القاهرة 27 ابريل 2015 الساعة 01:59 م
كتب : حسام إبراهيم
فيما يحق وصف الشاعر الراحل محمد الفيتوري بأنه ضمن مكانة خالدة في ديوان الشعر العربي
المعاصر لريادته الشعرية المجددة سواء على مستوى المضمون او الشكل معانقا رحاب
الحداثة فانه يحق ايضا القول بأن قصة الفيتوري الذي قضى عن 85 عاما إنما تؤكد
على أن "مصر هي صانعة النجوم في الثقافة العربية وسماء الإبداع للناطقين بلغة الضاد".
ولعل الشاعر الكبير الراحل محمد الفيتورى الذى حمل دماء مصرية - ليبية - سودانية ,
كان افضل تعبير فى تكوينه ومسيرته فى الحياة والإبداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافى
العربي وهو الذى عاش سنوات التكوين والدراسة فى مصر وانطلقت شهرته منها.
فقصة الفيتورى فى الحياة والإبداع دالة لفهم أهمية الدور الثقافى المصرى الذى تجلى
على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوى وهو يقدم ويزكى الشاب محمد الفيتورى للعمل
فى مجلة اخر ساعة المصرية فى بدايات خمسينيات القرن العشرين ويقول لرئيس تحريرها
حينئذ محمد حسنين هيكل:"إن مصر تاريخيا هى صانعة النجوم فى الثقافة العربية" متنبئا
لهذا الشاب بأنه سيكون نجم جديد من نجوم الإبداع الشعرى تقدمه مصر للعرب.
وقصة الفيتوري الذي توفي يوم الجمعة الماضية بمستشفى في العاصمة المغربية الرباط
عن عمر يناهز 85 عاما دالة ايضا على مدى عمق وخصوصية العلاقة بين ما يعرف ببلدان
"المثلث الذهبي العربي" اي مصر والسودان وليبيا وحقيقة التفاعل الطبيعي على المستوى
الثقافي بين المصريين والسودانيين والليبيين .
ولئن اتفق النقاد على أن محمد الفيتوري كان صوتا متفردا ومغايرا في الشعر العربي منذ
خمسينيات القرن العشرين
ومحمد مفتاح الفيتوري الذي يعتبره كثير من المثقفين المصريين "واحدا منهم" ولد بالسودان
ونشأ بمدينة الإسكندرية وتخرج من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة , وشغل
مناصب دبلوماسية في سفارات ليبيا , وكانت افريقيا حاضرة بصورة لافتة في عناوين دوواينه
:"اغاني افريقيا" و"عاشق من افريقيا" و"اذكريني يا افريقيا".
وواقع الحال أن مصر كانت حاضرة في إبداعات الفيتوري التي عبرت عن تعدد وثراء وتداخل
مستويات هويته العربية والافريقية فيما ارتبط صاحب ديوان " سقوط دبشليم" بأوثق
العلاقات مع مثقفين ومبدعين مصريين مثل الشاعر والكاتب كامل الشناوي الذي اخذ بيده
في بداية مسيرته الابداعية التي استمرت حتى وهو يتجول بين عواصم ومدن مثل بيروت
وروما والرباط.
ولن تغيب عن الذاكرة الثقافية المصرية والعربية الدور الذي نهض به مثقف مصري كبير
هو الناقد الراحل رجاء النقاش في تقديم إبداعات الروائي السوداني الكبير الطيب صالح
صاحب "عرس الزين" و"مريود" و"ضو البيت" للقاريء المصري والعربي عموما , فيما كان
للكاتب الصحفي الراحل احمد بهاء الدين اضافة للناقد رجاء النقاش القدح المعلى
في تقديم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش للمتلقي العربي من المحيط الى الخليج.
وبكل الحب والفهم كان الأديب السوداني الكبير الطيب صالح صاحب "ود حامد" و"منسي" يتحدث
دوما عن مصر ومبدعيها بل انه كان كسوداني يقول عن المصريين انهم :"نحن" وكان
يبدي دوما إعجابا كبيرا بقصائد العامية لشاعر العامية الأعظم عبد الرحمن الأبنودي
الذي ودعته مصر والأمة العربية مؤخرا.
ومن الطريف أن الطيب صالح الذي شغل لفترة منصب مدير الدراما في القسم العربي بهيئة
الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تحدث بكل التقدير والإكبار عن الفنان المصري الكبير
يوسف وهبي وتوقف طويلا امام "تواضع هذا الفنان الكبير اثناء تعاون بينهما في عمل
درامي قدمته بي بي سي".
ولعل استمرار الدور الثقافي والتاريخي لمصر "كصانعة للنجوم في الثقافة العربية" يتجلى
في حالة الكاتب والروائي السوداني الشاب حمور زيادة الذي فاز في عام 2014 بجائزة
نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن روايته "شوق الدرويش".
وحمور زيادة من الكتاب السودانيين الذين يرون أن الشهرة الطاغية مصريا وعربيا للطيب
صالح صاحب "موسم الهجرة للشمال" وضعتهم في مأزق وظلمت الكثير من الكتاب الجدد ولعل
هذه الظاهرة تنطبق ايضا على حالة الشاعر محمد الفيتوري الذي يكاد يكون اشهر الشعراء
الذين اقترنوا بالسودان الى جانب الشاعر الهادي آدم الذي ذاعت شهرته عربيا
بعد ان تغنت سيدة الغناء العربي ام كلثوم بقصيدته :"اغدا القاك" وكذلك الشاعر الكبير
الراحل جيلي عبد الرحمن الذي عاش في مصر منذ ايام الصبا.
وقد يكون الهم السياسي لجيلي عبد الرحمن احد أقطاب اليسار الثقافي العربي قد جاء على
حساب إبداعه الشعري فيما نشر اولى قصائده في مطلع خمسينيات القرن العشرين بمصر
وتوزعت كتاباته مابين عدة صحف ومجلات مصرية مثل المساء والجمهورية وروز اليوسف حتى
سافر للاتحاد السوفييتي السابق في عام 1961 وبعد أن امتدت إقامته هناك لنحو 20
عاما تنقل بين عدة بلدان حتى شده الحنين لمصر فضلا عن متطلبات العلاج الطبي بالقاهرة
ليرحل عن الحياة الدنيا في شهر اغسطس عام 1990.
ولم يترك جيلي عبد الرحمن للشعر العربي سوى القليل من الدواوين المطبوعة لعل اشهرها
:"الجواد والسيف المكسور" وترجم العديد من قصائد الشعراء الروس وعرف بعلاقته
الوثيقة وصداقته المخلصة مع المبدع المصري الراحل نجيب سرور.
ولعل الشاعر الراحل محمد الفيتوري افلت مما يسميه البعض "بلعنة شهرة العمل الواحد
على حساب بقية اعمال المبدع" كما كان الحال مع الهادي ادم الذي طغت قصيدته "اغدا
القاك" على بقية قصائده المنشورة في ثلاثة دواوين وهي ظاهرة تكررت الى حد ما مع "رواية
موسم الهجرة للشمال" التي طغت شهرتها على بقية إبداعات الطيب صالح.
وخلافا لمحمد الفيتوري الذي صنف سياسيا باعتباره في معسكر اليسار شأنه في ذلك شأن
شاعرين سودانيين درسا بمصر هما محيي الدين فارس وتاج السر الحسن فان الهادي ادم الذي
ولد ببلدة الهلالية عام 1927 لم ينتم لأي تيار سياسي فيما يحلو للبعض القول بأنه
كان مخلصا لوظيفته الحكومية وجادا في مهام الوظيفة مثلما كان أديب نوبل المصري
نجيب محفوظ.
ورائعة "اغدا القاك" كانت ضمن قصائد ديوان "كوخ الأشواق" الذي اصدره الهادي ادم من
القاهرة عام 1966 فيما تلقى هذا الشاعر السوداني الكبير الذي قضى في نهاية عام
2006 تعليمه العالي بمصر التي احتفت دوما بكل المبدعين العرب وتواصل الآن وظيفتها
التاريخية الثقافية كما هو الحال مع المبدع السوداني الشاب حمور زيادة.
وكانت الروائية المصرية سلوى بكر قد وصفت رواية "شوق الدرويش" لحمور زيادة بأنها "عمل
كبير ومهم وستكون علامة بارزة في تاريخ الأدب السوداني" وهو الأدب الذي مازال
الراحل العظيم الطيب صالح يشكل قطبه الأعظم برواياته الخالدة مثل "موسم الهجرة للشمال"
ومنذ نحو ست سنوات يعيش حمور زيادة صاحب "سيرة ام درمانية" و"الكونج" في "وطنه الثاني
مصر" ليواصل إبداعه ويكتب أحيانا مقالات وطروحات عبر منابر صحفية وثقافية مصرية
, فيما نوه الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد بأن روايات هذا المبدع السوداني
الشاب تعبر عن قدرته الكبيرة على التصوير البصري وتميز "بغرائبية تعيد للأذهان ادب
امريكا اللاتينية".
ويعتبر حمود زيادة نفسه "محظوظا" لأن احدي دور النشر المصرية قدمته للقاريء المصري
فيما " تلقاه الوسط الثقافي المصري بالقبول" مع تسليمه بأن هناك "أزمة قراءة" في
العالم العربي على وجه العموم مشيرا في الوقت ذاته الى "عجز النخب الثقافية في التواصل
مع الجماهير".
والى جانب حمور زيادة صاحب المجموعة القصصية "النوم عند قدمي الجبل" فان الروائي السوداني
الدكتور امير تاج السر صاحب روايات "مهر الصياح" و"زحف النمل" و"توترات القبطي"
و"العطر الفرنسي" و"صائد اليرقات" و"ايبولا 76" الذي عاش بمصر عدة سنوات ودرس
في كلية الطب بجامعة طنطا .
والروائي السوداني الكبير الطيب صالح والملقب "بعبقري الرواية العربية" هو "خال" امير
تاج السر صاحب روايات "كرمكول" و"سماء بلون الياقوت" و"نار الزغاريد" و"مرايا
ساحلية" و"ارض السودان" الذي بدأ مسيرته الابداعية كشاعر ثم استقر على ضفاف الرواية
فيما يكتب احيانا مقالات تنبض بالحب والحنين لسنوات حياته في ارض الكنانة.
ومن الطريف ان روايته "ارض السودان..الحلو والمر" تحمل رؤية لعلاقة الشرق والغرب وهي
العلاقة التي تشكل جوهر اشهر روايات خاله الطيب صالح "موسم الهجرة للشمال" والتي
تحمل ايضا بعض الإشارات الدالة لمصر المحروسة .
وفي سنوات الستينيات والسبعينيات كانت بعض قصائد محمد الفيتوري الملقب "بشاعر افريقيا
والعروبة" و"شاعر الغابة والصحراء" تدرس في مناهج اللغة العربية للطلاب بالمدارس
المصرية , فيما يعد الفيتوري من ابرز شعراء التفعيلة المعاصرين.
ومن المفارقات التى تبعث على التأمل انه رغم الدور الريادى والنبيل للثقافة المصرية
على مستوى محيطها العربى فان اهتمامات المصريين بالواقع الثقافى فى هذا المحيط
اقل بكثير مما ينبغى كما ان للظاهرة الآن انعكاساتها السلبية حتى على مستوى التنافس
فى الإنتاج التلفزيونى فى مجال الدراما بين مصر الرائدة عربيا فى هذا المجال وبين
دولة كتركيا التى يتكرر الحديث عن "غزوها التلفزيونى الدرامى للسوق العربية ومن
ثم تأثيرها الثقافى فى مزاج المشاهد العربى وذائقته".
واذ يقول حمور زيادة إن "الواقع السوداني ليس معروفا بالشكل الكافي للعرب او للغرب"
هاهو يأخذ على المصريين انهم لا يعرفون الواقع الثقافي في السودان والكتاب والمبدعين
في هذا البلد بما يكفي , فان أصواتا ثقافية مصرية نادت مرارا بأهمية الانفتاح
الثقافي المصري على تفاصيل المشهد الثقافي العربي وخاصة في بلد شقيق مثل السودان
لحد أن بعض المعنيين بهذه القضية من المثقفين المصريين اعتبروا أن "السودان
مازال يمثل قارة مجهولة لغالبية المصريين".
واذا كان للأمر علاقة بما يقوله المصريون بل وغير المصريين ايضا حول الثراء الثقافى
المصرى لحد الاكتفاء الذاتى وان"مصر هى ام الدنيا" بما يبرر على نحو ما ظاهرة
الانعزال الثقافى فان الصينيين الذين كانوا من منظورهم الثقافى - التاريخى يرون بدورهم
أن بلادهم هى "الدنيا" وما خارجها هو خارج العالم قد دعتهم الضرورات الضاغطة
للانفتاح الثقافى على بقية الدنيا التى كانوا لا يعترفون بها حتى اصبحوا من اكثر
الشعوب انفتاحا وتفاعلا مع "الآخر".
وقد تحتمل أمريكا بمساحتها الهائلة وموقعها وتكوينها الديموجرافى من مهاجرين من اغلب
بقاع العالم ظاهرة العزلة النسبية عن بقية العالم وقد تكون الظاهرة فى وقت ما
تنطوى على مزايا بالنسبة لها وهذا ما يفسر تاريخيا وجود تيار كبير وفاعل فى الحياة
الأمريكية تبنى مسألة العزلة عمدا من منظور ما يتصوره كمصلحة امريكية.
وهذا أمر مختلف كل الاختلاف بحكم عوامل عديدة فى مقدمتها البعد الجغرافى والموقع عن
الحالة المصرية فمصر ليس من مصلحتها الوطنية ان تعزل لا عن محيطها العربى ودائرتها
الإسلامية ولا عن العالم الخارجى خاصة مع توالى متغيرات العولمة وتحدياتها .
وهذه الظاهرة الثقافية المؤسفة قد تكون لها انعكاساتها السلبية حتى على مستوى الخبرات
والمهارات المعرفية والقدرات التحليلية لكوادر دبلوماسية يفترض انها يمكن ان
تقوم بأدوار الخبراء الموثوق بتقديراتهم فى الشؤون العربية والخارجية مع اننا فى
عصر تقاس فيه القوة بامتلاك المعلومات.
ويبدو ان هناك حاجة لاستعادة ما خلص اليه المؤرخ المصري الراحل الدكتور يونان لبيب
رزق في كتابه :"الثوابت والمتغيرات في العلاقات المصرية السودانية" حول وجود "ثوابت"
لا يجوز المساس بها في العلاقات بين مصر والسودان موضحا ان هناك "خصوصية" بين
البلدين صنعتها اعتبارات الجغرافيا ومسيرة التاريخ وحركة البشر على نحو ربما لم
يتيسر لأي شعبين في المنطقة.
ويجسد الشاعر الراحل محمد الفيتوري هذه الخصوصية بأروع معانيها وهو الذي اتجه في مرحلته
الابداعية الأخيرة على وجه الخصوص للرؤى الصوفية المعتمدة على معرفة عميقة
وبالغة الثراء بالتراث الشعري سواء كان عربيا او إنسانيا على وجه العموم.
وجمع الفيتوري كأحد المغنين العظام فى قافلة الشعر العربى المعاصر فى وجدانه "المثلث
الذهبى" او مصر وليبيا والسودان حيث انحدر من أب ليبى الأصل وام سودانية وعاش
سنوات تكوينه وتعليمه وعمله بالصحافة الثقافية فى مصر وهو ما يتجلى فى شعره.
وملايين العرب الذين عرفوا وتذوقوا متعة الإبداع الشعرى لمحمد الفيتورى لابد وان
يعتريهم كثير من الأسى لرحيل صاحب السؤال المثير للشجن فى رائعته معزوفة لدرويش متجول
:"تبكينى ام ابكيك"?!.
وكان محمد الفيتورى قد أقام منذ سنوات فى المغرب فيما أصيب منذ نحو ستة أعوام بجلطة
فى المخ يقول مقربون منه انها تركت تأثيرها على لسانه وحركته وأفقدته الكثير من
حيويته.
واعتبر ديوان "اغانى افريقيا" الذى صدر عام 1955 بمثابة "الطلقة المدوية المعلنة عن
ميلاد شاعر كبير وموهبة شعرية طاغية " لتتوالى إبداعاته التى بلغت 13 ديوانا من
بينها :"عاشق من افريقيا" و"اذكرينى باافريقيا" و"معزوفة لدرويش متجول" و"شرق الشمس
غرب القمر" و"قوس الليل قوس النهار" بينما صدر اخر دوواينه بعنوان :"عريانا يرقص
فى الشمس".
ولئن كان موت المبدع او المبدعة قد تجلى من قبل فى شهقة ملتاعة للمفكر والكاتب المصرى
العملاق محمود عباس العقاد عندما تساءل فى حسرة عندما قضت الأديبة اللبنانية
مى زيادة :"كل هذا فى التراب?!.. آه من هذا التراب!" فان العزاء يبقى في بقاء وخلود
إبداعات الشاعر الكبير محمد الفيتوري بكل ما تشكله قصته من دلالات مصرية وعربية.
محمد الفيتوري :مصر تبكيك ولكنها لن تنسى المبدع الكبير والأصيل الذي قال :"لاتحفروا
لي قبرا" !!..نعم ايها الشاعر :"مثلك لا يسكن قبرا"..انما انت باق في قلوب محبيك
ومحبي الشعر والإبداع الذين لن ينسوا ابدا رومانسية وبراءة وعذوبة ومغزى ماقاله
شاعر الغابة والصحراء عن "رجل خارج الزمان..رجل خارج المكان..رجل بلا قبر ولا
عنوان"?