القاهرة 24 يونيو 2015 الساعة 12:04 م
ونحن على أعتاب ذكرى ثورة 30 يونيو نتذكر فكرة الثورة التى راودت أديب نوبل نجيب محفوظ على أكثر من مستوى فهناك كتابته عن ثورة 1919، والتى وضحت فى ثلاثيته ورصد فيها يوميات الثورة والتى انتهت باستشهاد "فهمى الابن" إلى جانب الوقفات العديدة عند تلك الثورة مثلا فى "أولاد حارتنا" وحديث الصباح والمساء" ، وهناك نصوص قصيرة لمحفوظ فى "أحلام فترة النقاهة، وأصداء السيرة الذاتية " تعرض فكرة الثورة وكأنها حلم يراوده رغبة فى التغيير وهذه الصياغة للثورة تجعل منها فكرة أبدية لا تتوقف، لأن العالم فى تصوره بحاجة إلى تغيير مستمر ، كما أن هناك ثورة مأمولة توقف عندها محفوظ فى الحكاية العاشرة فى رواية الحرافيش وهى الثورة التى يظهر بها القائد الذى يحلم به الثوار، وفيها تتحقق القيم الجديدة من خير وعدالة وحرية وكرامة ويسقط معنى الطغيان الفساد ويصبح الحرافيش أو المهمشون هم من يصيغون مصائرهم بأنفسهم .
فقد احتوت أعماله الأدبية على جميع القيم التى نادت بها الثورة المصرية وهى " عيش .. حرية .. كرامة إنسانية .. عدالة اجتماعية " وقد عبر محفوظ عن رؤيته لكيفية قيام الثورات وموقفه منها وانحيازه للديمقراطية، كما جسد طبيعة الشخصيات القادرة على القيام بها، ومن هنا تجلى نموذج "الثائر الحق" فى رواياته فى شخصية "الفتوة" الذى يدافع عن القيم ويرفض الظلم وينتصر للفقراء ، ولعل ميلاد محفوظ فى سنة 1911 جعل وعيه يتفتح مع ثورة 1919، كما عاصر ثورة يوليو 1952 فكان محللاً للثورات وراصداً لها وقارئاً فذاً للإنسان المصرى والثقافة المصرية التى تغيرت عقب أحداث الثورات ولعل هذا ما دفع الأديب الكبير نجيب محفوظ أن يقول : " الثورات يخطط لها الدهاة وينفذها الشجعان ويجنى ثمارها الجبناء"
زقاق المدق .. وشظف العيش
وعن عالم الفقراء والهمشين أوضحت الأديبة والكاتبة سلوى بكر أن نجيب محفوظ أهتم اهتمام بالغ بعالم مدينة القاهرة الفاطمية إلا أنه بالرغم من هذا أهتم بعالم الفقراء والمهمشين وما يواجهونه من شظف العيش وعناء المعيشة ، ونجد أمثلة على هؤلاء فى رواية زقاق المدق فهو إبداع شديد المحلية والواقعية لحياة شريحة كبيرة من جمهور القاهرة ومن خلاله يخترق محفوظ عالم الفقراء والمهمشين فى أحد أزقة القاهرة ، حيث تدور أحداث الرواية في بيتين من بيوت الزقاق البيت الأول يمتلكه السيد رضوان الحسينى والبيت الثاني تملكه الست سنية العفيفي امراة يقارب عمرها الخمسين أما بطلة الرواية فهى حميدة الشابة التى بالرغم من فقرها وكونها يتيمة ممتلئة بالغرور والطموح الجرأة في مواجهة الأمور .
بداية ونهاية .. وعالم الفقراء
وعن اهتمام أديب نوبل فى أعماله بالأحياء العشوائية أوضح الدكتور عمار على حسن الباحث فى علم الاجتماع السياسى بأن هناك اعتقاد سائد فى أن أديبنا الكبير نجيب محفوظ صب جل اهتمامه على الطبقة الوسطى، التى انتمى إليها، ونسج على ضفافها أغلب أعماله الإبداعية الرائعة ، ولكن من يمعن النظر فى أعماله يكتشف أن الرجل أعطى الطبقة الدنيا مكانا كبيرا فى أعماله، ليس فقط فى عالم "الحرافيش" الذين يعانون من سطوة الفتوات وتجبرهم، أو عالم الفقر المدقع الذى تصوره رواية "بداية ونهاية"، بل أيضاً بالنسبة للمهمشين، الذين يقطنون على أطراف المدن، فى أحياء عشوائية، تعج بالفوضى والبؤس ففى رواية قلب الليل" رسم محفوظ ملامح الأحياء العشوائية، ومنظر أولاد الشوارع بأسمالهم البالية وأقدامهم حافية، وانتقل محفوظ فى إحدى قصص مجموعة "القرار الأخير" إلى مستوى آخر من الحديث عن العشوائيات، انصبت هذه المرة على وصف المكان إلى جانب عرض السلوك والتصرفات .
الجوع .. وعصر الفتوات
ولعل اهتمام محفوظ بالفقراء وتجسيد لشخصيات تعانى من الفقر المدقع أدى إلى قيام المخرج على بدرخان بإخراج فيلم "الجوع" عام 1986 وهو مأخوذ من رواية الحرافيش للأديب الكبير نجيب محفوظ التى تصور عصر الفتوات ، فالمخرج في فيلم الجوع يتابع مراحل صعود البطل "الفتوة" حتى سقوطه ، ويحددها في عدة مراحل الأولى هي مرحلة توفير بعض الخدمات للفتوة ، والإلتزام بتطبيق العدالة حتى على نفسه ، وذلك لضمان إستمرار وفرض حكمه الجديد . ثم مرحلة تحسين وضعه الاقتصادي الاجتماعي والوقوع في شرك الأثرياء الملتفين من حوله . أما المرحلة التالية فهي انخراطه في ميدان التجارة مستفيداً بمشروعية الكسب المادي . لكنه ينجرف إلى عالم التجار وألاعيبهم ، ومن ثم يزداد بطشه وظلمه للناس ، مما يؤدي ذلك إلى سقوطه ، وهكذا يناقش بدر خان قضية هامة ومعاصرة ، وهى قضية الظلم والعدل هذا إلى جانب قضية صناعة الأبطال القياديين في كل زمان ومكان مستعرضا الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى سقوط هؤلاء الأبطال .
طابع تذكارى لتخليد ذكراه
وبمناسبة مرور قرن على ميلاد الأديب الكبير نجيب محفوظ والذى تزامن مع الثورة المصرية التى ولدت طاقة ثقافية وإبداعية أنتجها الشعب المصري منذ بداية الثورة من كتابات وأغانى ورسومات ، فهذه الفنون من أهم الأسلحة التي ساندت المصريين خلال أصعب اللحظات المأسوية التي مرت عليهم طوال أيام الثورة ، ومن هذا المنطلق قرر قسم النشر بالجامعة الأمريكية إعطاء جائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي لمجمل إبداعات الثورة التى سجلت الكثير من الأحداث والمشاهدات لأيام الثورة ، كما قامت الهيئة العامة للبريد بإصدار طابع بريد بمناسبة الذكرى المئوية لمولد الأديب نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل فى الأدب، وذلك حرصاً من الهيئة على إصدار الطوابع فى المناسبات والأحداث التاريخية الهامة والتى تؤرخ لفترات زمنية أو تخلد ذكرى رحيل أحد الرؤساء أو الأدباء أو كبار الشخصيات حيث قام بتصميم الطابع سامح عبده أحد مصممى الجرافيك الشباب من أبناء البريد المصرى وقد قام من قبل بتصميم طابع توفيق الحكيم .
مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية
ولد الأديب نجيب محفوظ فى 11 ديسمبر عام 1911 ، واستمر فى مسيرته التعليمية إلى أن حصل على ليسانس الفلسفة،ثم انضم إلى السلك الحكومي ليعمل سكرتيراً برلمانياً في وزارة الأوقاف، وتدرج فى العديد من الوظائف إلى أن تقاعد عام 1971 ليتفرغ للعمل الأدبى ، وبدأ محفوظ الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة الرسالة عام 1939 ، و نشر روايته الأولى عبث الأقدار التي تقدم مفهومه عن الواقعية التاريخية. ثم نشر كفاح طيبة ورادوبيس ، وهم ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة . وبدءاً من 1945 بدأ محفوظ يسير فى خط الرواية الواقعية الذي حافظ عليه في معظم مسيرته الأدبية برواية القاهرة الجديدة ، ثم خان الخليلى وزقاق المدق . كما جرب الواقعية النفسية في رواية السراب ، ثم عاد إلى الواقعية الاجتماعية مع بداية ونهاية ،وثلاثية القاهرة ، وفيما بعد اتجه محفوظ إلى الرمزية في رواياته الشحاذ ، وأولاد حارتنا التي سببت ردود فعلٍ قوية وكانت سبباً في التحريض على محاولة اغتياله ،
وتعد مؤلفات محفوظ بمثابة مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في مصر لذلك استحق أن يحصد العديد من الجوائز لعل أهمية جائزة نوبل ، جائزة قوت القلوب الدمرداشية ، جائزة وزارة المعارف ، جائزة مجمع اللغة العربية ، جائزة الدولة في الأدب ، وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى ، قلادة النيل العظمي ، جائزه كفافيس ، وهكذا استمر الأديب الكبير نجيب محفوظ فى عطائه إلى أن رحل عن عالمنا فى 30 اغسطس 2006 عن عمر يناهز 95 عاما .