القاهرة 13 مايو 2015 الساعة 10:48 ص
قبل أيام قليلة مضت ، غيّب الموت المواطن المصري مجدي عبد الملك ، مالك مقهى « ريش « في القاهرة ، ورفيق المسيرة الثقافية والفكرية والفنية المصرية في الزمن الجميل ، وصديق المبدعين الرواد في الشعر والرواية والسينما والمسرح والموسيقى ، وحافظ اسرارهم.
برحيل مجدي عبد الملك ، وقبله جاره الحاج محمد مدبولي ، صاحب «مكتبة مدبولي» خسر أشهر ميدان في القاهرة اثنين من رموزه ، وبقي تمثال طلعت حرب وحيدا تائها وسط زحام أحلام الأجيال الجديدة.
المثقفون والأردنيون ، والعرب ، الذين درسوا في القاهرة ، أو أقاموا فيها ، أو ترددوا عليها في زيارات متقطعة ، يعرفون أن مقهى ريش يشكل مرحلة ثقافية وفكرية وسياسية مهمة خلال قرن من تاريخ مصر. هذا المقهى الملتقى والمنتدى الذي احتضن عمالقة الحركة الأدبية والفنية في مصر ، وبعض كبار الأدباء والشعراء العرب ، في مرحلة ما ، شهد ولادة ثورة سعد زغلول ، وتبين في وقت لاحق ، أن المنشورات والبيانات الثورية ، كانت تصدر من هذا المقهى ، في العام 1919.
وخلال إحدى زياراتي الأخيرة للقاهرة ، رافقني مجدي عبد الملك ، في جولة تحت الأرض ، في الطابق السفلي السري التابع للمقهى ، حيث شاهدت موقع آلة الطباعة التي استخدمها جماعة سعد زغلول ، التي كانت مخبأة في شق في الجدار ، وكذلك الباب السري الذي يفتح على شارع خلفي ، والذي استخدمه الثوار للخروج في حالات المداهمة الأمنية.
وخلال قرن من زمن مصر ، ظل مقهى «ريش» ملتقى رموز الحركة الأدبية والفنية والساسية. ويروي بعض الحضورالكبار من رواد المقهى في الستينات ، أن الروائي نجيب محفوظ كان يعقد فيه ندوة عصر كل يوم جمعة ، يتحدث فيها للمهتمين من الحضور حول هموم الأمة ، وقضاياها الثقافية.
وفي السجل التاريخي للمقهى أن السيدة أم كلثوم ، عندما جاءت إلى القاهرة صبية صغيرة ، أحيت حفلاتها الأولى في "مقهى ريش" ، وكذلك عرضت الفنانة المسرحية روز اليوسف ومعها الممثل محمد عبد القدوس إحدى المسرحيات في المقهى ، حيث شهد ريش ولادة قصة حب بينهما انتهت بالزواج وولادة الكاتب إحسان عبد القدوس.
ولكن لم تكن مسيرة "ريش " سهلة هينة ، فقد شهد المقهى بعض العواصف ، وواجه الكثير من التحديات ، لأنه كان يشارك ، عبر رواده ، بتشكيل الوعي السياسي والاجتماعي في مصر ، وقد تعرض للإغلاق لفترة من الزمن في عهد الرئيس السادات ، بسبب انتقاد سياساته ، خلال حلقات النقاش التي تعقد فيه ويشارك فيها سياسيون وكتاب من المعارضين ، خصوصا بعد زيارته للقدس ، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.
والحقيقة أن مقهى ريش هو شاهد على عصر كامل ، وعلى امتداد قرن من تاريخ مصر ، وعلى جدرانه من الصور والرسوم ما يوثق لأحداث عصر وطني مهم ، فالمقهى حافظ على ذاكرة القاهرة ، من حيث المكان ( الشوارع والمواقع والمعالم ) وكذلك الرموز من المبدعين ، وعلى كل الصعد.
لذلك نرى أن إغلاقه سيؤدي إلى طي مرحلة تاريخية مهمة من حياة القاهرة ، وبالتالي إخراجها من الذاكرة ، في الوقت الذي نسعى فيه إلى نقل أحلامنا الكبيرة إلى الأجيال الشابة الجديدة ، في زمن يتم فيه تدمير كل ما هو جميل ، وحيث تتحول المكتبات إلى محال لبيع الوجبات السريعة.