القاهرة 16 ابريل 2015 الساعة 01:10 م
بعد قيام الاتحاد السوفيتى ،لم تختلط سينما روسيا القيصرية فى فترة ما قبل قيام الثورة الروسية بسينما الاتحاد السوفيتى .و على الرغم من أن الأفلام الناطقة باللغة الروسية كانت هى الغالبة على الانتاج السينمائى، الا أن الأفلام التى أنتجتها جمهوريات الاتحاد السوفيتى، شملت الكثير من عناصر اللغة و الثقافة و التاريخ ،المميزة لهذه الجمهوريات فى فترة ما قبل الثورة ،و ذلك على الرغم من أن هذه الجمهوريات كانت خاضعة للحكم السوفيتى، و سيطرة الحكومة المركزية فى موسكو .عندما طال التأميم صناعة السينما الروسية ،تم توجيهها من قبل أفكار و ايديولوجيات الحزب الشيوعى السوفيتى، الذى كان يطرح رؤى جديدة فى "الواقعية الاشتراكية "و هو الشكل السينمائى الذى كان مختلفا عن سينما ما قبل قيام الاتحاد السوفيتى .
فى عام 1917 تم تأسيس اولى مؤسسات الدولة فى قطاع السينما، و مع حركة التأميم صارت جميع استوديوهات السينما تدار بواسطة مؤسسة شاملة للسينما ،عرفت باسم " جوسكينز" و قد انشأت أول مدرسة للسينما فى العالم فى موسكو عام 1919 ،على يد المخرج " فلاديمير جاردن " و قد عرفت هذه المدرسة باسم "معهد الجمهوريات السوفيتية للسينما" و قد قام بالتدريس فى هذه المدرسة العريقة مشاهير المخرجين الروس أمثال " سيرجى ايزنشتين " ، " ميخائيل روم " ، " فيزفولود بودفكين " ، " اندريا تاركوفسكى " . و فى عام 2008 تحولت إلى أكاديمية باسم أكاديمية " جراسيموف " للسينما .
فى عام 1922 كان الحكم السوفيتى قد وطدت أركانه، و كانت السينما فى نظر الحكومة الجديدة هى الوسيلة المثلى للدعاية لنظام الحكم الجديد، بسبب شعبيتها الواسعة بين المواطنين، و قد أعلن لينين أن السينما هى أهم وسيط لتثقيف رجل الشارع ،و هو ما ردده من بعده خلفه " جوزيف ستالين. و لكن فى خلال الفترة ما بين الثورة الروسية، و نهاية الحرب العالمية الأولى 1915- 1919 ،كانت البنية التحتية و بالتالى صناعة السينما، قد تدهورت حتى باتت فى حالة من الشلل ، و كانت معظم دور العرض تقع بين موسكو و سانت بطرسبرج، و غالبيتها كان متوقف عن العمل ، بالاضافة الى أن الكثير من العاملين فى الحقل السينمائى، كالممثلين و المنتجين و المخرجين و عمال الاستوديوهات و غيرهم، قد فروا من روسيا أو انضموا إلى الجيش الروسى الذى عرف بالجيش الأحمر ، و لما لم يكن لدى الحكومة الروسية فائض يمكن منحه لصناعة السينما، لتدوير عجلة الانتاج من جديد، فقد اقتصر دور الدولة فى ذلك الوقت على وضع خطة الرقابة، بينما ترك ما تبقى من الصناعة فى أيدى منتجى القطاع الخاص .
كانت أول الأفلام التى عرضت فى ظل الحكم السوفيتى، هى الأفلام التى تم انتاجها سابقا فى روسيا القيصيرية، و التى روعى فى اختيارها للعرض من قبل الحكومة ،ألا تكون ضد مبادئ الثورة .و مما يدعو للسخرية أن أول فيلم تم عرضه فى روسيا الشيوعية هو فيلم دينى ،اسمه " الأب سيرجى " و الذى تم الانتهاء من تصويره فى الأسابيع الأخيرة قبل قيام الثورة، و لم يتم عرضه حتى ظهر على الشاشة فى عام 1918. بينما اقتصرت محاولات الحكومة السوفيتية فى ذلك الوقت من نضوب الموارد الذى سببته الحرب، على صنع الأفلام التعليمية التى تميزت بشكل أساسى بانها افلام دعائية معدة، لتنشيط المساهمة الجماهيرية فى اقرار الأنشطة السوفيتية و فى الوقت نفسه التعامل بصورة فعالة مع الأصوات المعارضة للنظام الجديد ، و هذه الأفلام القصيرة غالبا ما كانت تتميز ببساطة التصوير، و غالبا ما كان يرافقها نوع من المحاضرات أو الخطب لجماهير السينما .و قد تنقلت تلك الأفلام بين المدن و القرى لتلقين اهل الريف مبادئ النظام السوفيتى الجديد ،و انتشرت حتى فى القرى الصغيرة التى لم يسبق لها مشاهدة فيلم سينمائى .و كان هناك ما يشبه الجريدة السينمائية، التى كانت شكلا اساسيا فى السينما السوفيتية الوليدة ،و من أهم تلك الجرائد المصورة التى كانت ترصد أحداث الشارع الروسى بصفة شبه يومية " دزيجافيرتوف " ، " كينو برافدا " و التى استمرت فى الفترة ما بين 1922 -1925 و كانت لها شهرة كبيرة . و قد استخدم فيرتوف جريدته السينمائية، لعرض مذهب سينمائى جديد ولد مع الاتحاد السوفيتى هو " الواقعية الاشتراكية " ،و هو مذهب يروج للبروليتاريا و يدعو لانصاف الطبقات الكادحة .
رغم اهتمام الادارة السوفيتية بالسينما كوسيلة للدعاية و التثقيف ،الا أنه حتى ما يقرب من نهاية عام 1921 لم تكن هناك دار عرض واحدة عاملة بموسكو، حتى حدثت تلك الطفرة التى بدأت بعرض الأفلام القديمة و المشهورة من عصر ما قبل الثورة، مما أدى الى افتتاح دور العرض و تدفق الايرادات ،التى شجعت المنتجين على العودة الى الاستوديوهات مرة أخرى، فقد صار هناك دور عرض لتعرض بها افلامهم، و ساهم عدم وجود رقابة قوية على ما يتم عرضه فى ازدهار الصناعة بسرعة كبيرة ،و بحلول عام 1923 اضيفت أكثر من 80 دار عرض جديدة تم افتتاحها بالرغم من ارتفاع الضرائب على مبيعات التذاكر و ايجارات الأفلام .
رغم دوران عجلة الانتاج السينمائى مرة اخرى، الا أنه كان على منتجى الأفلام أن تتوائم أفلامهم ،و تتفق مع الفكر السوفيتى الجديد، لذلك فقد هيمن المخرجين و الكتاب الموالين للنظام على صناعة السينما ،و لما كان أولئك يحوزون ثقة الحكومة السوفيتية، فقد كيفوا أفلامهم كى تتفق و مبادئ الشيوعية و تحوز رضاء الحكومة .و لكن على الرغم من الصعاب التى واجهت السينما السوفيتية، التى نشات فى ظل نظام اجتماعى و سياسى جديد ،هو النظام الشيوعى الا انها تمكنت من انتاج أفلام متميزة، ففى عام 1925 حاز فيلم المخرج سيرجى ايزنشتين " البارجة بوتمكين " استحسانا واسعا من النقاد ،فالفيلم الذى كان يحوى خيالا سينمائيا واسعا،و كان يهدف الى الدعاية و تعديد مميزات البروليتاريا ،و لكن بالرغم من ذلك فان قادة الحزب الشيوعى وجدوا أنه من الصعب حصر ابداع السينمائيين فى المساحة التى يريدونها، من الدعاية للفكر الشيوعى، لأن أولئك المخرجين كانوا فى النهاية يستطيعون التملص من الرقابة ووضع نهايات مراوغة لأفلامهم تعبر عن وجهات نظرهم الحقيقية .
بعد وفاة ستالين الغامضة عام 1953، حصل صانعى الأفلام السوفييت على حرية تقديم ما يعتقدون أن جماهير السينما تطلبه سواء فى القصص أو الشخصيات ،و لكن فى كل الأحوال بقيت السينما فى قبضة الرقابة الحكومية ،فكانت تقوم بحذف أى مادة تجد فيها هجوما على سياسة الدولة ،و لكن فى أحيان نادرة كان مخرج الفيلم يستطيع اقناع الأجهزة الرقابية بان تلك الارهاصات التى تضمنها فيلمه ،لا تمثل هجوما على الحكومة ،فكان يسمح له بعرض فيلمه. و بالرغم من تحرير المفاهيم الاشتراكية للسماح بتنمية بشرية أفضل، الا أن الاشتراكية ظلت معصومة عن النقد فى مبادئها الأساسية ،بالاضافة الى أن درجة الحرية المعطاة للفنانين كانت تختلف من ادارة الى أخرى .و كمثال على هذا أن المخرج " يورى اوزيروف " قد صور الجزء الأول من فيلمه "التحرير" ،بعد تصوير الأجزاء الثلاثة اللاحقة عليه بعدة سنوات، فقد رفض المخرج أن يقلل من تصويره فى الفيلم، لجسامة أخطاء القيادة السوفيتية فى السنة الأولى للحرب العالمية الثانية ،و بدلا من ذلك انتظر عدة سنوات ليتمكن من تصوير ذلك الجزء بأمانة مهنية كاملة ، و كذلك الجزء الثانى من فيلم " ايفان الرهيب" للمخرج سيرجى ايزنشتين، تم الانتهاء من تصويره عام 1945 و لكن لم يتم عرضه حتى عام 1958 بعد وفاة ستالين .
رغم ما فرضه النظام الاشتراكى على السينما الروسية من قيود ، الا أنها قاومت تلك القيود فالابداع الفكرى الذى ميز الله به الانسان عن سائر مخلوقاته ،لا يمكن تقييده و حصره فالأفكار كالغاز الشائع لا يمكن قتلها أو حبسها ، لذلك كانت السينما الروسية صرحا فنيا عملاقا لا يقل عن السينما الأمريكية أو السينما المصرية فى عصرها الذهبى، و لكن ذلك بعد مشوار طويل من المعاناة و الابداع سارته السينما الروسية، لذلك فخليق بنا أن نتعرف على السينما الروسية من خلال أهم ممثليها و مخرجيها و منتجيها، بعد أن حجبتها السينما الأمريكية هى و غيرها من ثقافات العالم المتمدن من حولنا، و بعد أن هيمنت افلام الحركة الأمريكية على السوق السينمائى فى مصر ،و لم تترك لغيرها مجالا بسبب التدهور الثقافى، الذى عانى منه الشعب المصرى على مدى ثلاثة عقود مظلمة ، لذا دعونا نلقى الضوء حول انجازات السينما الروسية و جوائزها السينمائية و لكن لذلك حديث لاحق .