القاهرة 02 يوليو 2015 الساعة 01:52 م
يبدو الكسل ظاهرة اجتماعية ممتدة فى المجتمع المصرى طيلة أكثر من أربعة عقود ولايزال، وهو ما يتجلى فى الفكر الكسول، والسلوك الكسول، وأشكال متعددة من اللامبالاة بالزمن ومعناه واقتصادياته والتباساته وفوضاه! هل تحول الكسل إلى ثقافة؟
عديد الأسباب التى يمكن أن تفسر ظاهرة الكسل «الفردي» أو الجماعى داخل أجهزة الدولة عموماً، ولاسيما جهازها البيروقراطى المتضخم الذى يتسم بضعف الكفاءة، ومحدودية الإنجاز وغياب الاحترافية والمهنية فى أداء العمل والترهل الشائع!
بعض الكسل مرجعه يعود إلى نمط من الاتكالية والقدرية الذى يشيع بين بعض المصريين كقيمة سلبية ناتجة عن إدراك شائع لعلاقة بعضهم بالطبيعة والماورائيات ونسبة كل الظواهر الاجتماعية لها، ومن ثم عدم الإيمان بالإرادة الإنسانية وقدرتها على التغيير والبناء ومواجهة التحديات المختلفة التى تواجه «الفرد»، والجماعة، ورخاوة استجاباتهم الخلاقة لها. ثمة حالة من الاستلاب للإرادة «الفردية» والجماعية والإحساس باللاجدوى والوهن الشديد إزاء عالم يتغير بسرعة شديدة وكثافة غير مألوفة.
يبدو أن بعض المصريين ورث قيمة سلبية حول علاقتهم بالدولة التى تحولت لديهم إلى كائن شبه أسطورى تعقد عليه كل المطالب الاجتماعية والسياسية فى توفير العمل، والأكل والشرب، والأمن، والسكن... إلخ! الدولة فى هذا النمط الإدراكى لدى بعضهم أصبحت هى المسئول الأول عنهم، ومن ثم يعيد هذا الإدراك معنى الدولة البطريركية التى تلعب دور الأب الكبير ومسئولياته وفق ما سار طيلة مراحل تاريخية طويلة فى الثقافة البطريركية/ الأبوية. من هنا استبدل بعض المصريين مسئولية الدولة عن حياتهم بديلاً عن مفهوم المسئولية الفردية والجماعية عن أنفسهم. يعود هذا الفهم الشائع إلى أن الفرد كفاعل اجتماعى لم يولد تماماً فى الثقافة المصرية، ومن ثم غابت فكرة المسئولية الفردية المرتبطة بالفاعل الاجتماعى الحر الإرادة والمشيئة والقادر على اتخاذ قراراته حول حياته ومصيره، وقبول الثمن الاجتماعى لهذه الاختيارات.
إن الطبيعة المركزية/ النهرية التاريخية للدولة، وهرمية جهازها البيروقراطى الضخم أسهمت فى فرض هذا النمط من ثقافة اللامسئولية والتهرب من مسئولية اتخاذ القرار.
صحيح أن ثمة نمواً فى عمليات الفردنة وميلاد الفرد عموماً من خلال استخدام تقنيات الثورة الرقمية فى عديد مستوياتها ولغتها ووسائطها، مع التحول إلى المشروع الرأسمالي، إلا أن بعضا من تراكمات الثقافة البطريركية والأبوية التقليدية والمحدثة لا تزال آثارها فاعلة لدى بعض الشرائح الاجتماعية المعسورة من المصريين، بل بعض الميسورين لأنها نتاج لمؤسسات التنشئة الاجتماعية، وكذلك لمواريث ظاهرة موت السياسة، وهيمنة الثقافة التسلطية السياسية والدينية.
إن ضعف ثقافة العمل أسهمت فى ظاهرة الكسل الجماعى والفردى والاتكالية والترهل، لتضخم الجهاز البيروقراطى غير الكفء أكثر من سبعة ملايين موظف غالبهم غير ملائم تعاملوا مع العمل والأجر وكأنه إعانة اجتماعية من الدولة لهم، وليس مقابل أداء العمل اليومى كماً ونوعاً. يعود ذلك إلى ضعف التكوين الاحترافى للموظفين العموميين فى غالبيتهم الساحقة، وبعضه الآخر لشيوع ظواهر الرشوة والاختلاس للمال العام، والفساد الإدارى فى جميع أشكاله دونما ردع ومحاسبة وإعمال صارم لأحكام القانون.
من هنا شاع الانفصال بين العمل والأجر واعتبر الأخير بمنزلة إعانة أو إعالة من الدولة للعمال والموظفين!
مفهوم العمل فى بعض مكونات الثقافة المصرية لا يزال منفصلاً عن المعنى على نحو ما تعرفه المجتمعات الأكثر تطوراً فى عالمنا، أو حتى فى البلدان الآسيوية الناهضة حيث العمل قيمة محورية فى الحياة، ويضفى عليها معنى، ومن ثم كانت ثقافة محبة العمل فى الأنظمة والثقافات الدينية الآسيوية أحد محفزات ومحركات نهضة آسيا وصعودها الاقتصادى البارز على خريطة الاقتصاد العولمي، من الصين واليابان إلى سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية ... إلخ.
الاتكالية وثقافة الخضوع والإزعان شكلت ولا تزال كوابح لظهور معنى وقيمة العمل فى الحياة للفرد والجماعة فى حياة المصريين، حتى مع التحول إلى الرأسمالية لا يزال مفهوم الأجر كإعانة من الدولة للموظف والعامل شائعاً لأن النظام الاجتماعى لم يضف على العمل فى ذاته قيمة ومعنى لحياة الفرد والجماعة معاً لدى بعض المصريين.
أحد المحركات الاجتماعية لتطور الدول والمجتمعات الرأسمالية الغربية، يعود إلى تفسيرات ماكس فيبر عن الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية، حيث يذهب دينس كوش إلى أن «تستتبع أخلاقية الرأسمالية ايتقيا (أخلاقية) للضمير المهنى وتثميناً للعمل بوصفة نشاطاً غايته فيه هو ذاته. لم يعد العمل مجرد وسيلة نحصل، عبرها، على الموارد الضرورية لنحيا. إنه يكسب الحياة معنى. عبر العمل الذى أصبح »حراً« بفضل نشوء العمل المأجور، يحقق الإنسان الحديث ذاته، بوصفه شخصاً حراً ومسئولاً».
ساعدت الحركة البروتستانتية والكاليفنية على إبراز هذه القيمة ودعمها، وفى إنماء قيمة التقشف والزهد، على نحو أسهم فى دعم قيمة الادخار والتراكم على نحو ساعد على تطور الرأسمالية من هنا تبدو العروة الوثقى بين تحرير النسق الدينى التأويلى السائد مصرياً إسلامياً ومسيحياً أرثوذكسيا - من النزعة الجبرية التى تشل الإرادة الإنسانية الفردية والجماعية -، والتى تكرس قيم الخضوع السياسى والاجتماعى التى تكرس لثقافة الاتكالية والخنوع والكسل والترهل.
من هنا تبدو ثمة ضرورة حياتية ودينية لتجديد الفكر الدينى المصرى وتحريره من بعض المقولات التفسيرية السلبية، ومن ثم إعادة الاعتبار فى الخطاب الدينى إلى مفاهيم الحرية والإرادة الحرة والمسئولية الفردية، وإلى العمل كقيمة فى ذاته تضفى على الإنسان وحياته ومصيره معنى. أن هذه القيم والمفاهيم تحتاج إلى تأصيل فى الفكر الدينى المصري، لأنها لا تتناقض مع جوهر الإيمان المصرى الإسلامى والمسيحي.