القاهرة 22 ابريل 2015 الساعة 11:49 ص
كتب : حسام إبراهيم
بوفاة الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي تكون قصيدة العامية المصرية قد فقدت
شاعرها الأعظم الذي حقق فتوحات غير مسبوقة لهذه القصيدة وحلق بها لآفاق بعيدة
وبالغة الثراء.
ولعل ذلك أحد أسباب حالة الأسى البالغ بين المثقفين المصريين والعرب ورجل الشارع المصري
والعربي منذ إذاعة نبأ رحيل الشاعر الكبير أمس الثلاثاء عن عمر يناهز 76 عاما
فيما كانت حالته الصحية قد تردت في الآونة الأخيرة.
والشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي ولد عام 1939 في بلدة أبنود بمحافظة قنا في صعيد
مصر لأب يهوى الشعر ويعمل مأذونا شرعيا تزوج من المذيعة التلفزيونية نهال كمال وله
منها ابنتان هما آية ونور ومن أشهر أعماله "السيرة الهلالية" التي تضم نحو مليون
بيت من الشعر والتي عكف لنحو 20 عاما على جمعها وتدوينها بعد أن استمع لها من
رواة السيرة وشعراء الصعيد.
وكانت الحالة الصحية لعبد الرحمن الأبنودي قد تدهورت بشدة في الساعات الأخيرة حيث
نقل للمجمع الطبي للقوات المسلحة لإجراء جراحة عاجلة له في المخ جراء وجود "تجمعات
دموية", فيما قالت زوجته نهال كمال إنها تلقت اتصالا هاتفيا من الرئيس عبد الفتاح
السيسي للاطمئنان على صحته ووجهت الشكر للرئيس على اهتمامه الكبير.
وصاحب كتاب "أيامي الحلوة" الشهير "بالخال" بقى حتى اللحظة الأخيرة مرتبطا بهموم المصريين
وتطلعاتهم وأشواقهم في حياة كريمة حرة وعادلة فيما جاءت إبداعاته الشعرية
التي كانت وستبقى علامة في شعر العامية المصرية لتجسد هذا الموقف المبدئي لشاعر
ومثقف مصري كبير كان بحق "صديق الشعب ولسان حال رجل الشارع" وهو الذي أبدع ديوان
"أنا والناس".
وبفضل عبد الرحمن الأبنودي .. شهدت قصيدة العامية المصرية "نقلتها النوعية التاريخية
عبر لغة متفردة استحوذت على إعجاب النخب ورجل الشارع أو الجماهير العريضة معا"
وستبقى هذه القصيدة مدينة بالكثير للشاعر الذي رحل عن الحياة الدنيا.
وفي آخر تصريحاته قبيل وفاته, قال عبد الرحمن الأبنودي "منذ أن رمى الله الشعر في
حجري وأنا أراعي الله والوطن في كتاباتي ولم أكتب شعرا ضد الوطن أو سعيا خلف المال
أو ضد المباديء", فيما لن تنسى ذاكرة الوطن والشعر قصائده الملهمة لروح المقاومة
عقب حرب الخامس من يونيو 1967.
وصاحب "وجوه على الشط" و "عدى النهار" و "أحلف بسماها وبترابها" و"ابنك يقول لك يا
بطل" كان قد اختار الإقامة منذ سنوات في قرية "الضبعية" بمحافظة الإسماعيلية فيما
كان تراث الصعيد طاغيا على بيته في تلك القرية القريبة من شط القناة.
والأبنودي الذي أبدع "الأرض والعيال" و"الزحمة" و"جوابات حراجي القط" و"الفصول" كان
قد أعرب عن حبه وامتنانه لجموع المصريين الذين أحاطوه بمشاعر حب صادق في محنة مرضه
الأخير فيما انحاز الشاعر الكبير للثورة الشعبية المصرية بموجتيها في 25 يناير
2011 و30 يونيو 2013.
وتعد قصيدته "الميدان" من أهم التجليات الإبداعية في الشعر للثورة الشعبية المصرية
والتي يقول فيها "طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع..وحققوا المعجزة صحوا القتيل
من القتل".
وارتبط الأبنودي بصداقات وثيقة مع كبار المثقفين المصريين والعرب وفي مقدمتهم الشاعر
الراحل أمل دنقل والروائي الراحل يحيي الطاهر عبد الله والأديب النوبلي نجيب محفوظ
والكاتبين الروائيين جمال الغيطاني وحمد المنسي قنديل والشاعر الفلسطيني الراحل
محمود درويش, فضلا عن الروائي السوداني الراحل الطيب صالح وفنان الكاريكاتير
الراحل ناجي العلي.
ولا ريب أن الأبنودي من شعراء العامية المعدودين الذين تمكنوا من الانطلاق بقصيدته
المصرية للفضاء العربي الواسع من المحيط إلى الخليج وهو الذي نال أرفع جوائز الدولة
في مصر ولم يتخل أبدا عن "مشروعه الإبداعي الكبير".
وبكلماته المبدعة تغنى عبد الحليم حافظ وشادية ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ونجاة
الصغيرة وصباح ومحمد رشدي وماجدة الرومي ومحمد منير لتصل إبداعاته لأكبر عدد ممكن
من الجماهير على امتداد الأرض العربية وكل من يعرف العربية في العالم.
وتميز الأبنودي بقصائده التي يرددها الشعب في شوارع المحروسة وأرض الكنانة" وعلى امتداد
الأرض العربية ليقدم للشعر أمثولة إخلاص ويثبت أن الإبداع الحقيقي لا يعرف
العزلة عن الجماهير. دون أن يعني ذلك أبدا الابتذال أو الخفة ومخاصمة ماهو عميق وحقيقي
وإنساني.
ورأى الأبنودي أن "الشاعر صوت الأمة وضميرها اليقظ المنتبه والسابح ضد التيار فيما
لم يتردد في التنديد بأي تقييد للإبداع أو حجر على حرية المبدع".
وإذا كان السؤال الكوني مازال يتردد بقوة: هل ينجح الشعر في تغيير العالم?! فإن الأبنودي
أحد الشعراء الكبار الذين قدموا إجابة لهذا السؤال الكبير وتمكن عبر شعره
بالفعل من تحقيق نوع من التغيير الإيجابي لدى المتلقي.
ومن نافلة القول إن الشعر يؤثر ويتأثر ويتفاعل مع بقية الفنون ولابد من انفتاحه على
جديد المشهد العالمي محتفظا بنسغه المصري دون تعصب مقيت أو شوفينية تحجب الحقائق
وبريئا من أصفاد وأغلال الانغلاق والظلامية ومتفاعلا مع حركة الشعب نحو أهدافه
الكبرى وواصلا بين المرئي واللامرئي وهو ما يمكن تلمسه بوضوح في قصائد عبد الرحمن
الأبنودي.
ولا جدال أن الأبنودي يجسد مقولات مثل أن الشعر كذروة من ذرى الفن ترياق مضاد لنزعة
التسليع وقيم السوق المتنامية في زمن العولمة كما أن القصيدة بجمالها الداخلي وجوهرها
المتفرد ما زالت تبرهن على قدرة المبدع الفرد بروحه الثرية ووهجه وتوهجه وحلمه
وطموحه وبصيرته في تحقيق القيمة المضافة إبداعيا وبصورة تتحدى الإنتاج النمطي
الجماعي فهى لاتستنسخ الكائن وإنما تحلق نحو ما ينبغي أن يكون.
ولم تخل مسيرة المبدع الكبير من تمرد على القبح والكوابح المتزمتة ليبرهن على أن الشعر
محاولة لا تنتهي للإجابة على سؤال الفن المتمرد على كل معيار وأمثولة وأنماط
وأحكام مسبقة والمنفلت من كل تحديد والمتحرر من كل الحدود إلا حدود الفن إن كان
للفن حدود!.
والقصيدة الأبنودية رد اعتبار للذات وسط زحام الكائنات وهى كذلك سعي إبداعي بحساسية
الشاعر الحق لتوليف صيغة تمزج بين التجربتين الفنية والإنسانية فتتناغم المتناقضات
وتتصالح الأضداد ويتوالى الجمال ضوءا ولونا وصوتا ورائحة وعبقا وغيوما وأصداء
وواقعا كالخيال وخيالا كالواقع!.
فقصيدة الأبنودي بجوهرها المتفرد كلمات ممسوسة بروح الشعب وقبس من روح مصر الخالدة
تجد طريقها لكل المصريين كما حدث في قصائد خالدة رددها رجل الشارع في سياقات تاريخية
لحركة الكفاح الوطني والنضال القومي والسعي الإنساني المشحون بالقلق الخلاق
للإجابة على أسئلة الوجود الكبرى.
ومصر التي تبكي الآن شاعرها الكبير ستبقى وفية لمعنى التغيير الإيجابي كفعل ومعنى
يدخل في باب الشعر وأسئلته ومن بينها السؤال الكوني الذي تردد ويتردد بقوة في طروحات
عديدة :"هل ينجح الشعر في تغيير العالم?".
وسيتوقف التاريخ الثقافي طويلا أمام هذا الشاعر الذي نسج من كلمات العامية المصرية
قصيدة تسهم في مستقبل أفضل لشعوب الأرض وهى مسألة تكتسب المزيد من الأهمية مع جدل
الحداثة ومدى أهمية الشعر للحياة الإنسانية وتجذره في القيمة الوجودية للإنسان.
وإبداعات الأبنودي تمزج في كثير من الأحيان بين الثقافي والسياسي وحظت بحضور متوهج
في ضمير أمته وشاركت في منعطفاتها وتحولاتها الكبرى بقدر ما آمن هذا الشاعر المصري
الكبير بأهمية الشعر في الحياة العربية ودوره في صياغة معنى جديد لهذه الحياة.
ومن هنا يمكن القول دون مبالغة أو غلو أن الأبنودي يشكل قامة شعرية كبيرة ستبقى خالدة
في أمة أنجبت شعراء كالمتنبي وأبو العلاء المعرى وأبو نواس وأحمد شوقي وأحمد
عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وأدونيس وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومحمود حسن
إسماعيل وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وممدوح عدوان وسميح القاسم.
ولئن ذهبت طروحات عديدة لأهمية أن يتحالف الشعر مع التفاصيل اليومية للحياة ورجل الشارع
دون أن يكون ذلك على حساب الجماليات التي تبقى الشعر شعرا فقد حقق الأبنودي
هذه المعادلة الصعبة وبرهن على أن الشاعر الحقيقي يبقى حيا في وجدان أمته..يمنح
مجدا للكلمة بقدر ما منحته المجد..يمنحها فرحة الحلم وشرفة رحبة على مستقبل يستكشف
مواطن الحق والخير والجمال..فهل هناك مجد أكثر من ذلك?!.
وإذا كان الأبنودي قد طلب من المصريين ألا ينسوه أبدا بعد رحيلك من الحياة الدنيا
فكيف للمصريين أن ينسوا "شاعر البيوت والغيطان" الذي ظل يحلم بالبيوت "كحبات الخرز"
وكيف لهم أن ينسوا "فاطمة قنديل" و"أحمد سماعين".
سلام على من قال "أماية وانت بترحي بالرحى على مفارق ضحى..وحدك وبتعددي على كل حاجة
حلوة مفقودة..متنسيش يامة في عدودة..عدودة من أقدم خيوط سودا في ثوب الحزن..وحطي
فيها اسم واحد مات".