القاهرة 24 مايو 2015 الساعة 11:46 ص

«العراقيون والنخل: من يشبه من؟ ملايين العراقيين ومثلهم أو أقل من النخل، منهم من تفحمت سعفاته، منهم من قطع رأسه، منهم من كسر ظهره الدهر، لكنه مازال يحاول الوقوف، منهم من اقتلع ومثل به ونفى من بستانه، منهم من سمح للغازى أن يتكئ على جذعه، منهم من يمشط الربيع بسعفه، منهم من يقف بصمت، منهم من سقط ومنهم من يشمخ ويرفع رأسه بالرغم من كل شىء فى هذا البستان الكبير: العراق، ترى متى يعود البستان لأهله؟ لا للذين يحملون الفؤوس ولا للبستانى الذى يغتال النخل، مهما كان لون سكينه!».

«سنان أنطون» الروائى الشاعر العراقى الذى يعيش فى أمريكا وقلبه وعقله وروحه فى قلب أنهار الدم والدموع والعذاب التى صارت تجرى من الفرات لتشربها صحارى لا تشبع: كيف يكتب؟ كيف يعيش؟ كيف ينام؟

هذا هو العمل الثانى الذى أتعذب وأحدق فى عين الشمس معه، لا أحد يستطيع أن ينسى للحظة ما يجرى فى العراق، ولكن كلمات هذا الرجل وسطور كتابته كاوية بنار الحقيقة: ليست كأخبار الجرائد أو صور التليفزيون، تحديق فى عين الشمس! العمل الأول كان «يا مريم» «2012» عن جريمة نسف كنيسة سيدة النجاة فى بغداد وتضاريس مأساة عائلة مسيحية تعيشها وتعيش كل بشاعتها.

وحدها شجرة الرمان «2010»، 255 صفحة من الألم والعذاب العراقى، ركب مسيرة دموى إلى كربلاء يمتد من أيام صدام حسين الكابوسية إلى حصار الجوع والثورة والغضب والقمع، ثم الحرب الأمريكية التى حملت كل ديمقراطية وحرية وعدل الحضارة الأمريكية.. لكى.. تفعل بالعراق وبالمنطقة.. ماذا؟ تفعل.. ماذا فعلت.. قل أنت! فما صار يفوق القول والخيال.

وحدها شجرة الرمان، تعرف! هل تذكر آخر مرة رأيت فيها شجرة رمان! هل تذكر جمال الشجرة ودلال فروعها اللينة الخضراء عندما تحمل زهورها الحمراء «الجلنار» أو تميد بثمارها المستديرة الناهدة الملساء التى تتورد بالصحة والحياة، هل تذكر آخر مرة رأيت فيها شجرة رمان يعبث نسيم العصر بفروعها التى تحمل إغراء فاتناً لا يقاوم.. أنا أذكر!

فى سورة الرحمن، آية 18، وصف للجنة يقول: «فيها فاكهة ونخل ورمان» صدق الله العظيم.

رواية «وحدها شجرة الرمان» لسنان أنطون فيها شجرة رمان أخرى، شجرة رمان مزروعة فى الجحيم.

? ? ?

فى رواية «وحدها شجرة الرمان» صفحة 165 يقول الشاعر الروائى العراقى الذى غادر جحيم العراق إلى أمريكا سنة 1991 على لسان «الفرطوسى» أحد شخصيات جحيم دانتى المعاصر: «ظننت.. يا أخى، أننى كنت قد تركت كل تلك المناظر ورائى، لكن تلك الكلاب السائبة لحقت بى إلى بغداد بعد أسابيع من عودتى وبدأت الكوابيس، كنت أرى ستة أو سبعة كلاب تنهش الجثث والتقطت حجراً لأرجمها به، كان الحجر يتفتت ويصير تراباً، فى الكابوس الآخر كنت أرى أهلى كلهم يحترقون ويتفحمون وأنا أحاول أن أدلق الماء من زمزميتى عليهم كى أنقذهم، لكن الزمزمية كانت خاوية فأبدأ بنثر الرمل عليهم وكنت أشم تلك الرائحة المقززة من جديد ثم أصحو، أخبرت ابن عمى بهذه الكوابيس، والأرق الذى خرب أيامى، فنصحنى بالذهاب إلى الجامع وبالصلاة، وكان محقاً فقد أنقذت الصلاة روحى وعقلى من الجنون الذى كان يزحف باتجاهى، لم تختف الكلاب والكوابيس كلياً لكنها أصبحت لا تعاودنى إلا مرة كل عدة شهور».

من عشرات الصور والوقائع الكابوسية يصنع الروائى الشاعر ملحمة طويلة، من عذاب بلد جميل عزيز يتفتت والدنيا تسمع وترى فتنكس رأسها فى خجل وتصمت! تدور أحداث الرواية كلها فى دكان كبير تقوم فيه عائلة عراقية شيعية بطقس تغسيل الجثث وإعدادها للدفن فى إيقاع مستمر من أيام الجد ثم الأب الذى عاصر أيام صدام حسين، حيث كان توارد الجثث متسارعاً، وردت إليه جثة ابنه الذى رباه وأحبه على عينه حتى صار طبيباً ولكن قتل فى حرب صدام العبثية ضد إيران، سقط فى معارك «الفاو»: وبعد سنتين ونصف فى عام 1990 قال الأب الذى غسل ودفن ابن الطبيب: حلمه بحياة أخرى، وافق صدام على كل شروط إيران «بعد خاطر شنو حاربنا ثمن سنين وليش راح أمورى ابنى» اللهجة العامية العراقية جزء أساسى من بناء الرواية وهى هنا جميلة واضحة تحمل رائحة البلد العزيز المحترق وتنثر رماده بين الكلمات لكى تزيد من الواقعية والألم.

بطل العمل هو هذا الدكان الكابوسى الذى زرع الجد فى فنائه الخلفى شجرة رمان كان يجلس إلى ظلها فى فترات الراحة بين أدائه طقسه المر ليستعدا لمواصلة العذاب، «جواد» هو الابن الآخر الذى بقى بعد أن سقط الطبيب العزيز، كان جواد الصغير يحب حبات الرمان التى يحملها والده ليلاً إلى البيت، ولكن بعد أن زار الدكان وعرف أن الشجرة تشرب من ماء الغسل وقف الرمان فى حلقه، جواد يحلم بالهروب من هذا الميراث الثقيل، يريد أن يرسم، أن يصنع تماثيل مثل جواد سليم، فنان العراق الكبير، يحب أعمال «جيكوميتى» ويعشق الحياة والنساء الجميلات، الذى يرصع المؤلف صفحات روايته الداكنة بمشاهد غرامه المشتعل بـ «ريم» التى يفقدها لكى يبقى وحيداً مع دكان الغسل وشجرة الرمان التى تشرب الموت.

وعندما لاحت فى أفق حياته غادة أخرى حاولت إنقاذه من وحدة المصير، عرف أنه قد صار أجبن من أن يأخذ قراراً بالارتباط.

لقد سقط مطر أسود بلل كل شىء بالسخام وكأنه ينبئ بما سيأتى، وتكسرت حتى أحلام اليقظة التى كانت مجاديف تعينه على عبور الأيام.

التماثيل صارت تخاف أن تنام فى الليل لكى لا تستيقظ ركاماً فى وطن تقطعت أوصاله وصار جحيماً.

التاريخ هو ما يسميه الناس القدر وهو عشوائى عنيف يعصف بكل ما فى طريقه.

... أما قلبى فقد صار رمانة يابسة تنبض بالموت، وتسقط منى كل لحظة فى هاوية بلا قرار.

وحدها شجرة الرمان - رواية - سنان أنطون - منشورات الجمل.