فجلست، وسألني عن العديد من الأشياء ولكني لم أستطع أن أجيب، ففي الواقع لم أفهم حتي أسئلته، فقلت له:
ربما تشعر بالأسف الآن لأنك قمت بدعوتي، ولذلك فمن الأفضل أن أذهب.
وكنت علي وشك النهوض ولكنه مد يده عبر المنضدة ودفعني لأجلس وقال:
انتظر... هذا كان مجرد اختبار، ومن لم يجب عن الأسئلة وحده من نجح فيه.
الرفقة
نحن خمسة أصدقاء... يومًا ما خرجنا من منزلنا واحدًا تلو الآخر. الأول وقف قرب البوابة، ثم أتي الثاني أو بالأحري انزلق صوب البوابة ككرة من الزئبق ذ ووقف بالقرب من الأول، ثم أتي الثالث ومن بعده الرابع فالخامس. في النهاية اصطففنا جميعًا في صف واحد، وبدأ الناس في ملاحظتنا وأشاروا إلينا وقالوا: "لقد خرج هؤلاء الخمسة للتو من ذلك المنزل". ومنذ ذلك الوقت عشنا معًا، وربما كان بالإمكان أن تستمر تلك الحياة هادئة وسعيدة لو لم يظل السادس ويحاول باستمرار أن يتدخل. إنه لم يتسبب في أي أذي لنا، ولكنه يضايقنا، وهذا ضرر كاف. لماذا يتطفل علينا بينما شخص غير مرغوب فيه؟ نحن لا نعرفه ولا نوده أن يصاحبنا. بالطبع لم نكن نحن الخمسة نعرف بعضنا في البداية أيضًا، ولا حتي يمكن القول إننا نعرف بعضنا الآن، ولكن ما يمكن قبوله لنا نحن الخمسة غير ممكن ولا يمكن قبوله للسادس. علي أي حال نحن خمسة ولا نود أن نصبح ستة. ما الهدف بالضبط من وجودنا المستمر معًا علي أي حال؟ إنه أمر عبثي لنا نحن الخمسة أيضًا، ولكن نحن هنا معًا وسنظل معًا فلا نود مع ذلك أي تغيير في تلك المجموعة، وذلك بسبب خبراتنا السابقة. ولكن كيف يمكن لأحدنا أن يوضح كل ذلك للسادس؟ التفسيرات المطولة ستصبح بالأحري أمرًا مساعدًا لقبوله في دائرتنا، ولذلك نفضّل ألا نفسر له شيئًا ولا أن نقبله. ولن يغيّر استياءه من الأمر شيئًا، فسوف ندفعه بمرافقنا ولكن مهما ندفعه بعيدًا يعود إلينا مرة أخري.
بروميثيوس
هناك أربعة أساطير بشأن بروميثيوس:
طبقًا للأولي، فقد تقيد بصخرة علي جبال القوقاز لقاء خيانته بإفشاء أسرار الآلهة للبشر، ومن ثم أرسلت الآلهة نسورًا تتغذي علي كبده الذي كان يتجدد بشكل مستمر.
وطبقًا للثانية، فقد نخزوا بروميثيوس بألم المناقير التي تمزقه، ومن ثم ضغط نفسه أكثر فأكثر في الصخرة، حتي أصبح هو والصخرة واحدًا.
وطبقًا للثالثة، فقد نسوا خيانته علي مر آلاف السنين، ونسته الآلهة والنسور، ونسي نفسه أيضًا.
وطبقًا للرابعة، فإن كل إنسان يعيش ضجرًا من الأمور العبثية، وتعيش الآلهة ضجرة، والنسور أيضًا ويُشفي الجرح بسأم.
ثم تبقت هناك تلك الكتلة الصخرية المتعذر تفسيرها، رغم أن الأسطورة حاولت تفسير ما لا يمكن تفسيره، فقد خرجت من قلب حقيقة كان عليها أن تنتهي بدورها بشكل لا يمكن تفسيره.
مخطوط قديم
يبدو الأمر كما لو أننا أهملنا الكثير في نظام وطني الدفاعي. لم نشغل أنفسنا به وانصرفنا إلي عملنا اليومي، ولكن تلك الأمور التي بدأت تحدث مؤخرًا أقلقتنا.
لديَّ ورشة أحذية في الميدان الواقع قبل قصر الإمبراطور. وبالكاد أغلقت مصراعي الباب مع وميض الفجر الأول حين شاهدت جنودًا مسلحين عند كل
شوارع الميدان، ولكن لم يكن هؤلاء الجنود جنودنا، بل بدوا وكأنهم رحالة من الشمال. وبطريقة ما - غامضة بالنسبة لي - اندفعوا إلي اليمين صوب العاصمة، مع أن الطريق من الحدود طويل. علي أي حال ها هم الآن، ويبدو أن كل صباح هناك المزيد منهم.
وكعادتهم، كانوا يخيمون تحت السماء العارية، فقد كانوا يبغضون المنازل المغلقة. يشغلون أنفسهم بسن السيوف وبري الأسهم وركوب الخيل. وقد حولوا هذا الميدان الهاديء - والذي كان يُنظف بتدقيقذ حرفيًا إلي اسطبل. وبالفعل فإننا من وقت لآخر نركض خارجين من محلاتنا محاولين تنظيف الميدان علي الأقل من أسوأ قذاراته، ولكن ذلك أصبح يحدث أقل فأقل، فذلك العمل أصبح عبثيًا وبالإضافة لذلك فهو يعرضنا لخطر الوقوع تحت حوافر الجياد المتوحشة أو التعرض لضربات السياط.
الحوار مع أولئك الرحالة مستحيل. إنهم لا يفهمون لغتنا، وبالكاد لديهم لغة خاصة يتحدثون هم أنفسهم بها. إنهم يتعاملون معًا تمامًا كما يفعل غراب الزيتون (طائر أوروبي أسود) دائمًا ما نسمع صرخاتهم. لا يمكنهم فهم طريقة عيشنا ومؤسساتنا، ولا حتي يرغبون في فهمها. كثيرًا ما يكشرون بوجوههم ومن ثم يظهر بياض أعينهم ويرغو زبد أبيض علي شفاههم، ولكنهم لا يقصدون شيئًا بذلك ولا حتي أي نوع من التهديد، بل يفعلون ذلك لأن من طبيعتهم أن يفعلوا ذلك فحسب. يقومون باختطاف شيئًا ما منك، وببساطة يجب عليك أن تبتعد وتترك هذا الشيء لهم.
وقد استولوا علي أشياء كثيرة جيدة من متجري، ولكن لا يمكنني أن أشكو عندما أري كيف يعاني جزار الشارع علي سبيل المثال، فبمجرد أن يحضر أي لحوم إلي متجره، يستولي عليها الرحالة ويقومون بافتراسها فورًا. وحتي جيادهم تلتهم اللحوم، حتي أن الجواد وفارسه ينامان بجواربعضهما البعض ويصدران صوت الشخير معًا، فيبدأ أحدهما تلو الآخر. أما الجزار فشديد التوتر، لا يستطيع إيقاف تسليم بضائعه من اللحم. نحن نتفهم ذلك ونساهم في إمداده بالمال حتي يستطيع الاستمرار. فإن لم يعد هناك لحم للرحالة، فمن يعلم ماذا سوف يفعلون وقتها؟ من يعلم ماذا يمكن أن يفكروا في عمله بالرغم من حصولهم علي اللحم كل يوم؟
ومنذ مدة ليست طويلة، فكر الجزار في أن يريح نفسه من عملية الذبح، ومن ثم فقد أحضر في أحد الأيام ثورًا حيًا. ولكنه لن يجرؤ أبدًا علي فعل ذلك مجددًا. لقد ظللت لساعة كاملة منبطحًا علي الأرض في نهاية الورشة دافنًا رأسي بين الملابس والسجاجيد والوسائد، محاولا إبعاد نفسي عن سماع خوار الثور الذي قفز عليه الرحالة من كل جانب يمزقون لحمه الحي بأسنانهم. ولم أخاطر بالخروج إلا بعد مدة طويلة. كانوا ممددين وسط أشلاء البهيمة كالسكاري قرب برميل الخمر.
وكانت هذه هي المناسبة التي تخيلت فيها أني شاهدت الإمبراطور نفسه عند نافذة القصر. عادة لم يكن الإمبراطور يدخل إلي تلك الغرف الخارجية، بل يقضي وقته كله في الحديقة الموجودة بالداخل، ولكنه كان واقفًا فقط في تلك المناسبة - أو هكذا بدا الأمر لي -عند إحدي النوافذ يحني رأسه وينظر ما يحدث بالقرب من مكان إقامته.
سألنا جميعًا أنفسنا: ماذا سوف يحدث؟ إلي متي يمكننا أن نحتمل ذلك العذاب؟ لقد جلب قصر الإمبراطور الرحالة إلي هنا لكنه لا يدري كيف يبعدهم مرة أخري. البوابات تظل مغلقة، والحراس الذين اعتادوا علي السير خارجًا يظلون بالقرب من قضبان النوافذ. الأمر متروك لنا نحن الحرفيين والتجار لننقذ وطننا، ولكننا لسنا مؤهلين لمهمة مثل تلك المهمة، ولم ندَّع حتي أننا قادرون علي ذلك. هذا نوع ما من سوء تفاهم سوف ينتهي أمره بتدميرنا.
جاري
يقع عبء عملي بالكامل علي كاهلي. لدي موظفتان تعملان علي الآلة الكاتبة ودفتر الحسابات بحجرة الاستقبال، ولدي غرفتي الخاصة مجهزة بمكتب وخزينة وطاولة للمشاورات ومقعد مريح وتليفون... هذا ما لدي من أدوات للعمل. وهكذا يمكن بسهولة السيطرة علي العمل وتوجيهه. أنا صغير إلي حد ما، والكثير من العمل يقع علي كاهلي... ولكني لا أشتكي.. لا أشتكي.
في بداية العام انتهز شاب الفرصة وقام باستئجار الشقة المجاورة لي والأراضي التابعة لها، والتي ترددت من حماقتي في استئجارها حتي فات الأوان. تلك الشقة تتكون أيضًا من غرفة انتظار وغرفة أخري بالإضافة لمطبخ، وكنت بالطبع سأجد استخدامًا ما للغرفتين، فموظفتاي تشعران بالإرهاق من فرط العمل إلي حد ما، ولكن أي فائدة للمطبخ؟ كان ذلك الأمر التافه وحده مسؤولا عن إهداري فرصة استئجار تلك الشقة. والآن ذلك الشاب يجلس هناك. إنه يدعي هاراس. ليست لدي أي فكرة عما يفعله هناك. ثمة لافتة علي الباب مكتوب عليها "مكتب هاراس". وقد تحريت عن الأمر وتوصلت إلي أن لديه عملا يشبه عملي. إنه شاب نشيط قد يكون له مستقبل. ومع ذلك لا يستطيع المرء أن يتمادي في نصحه، لأنه ظاهريًا ليس لديه أصول تجارية قوية. هذا ما اعتاد الناس علي قوله والذين لا يعرفون حقيقة الأمر.
أحيانًا ما ألتقي بـ هاراس علي السلم. ودائمًا ما يبدو أنه في عجلة غير عادية. لم تواتني الفرصة لأمعن النظر جيدًا فيه، فهو دائمًا ما يحمل مفتاح مكتبه عندما يمر بي، وفي لحظة يفتح الباب، وينسل للداخل مثل ذيل الفأر ليتركني واقفًا مرة أخري أمام تلك اللافتة: "مكتب هاراس" والتي قرأتها مرات
كثيرة.
تخون الحوائط القديمة الضعيفة الرجل البارع الجدير بالاحترام، ولكنها تحجب عن الأنظار الإنسان غير الشريف. هاتفي مثبت علي الحائط الذي يفصلني عن جاري، وإن كان معلقًا علي الحائط المواجه فمن الممكن سماع كل شيء في الحجرة المجاورة. وقد اعتدت أن أحجم عن ذكر أسماء عملائي عندما أتحدث معهم علي الهاتف، ولكن بالطبع لا يحتاج الأمر مهارة كبيرة لاكتشاف شخصية المتحدث من مسار الكلام. وأحيانًا أبذل كل ما بوسعي لئلا يكتشف ذلك والسماعة علي أذني، ولكني لا أتمالك نفسي عن إفشاء السر.
وبسبب كل ذلك، أصبحت غير واثق من قراراتي الخاصة بعملي، وأصبح صوتي متوترًا. ماذا يفعل هاراس عندما أتحدث في الهاتف؟ وإن أردت المبالغة - وهذا ما يجب علي المرء أن يفعله ليجعل الأمور واضحة أمامه - فربما أؤكد أن هاراس ليس بحاجة إلي هاتف، فإنه يستخدم هاتفي.. يكفي أن يدفع بأريكته صوب الحائط ويستمع إلي مكالماتي عندما يتوجب علي في نفس الوقت أن أهرع للهاتف لأستمع إلي كل طلبات عملائي وأصل إلي قرارات صعبة وشجاعة وأجري عمليات حسابية طويلة. ولكن أسوأ ما في الأمر أنه طوال ذلك الوقت أمنح هاراس معلومات قيمة رغمًا عني عبر الحائط.
ربما حتي لا ينتظر نهاية الحديث، ولكنه ينهض في وقت يصبح فيه الأمر واضحًا بالنسبة له، ليطير إلي المدينة بسرعته المعتادة، وقبل أن أنهي المكالمة يكون قد وصل إلي هدفه متآمرًا علي.